أدب وفن

الكتابة الإبداعيَّة (الحلقة الثَّانية) اللُّغة الإبداعِيَّة

د. وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

ثمَّة أهميَّة للتَّمييز بين إدراك أمرٍ ما، باعتباره حقيقة موجُودَةٍ، ومعرفة ذلك الأمر، باعتباره واقعاً مُحَدَّداً؛ بل لا بُدَّ من إدراكِ أنَّ ثمَّة فرقاً بين “الحقيقةِ المُدْرَكَة” و”الحقيقةِ المَوْجودَة”.[1] والفنَّانُ المُبْدِعُ، وإنْ انطلقَ مِن الواقِعِ، أو ما يُمكن تسميته بـ”الحقيقةِ المُدْرَكَةِ”؛ فهو يسعى، وباستمرارٍ، باتِّجاه “الحقيقةِ الموجودة”، ولكن غير المُدْرَكة، مُحوِّلاً إيَّاها إلى “حقيقة مُدْرَكةٍ”. فالإبداعُ يتحقَّق، من هذا المنظورِ، من خلال تشكُّلِ دائرةٍ متناميةٍ لاستنباطِ حقيقةٍ غير مُدرَكَةٍ أو واقعيَّة، مِن حقيقةٍ مُدْرَكَةٍ أو واقعيَّةٍ؛ ولتحويلِ هذه الحقيقةُ التي أصبحت مُدْرَكَة،  ولكن غير معروفة، إلى حقيقةٍ معروفةٍ؛ والسَّعي، من ثَمَّ، إلى استنباط حقيقةٍ جديدةٍ غير مُدْرَكَةٍ، من هذه التي صارت معروفةً؛ وهكذا دواليك.

       ولعلَّ في هذا الفهم لتنامي فاعليَّة هذا التَّمظهر الإشكاليِّ للُّغةِ، ما يُضيءُ على تشديد بومغارتن(Alexander Gottlieb Baumgarten) صاحب كتاب Reflections On Poetry، الذي صدر باللاَّتينيَّة سنة 1735، على ألاَّ يقتصر  الفنَّان في عمله على “محاكاة الطَّبيعة”، وإنَّما عليه أن يُضيف إلى الطَّبيعة.  يجب أن يُضيف الفنَّان إلى الحقيقة المُدْرَكَةِ عناصر من شعوره؛ وبذلك يعكس الفنانون، عبر عملهم، العمليَّة الإبداعيَّة للعالم.[2]

       إنَّ من أبرز ما يميِّز الإنسان عن سواه من المخلوقات، أنَّه باحث عن المعرفة. ولعلَّ هذه النَّزعة في الإنسان هي ما دَفَعَهُ لأن ينشد المعرفة، سواء في نفسه أو عند الآخرين، وأن يتفاعل مع الحياة والوجود من خلالها؛ وأن يكون، تالياً، مخلوقاً اجتماعيَّاً، أي مخلوقاً يعتمد على التَّوصيل والتَّواصل في تحقيق وجوده. ولعلَّ ممَّا يؤكِّد هذا التَّصوير، ما ذهب إليه آي. إى. ريتشاردز (I. A. Richards) من أنَّ الإنسان مُعتاد على التَّواصلِ منذُ طفولته.[3] ولمَّا كان الإنسانُ معتاداً على معاناة المعرفة، ممثَّلةً بالتَّواصل، منذ أن وُجِدَ؛ فإنَّه باتَ مُستعدَّاً، بالفِطرة، لاستقبالِ الكِتابَةِ الإبداعِيَّةِ، بوصفها مادَّةً معرفيَةً.

       إنَّ التَّواصل، كما التَّوصيل، في جوهرهما، فعلا اشتراكٍ بين عقولٍ، أو مستقبِلات لدلالاتٍ معرفيَّةٍ، سعياً إلى فهم خبرات معيَّنةٍ والتَّفاعل معها. وهذا الاشتراك يعني، فيما يعنيه، تَحَوُّلاً من الذَّاتيَّةِ والخصوصِّيةِ والفرديَّة، إلى الموضوعيَّةِ والعموميَّةِ والجَمْعِيَّةِ. وإذا ما أخذ المرءُ بعين الاعتبار أنَّ هذه الثَّلاث الأخيرة تتنافى ومنطلقات الفعل الإبداعيِّ، الذي يرتكز في وجوده على الذَّاتِيَّةِ والخصوصيَّةِ والفردِيَّةِ؛  فإنَّه يكتشفُ، بذا، التَّعارضَ الأوَّل المُكوِّنَ لهذا التَّمظهر الإشكاليِّ للٌُُّغة.

       من جهة ثانية، فإن التَّواصل والتَّوصيل يتحقَّقان عبر أداة ضرورية تُقَدَّمُ المعرفةُ من خلالها إلى الآخر؛  وتتشكَّل هذه الأداة عبر ما يمكن  التعريف عنه بأنه “لغة” التَّواصل والتوصيل، أو لغة التعبير. ولمَّا كان ما من مجال لأن تصل الكتابة الإبداعية من المُرسِل إلى المُسْتَقْبِل إلاَّ بتوفر أداة للتوصيل؛ أي بتوفر لغة معينة تؤلف العنصر المشترك بينهما، فإن هذا المجال عينه بات مُشَكِّلاً للتعارض الثاني المُؤَسِّس للتمظهر الإشكالي في اللغة عبر العلاقة بين الإبداع ومستقبله. وهذان التعارضان، ممثلان بالذاتية والموضوعية، يُشَكِّلان جوهر وجود هذا الأمر.

       يمكن فهم هذا التمظهر الإشكالي من خلال فهم عملية تَحَقُّقِ فاعليَّة اللغة. فاللغة تتحقق، عادة، عبر السعي إلى التوصيل؛ ولا يكون التوصيل إلا بتحقيق المُشْتَرَكِ بين المُرسِلِ والمُسْتَقْبِل.  وما تحقيق هذا “المُشْتَرَكِ” إلا فعل توليف؛ والتوليف ليس سوى دحض أو نفي لحقيقة الإبداع. وإذا ما كانت فاعلية اللغة تكمن في تَحَقُّقِ ممارسة الاشتراك بين طرفين: مُرسِلٌ ومُسْتَقْبِلٌ؛ فلا بد من أن يصطدم مُسْتَقْبِلُ الكتابة الإبداعية بجدار خصوصيتها، أو ما سبقت تسميته بسور محدوديتها، الذي لا يسمح بتوصيل الإبداع.

I. A. Richards

     إن عَمَلِيَّة تحقق فعلي التَّواصل والتَّوْصِيل، تشكل خروجا من الذاتي والخصوصي إلى المَوْضُعِيّ والجَمْعِيّ. ومن هنا يمكن القول إن غير المتواصَل معه هو، في الواقع، غير المعروف، أو المُتَشَكِّل، بلغة ما. هنا يبرز عامل أساس في التَّعامُل مع اللُّغَة؛ إذ كيف يمكن لفاقد لغة ما أن يتعامل مع الجوهر المعرفي الذي تمظهر بهذه اللُّغَة بالذات؟!

       لا بد من الإشارة، هاهنا، إلى أن كل وسيلة لِلْتَعْبير عن طريق اللُّغَة تحمل في ذاتها قوة جديدة، قوة إزاء الإنسان والطَّبيعة على حد سواء.[4] ولاشك أن هناك عَمَلِيَّة اكتشاف متصلة، لكنها اكتشاف “للواقع” لا “للحقيقة”. إنَّها اكتشاف للواقع الذي ينشأ بالعمل ومن خلاله، وباللُّغَة ومن خلالها.[5] من هنا يمكن القول أن لغة الكتابة الإبداعية ليست مجرَّد أداة لِلْتَعْبير عن واقع أو معرفة وحسب، بل هي أداة لاكتشاف حقائق جديدة من هذه المعرفة.[6] ولعل بالإمكان الحديث، هاهنا، عن وجهين لوجود اللُّغَة، أحدهما الوجود التعبيري للغة،  وثانيهما الوجود الاكتشافي للغة؛ أو ما يمكن الاصطلاح عليه، في مجال الدرس الإبداعي، على أنهما التشكُّل الظاهر للفعل الإبداعي، والمعرفة المتأتية من تأويل هذا التشكُّل.[7]

       بات على لغة الكتابة الإبداعيَّة، وبحكم ذاتيَّة وجودها، ألاّ  تُقَدِّمَ، بواسطة الوجود التَّعبيري للُّغة،  أي مجال للتَّواصل مع الآخرين. ولذا، فإن المعارف أو الحقائق  التي تحويها هذه اللُّغَة لا تتمكَّن، بصورة مبدئيَّة، من الوصول إلى الآخرين. لكن، ومن وجهة ثانية، فإن لدى اللُّغَة، وبحكم موضوعيَّة وجودها وقابليَّة هذا الوجود لمبدأ التَّأويل، أن تقدِّم مجال تواصل ووصول إلى الآخرين. ولعلَّ عبد القاهر  الجُرجاني يقف بين أولئك النُّقَّاد العرب الذين أشاروا إلى هذا الأمر في اعتباره “إنَّ الجملة  أبداً أسبق إلى النُّفوس من التَّفصيل”؛[8] ثمَّ في قوله “إنَّ الاشتراك في الصِّفة يقع مرَّة في نفسها وحقيقة جنسها، ومرَّة في حكم لها ومقتضى”.[9]  لابُدَّ، إذن، من كَسْرِ حِّد الذَّاتيِّ في لغة الوجود، والانتقال بهذه اللُّغَة من كونها لغة تعبير إلى كونها لغة كَشف.

       لا بدَّ للمُرسِل، والحال كذلك، من أن يعتمد لتحقيق فاعليَّة الكتابة الإبداعيَّة عبر التَّوْصِيل، أو ما يُمْكِنُ أَن يُشَكِّل البعد النَّفعي في هذا المجال، صِيَغَاً أو مفاهيم مشتركة بينه وبين المُسْتَقْبِل. ولا بد، هاهنا، من استغلال حقيقة أن “اللُّغَة ليست مجرد أداة لِلْتَعْبير عن حقيقة معروفة، وإنما أداة لاكتشاف حقيقة تبقى مجهولة حتى اللحظة”.[10]

       يبقى أن المُسْتَقْبِل، بات قادرا، بمقتضى التشكُّل الظاهر للفعل الإبداعي،  ومن المعرفة المتأتية من تأويل هذا التشكُّل، على الاغتراب عن الدلالات المألوفة من اللُّغَة متمثلة بالوجود المجرد للغة، إلى المعنى المتحقق من هذا الوجود متمثلا بالكتابة الإبداعية.

       صحيح إن المبدع قد لا يبدي اهتماما ظاهرا لتوصيل ما يبدعه، لكن لا بد من التأكيد على أن أي تَشَكُّلٍ فني، واستنادا إلى الأساس الجمالي لوجود كل ما هو فني،  ليس، وفي نهاية المطاف، سوى وجود توصيلي.[11] فالجمالي تعبيري، والتعبيري فني، والفني توصيلي؛ ولا بد، تاليا، من تأكيد أن المبدع لا يستطيع، إبَّان ممارسته للإبداع، إلاَّ أن يهجس، ولو في لا وعيه، بموضوع التَّوْصِيل.  فالمُسْتَقْبِل، بناء على هذا، قادرٌ على تلقي الإبداع وعلى التَّعامُل الإيجابي مع لغة الكتابة الإبداعية؛ كما أن لغة الكتابة الإبداعية: أداة لاكتشاف حقيقة المعرفة وواقعها.

       يعمل المُسْتَقْبِلُ، إذن، لاكتشاف طاقات النص الإبداعي باعتبار قدرة هذا النص على أن “يتلاءم مع الأفكار السائدة في وضع تاريخي مُحَدَّد، ومع مطامح هذا الوضع وحاجاته وآماله”.[12] وعلى المُسْتَقْبِل، قارئا عاديا كان أو ناقداً، أن يعي، وفي الوقت عينه، أن عمله ليس باتجاه النص الإبداعي لذاته، بقدر ما هو باتجاه القدرة الإبداعية الكامنة في النص. إنها تلك القدرة المعرفية التي تتمظهر من خلال اكتشاف طاقات اللُّغَة والموضوع، ويكون هذا الاكتشاف عبر الإشارة إلى ما هو حقيقي، لكن غير مُدرَكِ، وتحويله إلى واقعي، مُدْرَك؛  إي عبر النقل المستمر لما هو ذاتي إلى ما هو موضوعي. إن هذه القدرة الإبداعية ليست، في نهاية المطاف، إلاَّ قدرة معرفية تحتاج لمن يخرجها من عالم الوجود بالقوة إلى عالم الوجود بالفعل. وللقاريء، كما للناقد، أن يكون هذا المُخْرِج إذا ما سعى  إلى ذلك، على أن يكون هذا السَّعي عبر فهم الفن  وجودا قادرا على أن “يرفع الإنسان من التمزُّق والتَّشتت، إلى الوحدة والتكامل”؛ وعبر معرفة أن  “الفن يُمَكِّن الإنسان من فهم الواقع، وهو لا يساعده على تحمله فحسب، بل ويزيد من تصميمه على جعل هذا الواقع أكثر إنسانية وأكثر جدارة بالإنسان .. إن الفن نفسه جزء من الواقع الاجتماعي”.[13]

R. G. Collingwood

       إذا ما كان مُسْتَقْبِلُ الكتابة الإبداعية باحثا بامتياز عن الوجود المعرفي الإبداعي الذي يقدمه النص، فلا بد له من أن يأخذ بعين الاعتبار ما يراه بومغارتن من “أن القصيدة تكمل بمقدار ما يكمل فيها وضوح الإدراك،  فالقيمة الجمالية للقصيدة [ تبقى ] متناسبة مع حجم ما هو واضح منها مقارنا بحجم ما هو مُشَوَّش”.[14]  المُسْتَقْبِل، بذا، ساع موضوعي لاكتشاف النص الإبداعي في توفير المعرفة الجديدة. وهنا لا بد للمُسْتَقْبِلِ من أن يحدد منطلقاته عبر قول كولينغوود (R. G. Collingwood)، من أنَّ على الفن أن يُجَسِّدَ انفعالاً صادقاً، وأنَّ عليه أن ينقل هذا الانفعال إلى الآخرين. فالفنُّ، عند كولينغوود، وسيلة لنقل الانفعال مثلما العلوم هي وسيلة لنقل المفاهيم.[15]  ولا بد من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن التشديد في المنحى الانفعالي يتم على أمرين: الانفعال الذي يُعَبِّرُ عنه العمل الفني، والانفعال الذي ينقله العمل.[16]

       إن نقد الكتابة الإبداعيَّة، واستنادا إلى هذا الفهم، يعتبر مساهمة أساساً في نقل المعرفة المتولِّدة عن الإبداع الأدبيِّ، من حالة الوجود بالقوَّة إلى حالة الوجود بالفعل؛ أمَّا ناقد الكتابة الإبداعيَّة، وضمن هذا السِّياق، فمُسْتَوْعِبٌ بوعيٍّ لحركيَّة التَّحوُّل الحياتيِّ للوجود؛ ومحلِّلٌ ومفجِّرٌ موضوعيٌ للغِنى الكامِن في الكتابة الإبداعيَّة.

***

[1] – يُنْظَر: Princeton Encyc. P. 204

[2] – يُنْظَر: محمد الجندي، أطروحات جمالية، الطبعة الأولى، دمشق، 1985، ص 13

[3] – “..We are social beings and accustomed to communication from infancy”

يُنْظَر: I. A. Richards, Principles Of Literary Criticism, published by Routledge and Kegan paul, England, 1976, p. 17

[4] – فيشر، ضرورة.، ص 41

[5] – فيشر، ضرورة.، ص 25

[6] – القول لألكسندر فون همبولت (1769-1859)، وهو عالم ومستكشف ألماني أقام في باريس مدة طويلة ونشر فيها كتابا عن رحلاتته    في عشرين مجلدا. لمزيد من التفاصيل، يُنْظَر: : فيشر، ضرورة.، ص 35

[7] – يُنْظَر:  مروان فارس، عِلم الإبداع، منشورات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1990، ص 9-12

[8] – عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق السيد محمد رشيد رضا، منشورات دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، طبعة سنة 1978، صص 137-138

[9] – الجرجاني، أسرار.، ص 78

[10] – فيشر، ضرورة.، ص 35

[11] – “.. the arts are the supreme form of the communicative acitivity” ، يُنْظَر: I. A. RichardsmPrinciples., p. 17

[12] – فيشر، ضرورة.، ص 14

[13] – فيشر، ضرورة.، ص 61

[14] – الجندي، أطروحات.، ص 12

[15] – الجندي، لأطروحات.، ص  19

[16] – الجندي، أطروحات.، ص 20

*نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى