أدب وفن

القوافي” تحاور الشاعرة سارة الزين “

“القواقي ” تحاور الشاعرة سارة الزين

حوار / الشاعر عمر أبو الهيجاء

الحوار:
١- لكل مبدعة أو مبدع، نقطة احتراق أولى، تكون نافذة تأخذه إلى عالم الإبداع وخارطته، ماذا عن احتراقاتك الأولى؟

كيفَ لي أن أحصيها ورمادي إلى الآنَ يدور حولها من دون كلَلٍ أو ارتواء؟!
أكادُ أدمنها حدَّ الكفر بعامل الوقتِ والبدايات!
متى؟ كيف؟ وأين؟
لعلّي عرفتها من قبل أن أولد.. فعالم الشعر والرواية هذا ممسوسٌ حدَّ الرهبة! شعوذاته تهيّئُ طينةَ الشاعر قبل ميلاده.. تعجنها بأنامل من سطوةٍ وشغف!
وعند الولادةِ.. تبدأ الغربةُ ويبدأ النزف!
الكتابة أشبه بموتٍ وَلود.. لا يحلو إلا بالزّفرات!
فكيفَ لي أن أحصيَ موتي الذي يتجدّدُ مع كلّ نصٍّ وهمهمة؟!
وبما أنّ “الشاعر يولدُ من رحم أمّه شاعرًا” كما قال الشاعر الإسبانيّ “ميغيل دي سرفانتيس”، فإنّ احتراقه الأوّل بدأ عند خروجه من تلك الرحم، وهذا ما يؤكّده ابن العربي: “كانت الأرحامُ أوطاننا.. فاغتربنا عنها بالولادة!”.

٢ – سارة الزين شاعرة وروائية من الجنوب اللبناني، بدأت الكتابة وأنت في سن مبكرة، أين تجدين نفسك في هذين الشكلين الإبداعيين؟

لا يهمّ تحت سطوة أيِّ شكلٍ منهما أقع.. أجد نفسي في الكتابة عمومًا.. وحدها الكتابة هي الآلهة المقدّسة التي تحتاجُ إلى قرابين كثيرة كي ترضى، والجوعُ فيها لا حدودَ له! هيَ وحشٌ ينمو تحت جلدِ الأديبِ ومخدِّرٌ يبعثُ على الإدمانِ والهستيريا!
كتبتُ الرواية أوّلًا، ولم يكن عمري يتجاوز الثالثة عشر عندما أتممتُ عملي الأوّل “شعاعٌ في الليل الحالك”، ووقّعته في معرض الكتاب في البيال-بيروت، أحدّثك عن شيء حصل من عشرين عامًا.
وقد قلت في مقابلة سابقة لي حول المفاضلة بين الشعر والرواية إنَّ الأمر صعبٌ وخطير، منذ فترة اعتزلت كلّ شيء وعشت بضعة أيّام أكتب فيها روايتي الجديدة، أعيش فيها علاقة توحّد مع الأبطال والشخوص والأحداث، أدخل سجني الانفراديّ طوعًا وشوقًا، وكنت أراقب الشعر من بعيد يتلصّص عليّ بثوبه الملكيّ من حين الى آخر، يدعوني إليه… وكنت على مسافة جنونٍ وحرفٍ منه… أنظر إليه وهو يمدّ حباله مستمسكًا باللاوعي المنسوج بالشوق واللهفة كي يلج عالمي
ويتنصت على زفراتي وخيانتي له مع الرواية ولكني لم أعطه وقتها إذن العبور… فقد أحكمت الرواية قبضتها عليّ في تلك الفترة… وبعد أن انتهيت من الكتابة، تمنّع عنّي الشعر طويلًا، لم تكن استمالته من جديدٍ سهلة، تطلّب الأمر منّي نزفًا ووجعًا وتعبًا كي أرضيه…
أعترف أنّي أعشق الشعر وأدمن متعة المخاض الذي أعيشه قبل كلِّ ولادةٍ للقصيدة.. ولكنّ الرواية عالمٌ خطيرٌ وفتّاك، سحرٌ خاص، شيءٌ من شعوذات “يوسّا”، مع جموح “مورافيا”، وجنون “كازانتزاكيس”… خلطةٌ لا يشبهها شيء… نارٌ لا يمسّها الرماد.

٣- كشاعرة ومن مبادرة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي حاكم الشارقة، كيف تقرئين مبادرته بإنشاء بيوت للشعر في الوطن العربي؟

إنّ في حعبتنا من الشتاتِ والغربة والتمزّق ما ينوء بحمله الشعر! فكيفَ لمدينةٍ أن تنحتَ ضوءها على عتمتنا لتوقظَ الأمان والدفء والشغف من جديد؟!
عندما عدتُ من زيارتي لبيت الشعر في الشارقة قلتُ إنّ معي ما يكفي لأزرع جنّةً من قصيدتين وشارقة! تلك المدينة التي لا تغفو إلا على تسابيح الحرف ومزامير الشعر وثقافة الإنسان والقرآن.. فيربو الحلم على زواياها ليتّخذَ من تكاياها بيتًا يؤوي شعراءه!
اللافت أنّ هذا البيت أصبح محجّة للشعر والشعراء.. ليس من السهل أن تحمل همّ الثقافة والحرف والأصالة والوعي في زمنٍ كثرت فيه السطحية وساد فيه الابتذال وغلبت عليه المادّة وتحكّمت به الآلة والتكنولوجيا. أن تسعى الى بناء مجتمعٍ مثقّفٍ وذوّاقٍ واعٍ يجمعه الأدب وتشدّ أواصره اللغة لهو حلمُ الأحرار.. وقد بدأت تلوح تباشيره من خلال هذه النهضة اللافتة والمبادرة العالية من قبل حاكم الشارقة الدكتور سلطان القاسمي في إنشاء بيوتٍ للشعر في الوطن العربي هي فسحة شهيقٍ وأملٍ وحياةٍ في ظلِّ اختناقِ شرفاتنا الضيّقة!
هذه النافذة هي التي ستفتح معابر من وعيٍ وثقافةٍ على مدِّ الوجع والأوطان.. وستعيدُ للشعر عرشهُ وسلطنته.. وستشرع الأبواب ليدخل إليها كلُّ المتعبين..! عسى أن يكون هناك بيت شعر في لبنان قريبًا.

٤- القارئ لتجربتك الشعرية، يلمس في أجوائها القلق الوجوديّ الدائم والانشغال به وبأسئلته وهذا أيضا متمثل في أعمالك الروائية، شؤون المرأة وأسئلتها المشروعة، ماذا يقلق سارة الزين؟

هذا السؤال بحدِّ ذاته مقلق!
لعلّه الشعر! مذ عرفتُ أنّه مهلكي وأنّ حتفي بين رويٍّ وقافية شكّلَ عندي لونَ القلق بألوانه القاتمة.. يتآكلني أرقًا بعد أرق!
ما هو الشعر؟ نزقٌ أم ترفٌ أم فلسفةٌ ووجود؟ وكيف للشعر أن يخدم جوهر الإنسانية؟
“لايوجد جهازٌ عصبيٌّ يتحمّلُ كلّ هذا القلق” كما قال الأديب المصري “أحمد توفيق”.
نحن ننزف أرقنا وقلقنا من محابرنا ومحاجرنا على الورق كلّ يوم، تظهر القصيدةُ عروسًا من دونِ سوءٍ أو خدشٍ.. وهي تخفي تحت فستانها ما تراكم من تعبٍ ونحت! لكنّها سرعان ما تتعرّى أمام القارئ والمثقّف الحقيقي.. وحده هذا الأخير يسبر أغوارها ويُبصر مجازًا جيشَ القلق المخيف!

٥- الشعر والرواية، يقال بأن الشاعر المتميز سرده متميزٌ، برأيك ما العلاقة بين السرد الشعري والسرد الروائي؟

إنّ الشعر والسرد مختلفان ومتداخلان في آن واحد… كثيرًا ما أَعمدُ إلى إدخال السرد في قصائدي التفعيلية، وكذلك لا بدّ من أن يظهر شيء من الشاعرية في الرواية والسرد.
اللغة الشعريّة بما تحمله من جمالٍ وإحساسٍ وبلاغة ورمزيّة، تضيفُ الكثير الى الروائيّ. الأمر شبيه بطبق طعام من دون منكّهات… من دون لذّة! اللذة تكمن في شاعرية النص! في قدرة الكاتب على تطويع الحرف والفكرة بطريقة إبداعية، والأمر دقيق جدًا، فإذا كثرت المنكّهات والبهارات فسدت الطبخة! وإذا كانت قليلة كان الطبق باهت الطعم! لا يجب على الشاعرية أن تطغى وتخدش تقنيات السرد الروائي، الأمر يحتاج إذن الى دربة وشغف شعري ممزوج بحرفية سردية، للوصول الى ذلك النغم الضائع عند كلّ الكتّاب والشعراء.

٦- الرواية لها عالمها الخاص المتخيّل الممتلئ بالتفاصيل، عالم مدهش، والشعر يمسُّ الكائنات، هل الشعر وسيط جمالي للرواية؟

إنّ الشعر من ركائزه التكثيف والصور، وتتحكّم به قواعد كثيرة وقوافٍ وأوزان وبحور عديدة، أمّا الرواية فعالمها أكثر تحرّرًا واتساعًا.. لا حدود لها ولا تأطير.. تستطيع التحليق فيها بكلّ أنواع الأجنحة المتوفّرة، وهي تعيش على التفاصيل المهملة. لكنّهما عالمان يلتقيان عند نقطة الجنون والعبقرية! فالشعر يهبُ الرواية جسدًا جميلًا منحوتًا بإزميلٍ من سحرٍ وأناقةِ تصوير.
والرواية تهب القصيدة نفَسًا جديدًا مجبولًا بالدّقةِ والانسيابية!

٧- النقد والإبداع، يلاحظ أن العملية النقدية لم تواكب التجربة الإبداعية وبقيت تراوح مكانها، برأيك ما مدى صحة هذا الطرح، وهل أنصف النقد تجربتك؟

“النقدُ هو شيءٌ رفيعٌ وسامٍ لا يستحقّه إلا العباقرة”.. مقولة للرسام الإسباني العالمي “سلفادور دالي”.
إنّ العملَ الإبداعيّ هو أصل وجود النقد الأدبيّ. والأدبُ الإنشائيُّ -كما قال طه حسين- هو القاعدة التي يرتكز عليها الأدب الوصفي والذي يقوم على دراسات نقدية للعمل الإبداعي.
“النقد هو حاملٌ أمينٌ لكلّ مواريث التاريخ، ولكلّ ملامح الحاضر، ولكلّ عوامل تشكيل المستقبل” كما وصفه الأديب والكاتب المصري “أمين مرسي”. لذلك فإنّ وجوده ليس فقط ضرورة، بل هو حاجة ملحّة نستطيع من خلالها الحفاظ على الإرث القديم وترسيخ معالم النهضة والحداثة والحركة الأدبية المعاصرة.
هناك الكثير من النقاد في العالم العربي ممن قدّموا للأدب نتاجًا غزيرًا ومهمًّا أمثال د. يمنى العيد وهي أوّل من طبّق المنهج البنيوي في الأعمال الأدبية العربية لروائيين وشعراء من مختلف العالم العربي، ولدينا محمد مندور وصلاح فضل وسعيد يقطين وجابر عصفور وغيرهم.
نعم، الحركة النقدية العربية لم تتخذ بعد شكلًا مكتملًا ومستقلًّا عن المناهج الغربية الموضوعة والمسقطة إسقاطًا مجحفًا أحيانًا على بعض النتاجات الإبداعية، ولكنّ عجلتها -على الرغم من بطء الحركة- لن تتوقّف أبدًا ما دام هناك أعمال إبداعية.
أمّا عن الشقِّ الثاني من السؤال، ما زلنا في أوّل المشوار، لا نستطيع أن نحكم من الآن، ولكنّ بعض أعمالي حاز عناية بعض النقّاد اللبنانيين والعرب. وقد تحدّث أمين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين الأديب والشاعر “غسان مطر” عن روايتي الثالثة بإسهابٍ وتمحيص، وكذلك كتب الناقد العراقي “غازي أبو طبيخ الموسوي” عن بعض قصائدي الشعرية في كتابه الأخير “سلسلة آفاق نقدية” وتناولها بدراسة نقدية وغيرهم…
ولا ننسى أن “الرواية ضربٌ من التفسير وضربٌ من النقد” كما يقول الناقد السعودي “عبدالله الغذامي”. أحيانًا يكون العمل بحدِّ ذاته شاهدًا على نفسه ومخلّدًا لذاته.. والزمن وحده الغربال.. وأمّا الزبدُ فيذهبُ جفاءً..!

٨-هل ثمة طقوس لديك للكتابة الشعرية.. وما هي هذه الطقوس؟

للشعرِ أرواحٌ تطوفُ وتخشعُ..
وملائكٌ عندَ التجلّي رُكّعُ..
وسجينةٌ خلفَ الحروفِ هلاكُها
ثَمِلٌ تأمُّلها.. يريكَ فَتُخدَعُ
هو نوعٌ من التصوّفِ والتجلّي.. أن تدور حول القصيدة المشتهاةِ دوران الدرويش الناسك.. تختلفُ عادةً الطقوس باختلاف الحالة التي يعيشها الشاعر، فكثيرًا ما تراودنا القصيدة فتهبط على قلوبنا بلحظة كشف! وكثيرًا ما نحاولها وننزف أيّامًا ولياليَ حتى نكتب بيتًا واحدًا! الشعر أشبه بامرأةٍ غريبة الأطوارِ، صعبة المراس، نهمة، تكره الملل وتبحث عن جموحٍ غير مسبوق، تزهر كلّما نزف مُريدها بين يديها طمعًا بها وسعيًا إليها.. لذلك فإنَّ إرضاءها صعب، وهذا سبب من أسباب الصعود والهبوط في القصائد عند الشاعر نفسه! فالشعر امرأة مزاجية، تناديك ثمّ تتمنّع، هي سرابٌ يحسبه الظمآن ماءً.. تعيش على التجديد والخيال المطلق ولا تهب الأمان لوارديها أبدًا.

٩-شاركت بأمسيات وملتقيات ومهرجانات شعرية لبنانية وعربية كيف ترين وتقيمين مشاركتك محليًّا وعربيًّا وماذا أضافت لك كمبدعة؟

الأمسيات والملتقيات والمهرجانات تشكّل بوابة تبادلٍ ثقافيٍّ وفكريٍّ مهمٍّ جدًا. لا يمكن للشاعر أن يطوّر تجربته من دون الاحتكاك بتجارب الآخرين وثقافاتهم ورؤيتهم الشعرية والإبداعية. يُقال إنّ مذاكرة الرجال تلقّح الألباب، فكيف إذا كان الحال مع مبدعين يأتون من مختلف الأمصار والخلفيّات والانتماءات؟! إنّ مثل هذه اللقاءات تفتح الآفاق نحو رؤىً تجديديّة وثقافة تجمع الشعراء تحت مظلّة الشعر والإنسانية وتثري تجربة الشاعر بكلّ ما تكتنزه من معارف وتبادلٍ فكريّ يتيح للشاعر اكتشاف ذاته أوّلًا وسط هذه التجارب المتنوّعة، وتحفّزه ثانيًا على الإبداع وتحدّي الذات وتغيير الكثير من المفاهيم والنظريّات، فثبات الأفكار إهانة للمثقّف كما يقول “أدونيس”.
وبما أنّ أرق القصيدة والبناء الشعريّ يشغلان وجدان أغلب الشعراء الحقيقيين الذين يسعون الى الخروج من المألوف والقديم من دون الخروج عن الأصالة واللغة، فإن مثل هذه اللقاءات تعيد إحياء النظريات القديمة فتضعها تحت مبضع التشريح والتقييم فينظر الشعراء في تجاربهم وفي الفرق بين الجديد والحديث وبين الأصالة والوضوح من جهة والطلاسم والإبهام من جهة أخرى، “فالشعر هو نقيض الوضوح الذي يجعل من القصيدة سطحًا بلا عمق والشعر كذلك هو نقيض الإبهام الذي يجعلُ من القصيدة كهفًا مغلقًا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى