أدب وفن

فاعليَّة المثقَّف اللُّبناني في عصر النَّهضة العربي أنموذج “خليل بن جبرائيل الخوري”

فاعليَّة المثقَّف اللُّبناني في عصر النَّهضة العربي أنموذج “خليل بن جبرائيل الخوري”

د.  وجيه فانوس

 (رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

تَنْهَضُ جهودُأهل العِلمِ العربِ، في القرن التَّاسع عشر، بين أبرز العوامل التي بَنَت، بصورةٍ أو أخرى، المحطَّة الأساس في تكوين فاعليَّةٍ ثقافيَّةٍ، لكثيرٍ ممَّا عاشه العرب وعاينوه وعانوه، إبَّان القرنِ العشرين.ولعلَّ ما تشهده الثَّقافةُ العربيَّةُ اليوم، من مجالات التَّفاعلِ مع العَوْلَمَة، في مطلعِ القرنِ الحادي والعشرين، ليس سِوى ثمار أَيْنَعَتْ مِن تلك البُذورِ، التي بُدئَ بِغَرْسِها في أرضِ الحياةِ العربيَّةِ في القرنِ التَّاسعِ عشر.

لم يكن “المُتَعَلِّم”، في عصر النَّهضةِ،أو ما يمكن أن يكون “المثقَّف” في الزَّمن الرَّاهن، مجرَّد إنسانٍ تخصَّصَ في مجالٍ محدَّدٍ من مجالاتِ المعرفة؛ بل كان، وبصورةٍ عامَّةٍ، مَنْ تَمَكَّنَمِنْ عِدَّةِ مجالاتٍ معرفيَّةٍ وفكريَّةٍ، يعيشها أبناءُمجتمعِهِ أو هم يَحتاجون إليها. إنَّه، بهذا المفهوم،”المتعلِّم” العمليِّ، وليس التَّنظري؛وهو، تالياً، “المتعلِّم”الذي عليه متابعة فاعليَّات التَّثاقف في بيئته ومجتمعه، والسَّعي المستمر إلى تنميتها. على هذا الأساس يمكن النَّظر في ما قام به أُناسٌ من أمثال “أحمد فارس الشِّدياق”و”ناصيف اليازجي”و”بطرس البُستاني” و”يوسف الأسير” و”إبراهيم اليازجي”و”خليل الخوري”و”سليمان البُستاني” وسواهم.

سليمان البُستاني

برز الانشغالُ بالشَّأن العام في البلدان العربيَّة، في القرن التَّاسع عشر، عبر نشاطي الكتابة والتَّرجمة؛ ومثال هذا، ما عاشه، عهدذاك، الرحَّالة والأديب والمترجم ومنشئ صحيفة “الجوائب” ومطبعتها، “أحمد فارس الشَّدياق” (1804-1887)؛ وكذلك “ترجمان القنصليَّة الأميركيَّة في بيروت” ومُؤسِّس جريدة “نفير سورية”وصاحب”المدرسة الوطنيَّة”، المعلِّم “بطرس البستاني” (1819-1883)؛ وكذلك قريبه، الذي أشتُهر بأنَّه اتتقن أكثر من عشر لغات حيَّة وعرَّب “الإلياذة”، الشَّاعر والسَّياسي “سليمان البُستاني” (1856 – 1925). كان الغِنى المعرفيِّ مدخلاً أساساً لهؤلاء “المتعلِّمين”، في صقل نوعيَّة حضورهم بين ناس مجتمعهم؛وتالياً في تكوينفاعليَّة ثقافيَّة لهم وممارسة تثقيفهم للآخرين. وكان لهذه الفاعليَّة الأدبيَّة أن تساهم في أن يكون هؤلاء “المتعلِّمون”منشئين لصحفٍ أو محرِّرين فيها؛ كما تسنَّى، لبعض منهم، أن يتمرَّس في أمور التَّرجمة والتَّعريب، لصالح مؤسَّسات أجنبيَّة أو محليَّة؛ فَيُلِم، بدوره، بأمور متميِّزة عن ما قد يُلِمُّ به سواه من موضوعات الشَأن العام.

أحمد فارس الشدياق

يبدو أنَّ المسؤوليَّة الأشد بروزاً، للنَّشاط الثَّقافي العربيِّالعام في القرن التَّاسع عشر، كانت على همَّة المبادرة الفرديَّة؛ إذ حقَّقت هذه المبادرة ما يمكن اعتباره وجوداً مؤسَّساتيَّاً، يسعى إلى تثبيت كيانه بمصادر دعم مختلفة ومتنوِّعة؛ مع الحِفاظ على فرديَّة المؤسِّس وعلى ارتباط أساس للمؤسَّسة”، التي ينشؤها أو يرعاها، به. ومن هنا، يمكن الزَّعم أنَّ الفعل الثَّقافي العربيُّقام، بشكل عام في القرن التَّاسع عشر، على جهود أفراد من هؤلاء “المتعلِّمين”؛ سعى كلٌّ منهم إلى التَّعامل مع مؤسَّسة ثقافيَّة ترتبط برؤيته وتتجاوب مع توجُّهاته في الفعل الثَّقافي.

وهكذا يمكن القول إنَّ المثقَّف، في عصر النَّهضة، وجود عصامي؛ بدايته  اكتساب محليٌّ للمعرفة، وعماده تعامل مباشر مع موضوعات الشَّأن العام، وأغلب التعبير عنه يكون بالكلمة في مقالات وخطب وقصائد وسوى ذلك من وسائل التَّعبير الكلامي.

خليل جبرائيل الخوري

وُلِدَ “خليل الخوري” في بلدة “الشُّويفات” في “جبل لبنان” سنة 1836؛ ودرس العربيَّة على، ابن بلدته، الشَّيخ “ناصيف اليازجي”؛ ثمَّ مارس التَّدريس،لمرحلة قصيرة، وانصرف، من ثَمَّ،إلى الكتابة؛ كما عمل مديراً لمطبوعاتولاية سوريا ومفتِّشاً على المكاتب غير الإسلاميَّة فيها.

كانت “الكلمة” مدخل “خليل الخوري”إلى عالم الفعل الثَّقافي؛ولقد استخدامها “خليل الخوري”، بصورة خاصَّة، في خمسة مجالات يمكن أن تشكِّل نماذج من مساهمته في الفاعليَّة الثقافيَّة في عصره.

وضع”خليل الخوري”عدداً من الدَّواوين الشِّعريَّة، وكتب الرِّواية والمسرحيَّة، وألَّف في التَّاريخ؛ ومن جهة أخرى،أسَّس صحيفة “حديقة الأخبار”، التي تعتبر من أولى الصُّحف العربيَّة، فضلاُ عن كونه ناشراً لِما كانت تقوم مطبعة جريدته بطباعته من أعمال كتابيَّة. فـ”خليل الخوري”، لا يختلف، في هذا، عن معظم “متعلِّمي” أو مثقَّفي عصره؛ الذين دخلوا معتركات التَّفعيل الثَّقافي العربي في مجتمعاتهم عبر فاعليَّة الكلمة،كما كان الحال مع “أحمد فارس الشِّدياق” و”بطرس البُستاني”، من اللًّبنانيين، ناهيك بـ”رفاعة رافع الطَّهطاوي” وآخرين من بلدان عربيَّة أخرى.

نشر”خليل الخوري”معظم منظوماته الشِّعريَّة في مجموعات،لعلَّ من أبرزها “زهر الرُّبى” و”العصر الجديد” و”السَّمير الأمين” و”الشَّاديات” و”الخليل”. تنوَّعت منظومات “الخوري” بين المديح والغزل وبعض المشاعر الوطنيَّة؛ وثمَّة من قد يلاحظ أنَّ “خليل الخوري” اعتمد الشِّعر وسيلة للتقرُّب من ذوي السُّلطة في مجالات الحُكْم. أمَّا شعر “خليل الخوري”، فجزل أنيق فصيح مراعٍ لأصول اللُّغة ومبادئ النَّظم على ما يُعرف بعمود الشِّعر العربي؛مِمَّاكانَ دافعاً أساساً من دوافع صقل الشِّعر العربي في زمنه وتعزيز جماليَّة التَّعبير اللُّغوي فيه. من جهة أخرى، ربط “خليل الخوري” في شعره المدحي الموجَّه إلى بعض السَّاسة والقادة من حكَّام زمانه وأولي الشَّأن فيه، بموضوعات ذات طابع وطني. يمكن القول، ههنا، إنَّ”خليل الخوري” جمع ما بين الفاعليَّة الشِّعريَّة المدحيَّة التَّقليديَّة، بما فيها من بُعْدٍ مصلحيٍّ آني، والفاعليَّة الشِّعريَّة الوطنيَّة؛ وهذا ما يسمح بتقديم رؤية طريفة في مجال االنَّظم المدحي، في زمنه، وما قد يؤسِّسُ لما سيُعرف، لاحقاً، بالشِّعر الوطني.

أصدر “خليل الخوري” صحيفة “حديقة الأخبار”، يوم كان في الثَّانية والعشرين من سني حياته سنة 1858، وظلَّ يصدرها حتَّى وفاته سنة 1907. كانت هذه هي الصَّحيفة الدَّوريَّة الأولى في العالم العربي. ولمَّا لم يكن في العربيَّة اسم يعرف لهذا النَّوع من المنشورات، فقد أطلق الخوري على “حديقة الأخبار” اسم “الجورنال”، معتمداً في هذا نقلاً حرفيَّاً من الاسم الفرنسي Journal. والمُلاحظ، ههنا، أنَّ”الخوري” لم يعتمد التَّرجمة العربيَّة للَّفظ “جورنال” الفرنسي، وهو اليوميَّة، بل أدخل اللَّفظ الفرنسي إلى التَّداول العربي. وقد يكون في هذا فتح لموضوع خلافي لغوي، ما انفكَّ قائماً حتَّى هذه الأيَّام. من جهة أخرى، اتَّفق “خليل الخوري” مع السُّلطة العثمانيَّة على أن تكون “حديقة الأخبار” ناطقة باسم الحكم العثماني للمنطقة، وحصل بهذا على دعم مستمر للصَّحيفة حتَّى وفاته.وقد يكون في هذا أنموذجاً سلبيَّاً للعمل الصَّحفي، لكنَّه أنموذج في تأمين دعم لنوع جديد غير مألوف من المنشورات، وتأسيس ما لمنهجيَّة العمل الصَّحفي ما برح قائماً حتَّى اليوم.

الصفحة الأولى من العدد 196، الصادر في 6 شباط سنة 1862، من “جورنال” “حديقة الأخبار”

كَتَبَ”خليل الخوري”الرِّواية، ولعلَّه أوَّل من كتب الرِّواية العربيَّة. والطَّريف أنَّه نشر إحدى رواياته، وهي “وي … إذن لست بإفرنجي”، عبر حلقات متتالية؛ خصَّ كل واحدة منها بعدد من أعداد  “جورنال” “حديقة الأخبار”. وكانت كتابة هذه الرِّواية بلغة تزاوجت فيها المحكيَّة بالفصحى تزاوجاً فنِيَّاً طيِّبا. ومن مسرحيَّاته، أيضاً، “النُّعمان وحنظلة”، التي حوَّلها، معاصره،”نجيب الحدَّاد” إلى مسرحيَّة شعريَّة باسم “المروءة والوفاء”. قدَّمت الأعمال الروائيَّة والمسرحيَّة لـ”خليل الخوري”توجهين روائيين؛ أحدهما تاريخيٌّ تقليديُّ، في مسرحيَّة “النُّعمان وحنظلة”،  والآخر اجتماعيٌّ حضاريُّ الأبعادِ طريف في رواية “وي … إذن لست بإفرنجي”.

لقد أسَّس “خليل الخوري”، أو على الأقل ساهم، في تأسيس كتابة الرِّواية العربيَّة من جهة، كما أسَّس تقليد نشر الرِّواية بحلقات متسلسلة عبر الصحيفة الدَّورية في العالم العربي، وقدَّم أنموذجاً عن الرِّواية التي تسعى إلى التزام منحى مُعَيَّن في الفهم الحضاري الاجتماعي لطبيعة الحياة المعاصرة في زمنه.

قدَّم “خليل الخوري” بعض الأعمال في مجال التَّاريخ، عبر اختصارٍ له لبعض المؤلَّفات التَّاريخيَّة. فنشر “مختصر روضة المناظر” و”تاريخ مصر”. ويمكن لـ”خليل الخوري” أن يُعْتَبَر، في عمله هذا، من المؤسِّسين لتقديم نُبَذِ موجزة إلى القارئ باللُّغة العربيَّة عن أعمال أدبيَّة وفكريَّة متخصِّصة في مجالات محدَّدة.

عمد “خليل الخوري”إلى نشر أول دليل إعلاميٍّ مطبوع عن بيروت، وهو الدَّليل الأوَّل من نوعه في العالم العربي، صدر بعنوان “الجامعة”. ضمَّ هذا الدَّليل أسماء وعناوين وتفاصيل عن الأشخاص والمؤسَّسات الرَّسميَّة والخاصَّة العاملة في بيروت، ناهيك بعناوين الأطبَّاء والمحامين وأصحاب المهن والحرف وغيرها، وصولاً إلى أسماء الفنادق والحدائق وعناوينها، وغير ذلك من أمور المدينة.

يمكن اعتبار هذا العمل، من قِبَلِ “خليل الخوري” توجُّهاً نحو تعميم المعرفة المتعلِّقة بالاحتياجات اليوميَّة والآنيَّة للنَّاس في المدينة. وبالفعل، فإنَّ فكرة نشر مثل هذا الدَّليل عمَّت أرجاء البلدان العربيَّة بعد هذا، حتَّى أصبحت اليوم من أسس الخدمات الإعلاميَّة التي لا بدَّ من توفيرها لصالح العيش اليومي للنَّاس.

كان للفاعليَّة الثَّقافيَّة، التي مارسها “خليل الخوري”، دور واضح في التَّاسيس لممارسات ثقافيَّة، سلبيَّة وإيجابيَّة، خلال القرنين التَّاسع عشر والعشرين، وإلى اليوم.

  1. اتَّخذ الشِّعر لغة رقيقة جميلة وجزلة في آن، مبتعداً عن محاولات التقعُّر والتحذلق اللغويين.
  2. بات مقبولاً، معه وعبره، أن يجمع الشَّاعر بين المصلحة الآنيَّة التكسبيَّة والبعد الوطني.
  3. أرسى دور الجريدة اليوميَّة والمجلَّة الدَّورية في الحياة الثقافيَّة.
  4. تعزَّزت، عند بعض أصحاب الصُّحف، ضرورة حماية الصَّحيفة عبر غطاء سياسي سلطوي.
  5. تتابع استخدام الصَّحيفة اليوميَّة والمجلة الدَّورية محطَّة للسِّياسة والأخبار ومنطلقاً للأعمال الأدبيَّة.
  6. تعاظم نشر الرِّوايات بشكل حلقات متسلسلة ضمن أعداد متتاليَّة للدوريَّة.
  7. انتشرت الرِّواية وتحوَّلت من اعتبارها عملاُ ترفيهيَّاً إلى كونها كتابة توجيهيَّة تلتزم برؤية معيَّنة للواقع والعيش.
  8. كثرت المنشورات المطبوعة التي تختصر دراسات مطوَّلة في المجالات المعرفيَّة المتعدِّدة.
  9. ما برح النِّقاش قائماً حول مشروعيَّة إدخال ألفاظ غير عربيَّة،رغم وجود معادل عربي للفظ الأجنبي، إلى الاستخدام اللُّغوي العربي.
  10. بات نشر دليل إعلاميٍّ، عن مدينة أو بلد، ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها في الحياة المعاصرة.
  11. تكرَّس نجاح انطلاق العمل الفردي في الفاعليَّة التثقيفيَّة للمجتمع.

نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى