أدب وفن

من حِكايات المدرسة الإبتدائيِّة: الأستاذ «عبد الرزاق صالح» (الحلقة الثانية)

الدكتور وجيه فانوس

لئن كان عاليَّة المدارس في لبنان، تشهدُ اهتماماً واسعاً بتعزيز وسائط التَّعلِيم وأدواتِهِ؛ فإنَّ كثيراً مِن هذه المدارس ما برح يُعاني مِن نقصٍ كبيرٍ، وربَّما فاضِحٍ، في الاهتمامِ بالتَّربية. العِبْرَةُ ليست، ههنا، في وَفْرَةِ الوسائطِ التِّقَنِيَّةِ العصريَّة، تَجْهَدُ إدارةُ المدرسةِ في تأمين أثمانها لِوضعِها في قاعات الدَّرس؛ وهي، أيضاً، ليست في ما تَعْمَدُ إداراتُ كثيرٍ مِن المدارس إلى تأمينه لتلاميذها من ضخامةِ مكتبةٍ، أو فخامةِ وسائلِ نَقلٍ، أو أناقة في قِيافَةِ أفرادِ الهيئة التَّعلِيميَّة والتَّلاميذ. كلُّ هذا، على كَثرته، وارتفاعِ كلفته، وأهميَّة استخدامه في تحصيل تعليمٍ جيِّد؛ لا يمكن أن يساهم، ولو قيد أُنملةٍ، في تأمين تربية حقيقيَّةٍ فاعِلَةٍ؛ في بِناءِ الإنسان وتنمية وجودِهِ. ومهما تعاظم التَّعلِيم؛ فلا يمكن أن يكَّون فاعلاً إيجابِيَّاً في حياة النَّاس، إذا ما خَسِرَ التَّربية أو شوَّهها أو فَقَدها؛ إذ، وكيفما دار الأمر، لا يمكنُ للتَّعليمِ أنْ يعدو كَوْنَه وسيلةً وليس غاية. أمَّا التَّربية، فهي، في نهاية المطاف، الهدفُ الحقيقيُّ الذي يَنْهَدُ التَّعلِيم إلى الوصولِ إليه؛ بل هي الغايةُ الحقيقيَّةُ مِن وجودِ المدرسةِ وكلِّ ما يتفرَّع عنها من مؤسَّساتٍ ومفاهيم.

وإذا ما كان من حديثٍ عن التَّربية، فلا بدَّ، والحال كذلك، من تأكيد على أساسيَّة وجود المعلّم في هذا المجال. وإذا ما كان للتَّعليم أن يشكَّل الأرضَ التي يُزرع فيها البذار، وإذا ما كان للتِّلميذ أن يكون البذرة التي يسعى المجتمع، مُمَثَّلاً بالمدرسة، إلى زرعها في تلك الأرض؛ فإنَّه لا يمكن للمُعلِّم إلاَّ أن يكون ذلك الزَّارع الذي يحمل مسؤوليَّة تحديد موسِمِ الزَّرعِ وتوقيتِهِ، واختيار المكان الملائم له، وانتقاء الأجواء المناسبة للقيام به؛ كما أنَّه مَن يحمل أمانة مهمَّة العناية بذلك الزَّرع، وتوخِّي الشُّروط، المناسبة لِنُمُوِّه وارتفاع ساقه؛ فلا يـأتي موسم الحصاد، إلاَّ وتكون تلكَ البذرة وقد صارت نبتةً وارفةَ الظِّلال، كثيرةَ الغِلال، كامِلةَ التَّناسقِ فيما بينها وبين محيطها.

عُرِفْتُ بين النَّاس بأنَّي أهتمًّ لِلُّغةِ العربيَّةِ وآدابها؛ فهذا هو التَّخصُّص الذي صرفتُ فيه سنين طويلة من عمري. لقد قُدِّرَ لي أن أحصِّل، عن طريقِ هذا الاختصاصِ، رُتبةَ الدكتوراه العلميَّة من واحدةٍ من أكثر المؤسَّساتِ الأكَّاديميَّةِ عراقةً في العالم، هي «جامعة أكسفورد» في بريطانيا. وكان لي أن أحصَلَ، بهذا الاختصاصِ، وبشهادةِ الرُّتبةِ التي نلتها من تلك الجامعة، على منصبٍ جامعيٍّ وعملٍ أكاديميِّ، هما مصدر رِزقي ومجال اعتزازي. إنَّهُ الاختصاصُ الذي أعطى حياتيَ طابعها الخاص؛ كما أعطى، وجودي في المجتمعِ الذي أعيشُ ضمنه، وفي البيئة التي انطلقتُ منها، فاعليَّةً ما زِلتُ أعيشُ فرحَ تحقيقها، وأَشْرُفُ بِما قد أُلاقِيهِ من نجاحاتٍ في سعي إليها.

بدأتْ الحكايةُ، سنة 1957، مع مجموعةٍ مِنَ المعلِّمين، ممَّن كان لي أن أكون تلميذاً لهم، في مدرسة عثمان ذي النورين، التَّابعة لـ «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»؛ وهي المدرسة التي ما برحتُ، ورفاقُ العمر من تلاميذها، نُطلِقُ عليها اسم «الزَّنُّورين». كنتُ، عهد ذاك، تلميذاً في الصَّف الثَّالث الابتدائيِّ، ولم أكن تجاوزتُ الثَّامنةَ من سِنِيِّ عمري؛ ولا أذكر أنِّي كنتُ أعلم عن ذاتي أيَّ أمرٍ معرِفِيٍّ أختَلِفُ بِهِ عن أترابي. كنَّا في ذلك الصَّف، نسعى جاهدين إلى تحقيق قدرٍ لا بأس به من الانطلاق وحُبِّ المُشاكَسَةِ والمُشاغَبَةِ، أكانَ هذا في قاعة الدَّرس أو في ملعب المدرسة. وظلَّ الحالُ كذلك، الى أن طلب منَّا أستاذ اللُّغة العربيَّة، الأستاذ «عبد الرزَّاق صالِح»، الذي أصبح فيما بعد، مِنْ أهلِ الفنِّ التَّشكيليِّ، رسَّاماً وخَطَّاطاُ، ومِنْ أشهر قارئي القرآنِ الكريم في لُبنان، أنْ نَكْتُبَ، ونحنُ في قاعة الدَّرس، في ما كان يُسَمَّى تعليميَّاً بـ «الإنشاء الصَّفِّي»؛ موضوعاً عن رحلةٍ قامَ بها كلُّ واحدٍ مِنَّا، صُحْبَةَ عائلَتِه، لزيارةِ مدينة «بَعَلْبَك» في البقاعِ اللُّبنانيِّ، والتَّعرُّفِ على قَلْعَتِها وما فيها مِنْ معالم سياحيَّة.

لَمْ يَكُن لي، بوفاةِ والدي قبل سنين عديدةٍ، من عائلةٍ، سوى والدتي، وقد ثكلها الدَّهرُ فجأةً بزوجها الشَّاب، ولم يُبْقِ لها من دُنياها إلاَّي. وطبعاً، ولماَّ كنتُ الولدَ الوحيدَ، فلم يكن عندي أخوة أو أخوات؛ وبسببٍ مِنَ العُسرِ الماديِّ الذي كُنَّا نعانيه، إثر وفاة والدي، فلم يكن لدينا سيَّارة؛ وحُكماً فإنِّني لم أكن ممَّن يذهبون في رحلاتٍ عائليَّةٍ، لا إلى «بعلبك» ولا إلى سواها. ما كنتُ أعرفُ من «بعلبك»، في ذلك العمر، سوى أشباحَ ذِكرى عن قلعتها، يوم اصطحبني إليها، وأنا في الخامِسَةِ من عمري، ومن باب العطفِ والحنانِ، أحد أقربائي. كانَ هذا هو الواقعُ، أمَّا في موضوعِ الإنشاءِ، الذي كتَبْتُ، فالأمرُ كان مُختلفاً إلى درجةٍ هائِلةٍ. واليوم، وعندما أعيدُ النَّظرَ إلى تلكَ الحادثةِ، فإنِّي واثقٌ مِن أنَّ كتابتي لذلكَ الموضوع، لم تكن إلاَّ ممارسةَ إسقاطٍ نفسيٍّ وفِعْلَ تفجيرٍ لانتصارٍ ذاتيٍّ غير واعٍ، عَبْرَ الكلمةِ المكتوبةِ، على كثيرٍ مِمَّا كُنْتُ أُعاينهِ مِن شَظَفِ عَيْشٍ وأعانيهِ مِن حرمانٍ نفسيٍّ، وما يرافقهما مِنْ بؤسٍ وكَبْتٍ وقَهر.

كانت لي، في الموضوعِ الذي كتبتُ، رحلةٌ عائليَّةٌ رائعةٌ، انْحَشَرتُ فيها، مع إخوتي وأخواتي الكُثُر، في سيَّارة والدنا الحمراء؛ وقد جلسَتْ بِقربِه والدتُنا، سعيدةً فرحةً وفخورةً بنا وبه. كَتَبْتُ أنَّ السيَّارةَ انطلقت بنا، «تّنْهّبُ الأرضَ نَهْباً»؛ ولا أدري لِمَ ما زلتُ أذكرُ هذا التَّعبير حتَّى اللَّحظة، حتَّى وصلنا إلى «سهلِ البقاعِ»، حيثُ كانتِ «الغزالةُ تطلُّ علينا مِن وراءِ السُّحُبِ»؛ وهذا أيضاً وصفٌ كتبتهُ لشروقِ الشَّمس ما زلتُ أذكرُه، وإن كُنتُ، للآن، لا أعرفُ مِن أينَ أتيتُ بِه أو كيفَ وَرَدَ إلى خاطري.

كتبتُ كلَّ هذا في قاعة الدَّرسِ، وبحضور الأستاذ «عبد الرزَّاق صالِح»، الذي كان يراقب كتابتنا لموضوع الإنشاء هذا؛ وكنتُ أظنُّ نفسي قد كتبتُ كما كتبَ سواي من التَّلاميذ، بل لم أكن أتوقَّع من كتاباتي أيَّ أمرٍ ذي بال.

لَمْ يَمْضِ أسبوعٌ، حتَّى دخلَ الأستاذ قاعة الدَّرسِ ومعه أوراقُ الامتحان؛ بعد أن قام بتصحيحها، وإعطائها العلامات التي تستحق. بدأ الأستاذ «عبد الرزَّاق» يوزَّع المسابقات على التَّلاميذ، وكان يقدِّم لكلِّ واحد منهم مسابقته، مشفوعةً بملاحظاتٍ معيَّنةٍ عمَّا قام به، أو مصحوبةً بعباراتِ التَّشجيعِ المعتادة. حصلَ كلُّ تلاميذ الصَّفِّ على مسابقاتهم، ٍوعرف كلُّ واحدٍ منهم علامته، إلاَّ أنا. كنت أراقبُ الأستاذ «عبد الرزَّاق»، بترقُّبٍ، وهو يوزِّع المسابقات، ويدور بأوراقها على أصحابها، ذاكراً أسماءهم؛ لكنَّه لَمْ يلفظ اسمي، ولَمْ أحصلْ على ورقتي. ظلَّ الأستاذ «عبد الرزَّاق» مُحتفظاً بورقتي حتَّى النِّهاية؛ بل عاد إلى طاولته من غير أن يُعطيني إيَّاها. أحسَّستُ بغصَّةٍ تلتهم حنجرتي، وشعرتُ بحرارة تنتشر في وجنتيَّ، وكادت «لفتةٌ» صاعقةٌ من زميلي، الجالس بقربي، تقتلني؛ إذ همسَ لي قائلاً «هَيْأْتَكْ طلُعتْ الطُّشْ»! و«الطُّشُّ»، بِمَحْكِيَّتِنا المدرسيَّة، آخرُ تلاميذِ الصَّفِ مكانةً وأسوأ ناسه في التَّحصيل المعرفيّ.

لَمْ أدرِ، وأنا في خِضمِّ ذلك الذُّهول المُضني، إلاَّ والأستاذ «عبد الرزَّاق» يطلب منِّي أن أغادر مقعدي، وأقف في صدرِ القاعَةِ مواجهاً لرفاقي. امتثلتُ، صاغراً، لأمر الأستاذ «عبد الرزَّاق» ؛ بيد أنِّي لم ألبث أنْ سمعته مخاطباً التَّلاميذ بقولِه «سوف تسمعون الآن ما كتبه رفيقكم؛ لقد كتب موضوعاً عظيماً، كتب قصة حلوة فيها تعابير جميلة وخيال واسع».

طلب مني الأستاذ أنْ أتلو، أمام رفاقي، ما كنت كتبته في تلك المسابقة. تَلَوْتُ، وتلعثمت في تلاوتي، بل ما كنت أعي ما كنتُ أتلوه؛ لكنِّي كنتُ أحسٍ بأمرٍ خطيرٍ يدور في داخلي. كان جديداً عليَّ أنْ أقرأ أمام جمعٍ من النَّاس؛ وكان جديداً أن يسمع رفاقي منِّي حكايةً، يعرفون جميعهم أنَّها لم تحصل معي، بل لا يمكن أن تحصل؛ وها أنا أتلوها عليهم، بعد أن كتبتها لموضوع الإنشاء، على أنها حصلت بالفعل. وما أن انتهيت من تلاوةِ ما كَتَبْتُ، حتَّى صفَّق لي الأستاذ «عبد الرزَّاق صالِح» إعجاباً، وفعلَ مثله، وبتوجيهٍ منه، رفاقُ الصَّفِّ جميعاً. ولم يكن من الأستاذ «عبد الرزَّاق صالِح»، إلاًّ أن اقتربَ منِّي، ثمَّ أمسك بكتفي، وقال لي، أمام رفاق الصَّفِّ، «يبدو أنَّك شاطرٌ بالعربي، موضوعك ممتاز، كتبتَ قصَّة حلوة، يجب أن تتابع». وبعد يومين يدخل النَّاظر، الأستاذ محمَّد المصري، ويسلِّمني، أمام أبناء صفِّي، «بطاقة امتياز» مذَّهَّبةٍ لتفوُّقي في اللُّغة العربيَّة في الصَّفِّ الثَّالث الابتدائي. وهكذا، بدأتُ أعرف أنَّ ثمَّة مقدرة لديَّ على التَّعبيرِ باللُّغة العربيَّة بيُسْرٍ وطلاقةٍ وبخيالٍ رحب. وبدأ رفاق صفِّي يعاملوني على أنِّي المتفوِّق في اللُّغة العربيَّة. انتشر الخبر، بين زملائنا، في الصُّفوف الأخرى؛ وكان هذا يضعني، من غير أن أعي، أمام مسؤوليَّات جديدة، إذ لا بُدَّ من الاستمرار في نَيْلِ إعجابِ الأستاذ «عبد الرزَّاق» ، ولا بد من متابعة العمل للحصول على «بطاقة امتياز» جديدة؛ خاصَّةً وأنَّ البطاقة، التي حصلتُ عليها، كانت قد وجدت طريقها، ضمن إطار خشبي مُذهَّب، إلى صدر قاعة الاستقبال في بيتنا، وكانت فرحة كبرى لوالدتي.

هكذا بدأتْ زراعة بذرة توجُّهي إلى الاهتمام بدرس اللُّغة العربيَّة؛ صرتُ أكتشفُ أنَّ لديَّ مقدرة على التَّفوُّق في مجالات التَّعبير بهذه اللُّغة، وبِتُّ أحصلُ على اعتراف من رفاقي ومدرستي بهذه الأمور، وانطلقَ تشجيعُ العائلة والمعارف لي في هذا الشَّأن. لقد استطاع الأستاذ «عبد الرزَّاق صالِح» أن يكشف لي، بتشجيعه التَّربويِّ، عن واحد من جوانب وجودي كان مخفياً عنِّي؛ وهكذا قدر هذا المعلِّم أن يؤكِّد هذا الواقع، إذْ أقنع إدارة المدرسة بتشجيعي على الاستمرار في هذا الأمر؛ وتمكًّن، كذلك، من لفت نظر عائلتي إلى وجود هذه المقدرة عندي، والتي كان لا بد من تشجيعها وحُسن العناية بها.

تحيَّةً من القلبِ إلى ذكراكَ العَطِرة، أستاذي الرَّائع، «الأستاذ عبد الرزَّاق صالح»؛ لقد كان للحسِّ الجماليِّ الكامن في وجودك، عهدذاك، والذي تفجَّر لاحقاً عبر لوحات تشكيليَّة راقية، ونماذج رائعة من الخطِّ العربيِّ الأنيق، ما وضعك في مقام الرَّائي التَّربوي الجماليِّ، وكان لي حظٌّ كبيرٍ في الإفادةِ من رؤاكَ الجماليَّةِ، في عهد طفولتي، لما يمكن أن أكون عليه في عهودي التَّالية.

رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي

*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى