أدب وفن

مَلامحٌ مِن فاعِلِيَّة الصُّورةِ في شِعر “جوزف حَرب”

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثَّقافيِّ الإسلاميِّ)

{في الذِّكرى السَّادِسَةِ لانزراعه بخوراً مِعْطاءً في تُرابِ الأرض}

وُلِدَ “جوزف حرب”، في قرية “المِعْمَرِيَّة” من “قضاء الزَّهراني” في “الجنوب اللُّبناني”، سنة  1944؛ وتلقَّى علومه المدرسيَّة في “المدرسة الأنطونيَّة”.حاز إجازتين جامعيتين من “الجامعة اللُّبنانيَّة”، واحدةٌ في “الأدب العربيِّ” والثَّانية في “الحقوق”.

مارسَ”جوزف حرب”التَّعليم في بعض معاهد بيروت؛كما عمل، في الوقتِ عينه، في “الإذاعة اللُّبنانيَّة”؛ إذ كتب لها وقدَّم فيها،ولسنواتٍ عديدة، برنامج “مع الغروب”، كما كتب برنامج “مع الصَّباح”، الذي كانت تقدِّمه، طيلة سنين، الإذاعِيَّة “ناهدة فضلي الدَّجاني”. وكتب للتِّلفزيون عِدَّة مسلسلات دراميَّة منها: “أواخر الأيام” و”باعوا نفساً” و”قالت العرب” و”قريش” و”أوراق الزَّمن المُر” و”رماد وملح”.غنَّت السيِّدة “فيروز”، عدداً من القصائد من شعر “جوزف حرب”؛ منها: “لبيروت”، “حبَّيتك تانسيت النَّوم”، “لمَّا عالباب”، “وَرَقه الأصفر”، “أسامينا”، “أسوارة العروس”، “زعلي طول”، “بليل وشتي”، “خلِّيك بالبيت”، “رح نبقى سوا”، “فيكن تنسو”، “البْواب”، “يا قونة شعبِيِّة”. تولىَّ “جوزف حرب”، مهام الأمانة العامَّة في “اتِّحاد الكُتَّاب اللُّبنانيين” من سنة 1998 إلى سنة 2002؛ وكانت وفاته مساءَ يوم الأحد، الواقع فيه التَّاسع من شهر شباط لسنة 2014.

جثمان “جوزف حرب”، قبيل انزراعه في تراب “المعمريَّة”، بخوراً لا يعبق إلاَّ بجمال الرُّؤى

الشَّاعر، العربيُّ اللُّبنانيُّ، “جوزف حرب” واحدٌ من الكبارِ الذين يتصدَّرون المسيرة الشِّعريَّة العربيَّة المعاصرة، بنتاجٍ عماده، فضلاً عن ثقافة تضرب في أعماق الوجود الإنسانيِّ، مستعرضةً ودارسةً ومحللِّةً ومستنتجةً، حسٌّ مرهفٌ وذوقٌ أنيقٌ يعرف صاحبهما كيف يَصوغ من خلالهما إبداعاتٍ جماليَّةٍ ومضمونيَّةٍ ما برحت تترك بصماتٍ واضحةٍ من حيويَّتها في مسيرة الشِّعر. فشعر “حرب”، أكان بالعربيَّة الفصحى أو بالعربيَّةِ اللبنانيَّة المحكيَّة، طرازٌ رصينٌ، بعمقِهِ في الفكر الإنسانيِّ؛ ورائعٌ، بجماليَّاته في رحابِ العطاء الفنِّي.

جوزف حرب

يشهدُ لـ”جوزف حرب”، في كلِّ هذا، مجموعة ضخمة من النِّتاج الشِّعريِّ،أوُّلها “شجرة الأكاسيا” سنة 1986، ومنها “مملكة الخبز والورد” سنة 1991 و”الخصر والمزمار” سنة 1995 و”مقصّ الحبر” سنة 1969 و”السيِّدة البيضاء في شهوتها الكحليَّة” سنة 2000 و”شيخ الغيم وعكَّازه الرِّيح” سنة 2002 و”رخام الماء” سنة 2007 ، فضلاً عن “سنونو تحت شمسيَّة بنفسج” سنة 2005 و”طالع ع بالي فِلْ” سنة 2007، ثمَّ “المحبرة” سنة 2006 ، وصولاً إلى آخر ما نشره سنة 2009 ” أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها” و”زرتك قصب فلّيت ناي”!

يتجلَّى الشِّعر، في أعمال “جوزف حرب”، عبر سُبُلٍ عدَّةٍتُشَكِّل الصُّورةُ أبرزها حضوراً وأهمّها فاعليَّةً وأشدَّها تأثيراً في أَلَقِ الحضور الشِّعريِّ وعطاءاته. فشعر “حرب”، وقبل أيِّ أمرٍ آخر، صورةُ لا تنتظمُ حيِّزاً معيَّناً أو محدَّداً من دَفْقِ الشَّاعريَّة عنده؛ بقدر ما تُشَكِّل لُحمةَ هذه الشَّاعريَّةِ وسُداها. شعرُ”حرب” وحدة عضويَّةٌ متكاملةٌ؛ فيها مضمونٌ وصورةٌ تزاوجا، حتَّى ثمالةِ ما في الزَّواجِ من روعةِ المشاركةِ.

النّسخة الأولى من “المحبرة،” لحظة وصلت إلى يد جوزف من المطبعة؛ وقد أصرَّ على إهدائها إليًّ بخطِّه وتوقيعه وتاريخ إنجاز طباعتها

“المِحْبَرة”، كتابُ شِعرٍ نَشَرهُ”جوزف حرب”، في 1725 صفحة، تضمَّنت 29 باباً، وحَوَت385 قصيدة. انشغل “جوزف حرب” بهذا العمل لأكثر من سبع سنين؛ ثمَّ تفرَّغَ لوضعه، بشكله النِّهائيِّ، أكثر مِن سنتين متواليتين من عمره؛ انزوى فيهما، انزواءً كليَّاً عن النَّاسِ، في قريته “المِعْمَرِيَّة”؛ ونَشَرَهُ سنة 2006. إنَّهُ، وكما يُعرِّفُ “جوزف حرب” عنه في مقدِّمته، “مجموعةٌ شعريةٌ لِـ”للْكَوْنِ”، أرسلها إلَيَّ لكي أنقِّحَها له. هي ستُّ غيماتٍ عليها خُطَّ ستُّ قَصَائدٍ جُمِعتْ بِدِيْوانٍ يُسَمَّى الخَلْقَ”.(ص. 15) وإذ يطرح “الكَوْنُ”، حول كتابه، السُّؤال على الشَّاعر “هل هو صالحٌ للنَّشرِ؟” فيأتي الجواب، في خاتمة “الكتاب، “يا مُبْدِعَ النَّصِّ العَجِيْبَ الحِبرْ، نَصٌّ بَهِيٌّ صَالِحٌ للنَّشرِ”.( المحبرة، ص. 1708)

تأتي الصُّورة عند “حرب”، ترنيمةَ سعيٍّ وصدقَ تاريخٍ في حَمْأةِ وعيٍّ وجدانيٍّ يستشرفُ الفجيعةَ والأملَ في آنٍ؛ ويصدحُ الواقعَ وجودَ فنٍّ يُشرقُ بالنَّصِّ على فضاءاتِ العَيْشِ، كما في “شجرةِ الأكاسيا”، أوَّل ديوان له نَشَرَهُ:

وتعِبنا

دمُنا قلَّ. بماذا نحفرُ الآنَ؟

ولا ماء لدينا. وعِظامُ الشُّهداء انكسرَتْ في حَفْرِ

ماضينا

   ولكنْ

لم نَجِدْ

بعدُ الجنوبْ.

فجمعنا دمَنا الباقي، وأطرافَ جذورِ

الشَّجرِ القاسي،

   حفرنا

   فسمعنا صوتَ ماءٍ،

   فحفرنا،

   فإذا النَّهرُ المقدَّسْ.

   وعلى

   صخرتِهِ

   قامَ رسولٌ. صرخت زينب من

أعماق عينيها:

   الجنوب!!

   وتوقَّفنا.

   رأيناه جليلاً،

وقديماً كإلهْ،َّ

طالعاً كالسَّروِ، محفوفاً بأتباعٍ له

من شجرِ الأرضِ

تبرز الصُّورة في شعر “حرب”، في مثال آخر، لكن هذه المرَّة من “شيخُ الغيم وعُكّازُه الرّيح”، حاملة لمشهد قصصي، فيها شخوص القصِّة وتطوُّر أحداثها؛ وفيها تعملّثق الأحداث وتطوُّرها الدرامي وصولاً إلى أقصى ما يمكن للبعد الدرامي في القصِّ أن يُزْهر وجوده به:

مَا
أبْقَـيْتُ في صَحْني لُقـْـمَه،

ضَرَبَـتْنيْ
الرّاهـِبَه!

لَمْ تَكُن تـَعْلـَم أنّي اعتَدْتُ فيْ
البَيْتِ إذا نحنُ جَلَسْنا حَوْلَ صَحْنِ واحدٍ،
فَوْقَ الحَصيْرَهْ،

وَأكَلْنَا
جائِعِينَ،

أَنْ يُخَلّيْ كلّ مَنْ يأكل مِنّا
لُقْمَةَ الصّحنِ الأخيرهْ،

دائِماً
للآخَرينْ.

أمَّا في “المحبرة”، ولعلَّها المجموعة الشِّعريَّة الأمثل في كشف فنِّيَّةِ الصُّورة عند جوزف حرب، فالأمر أشدُّ عطاءً وعُمقاً وأروع شاعريَّة وتأثيراً. “المحبرة”، هي العمل الذي أنزوى من أجله “حرب” في صومعة عُمْرِهِ، وأناره بِزَيْتِ وجودِهِ وعافيتِهِ؛ ثمَّ خرج العملُمن قمقم “العزلة” ماردَ شِعْرٍ؛ الصُّورة قوام فاعليّته بامتياز.

“المحبرة” قصيدة واحدةٌ متكاملةٌ في سِفْرٍ شعريٍّ كبيرٍ؛ لعلَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إلى مثلِه لا في الأَدَبِ العربيِّ، وربَّما في الآداب الأُخرى! هي رؤيةُ”جوزف حرب” إلىالكَوْنِ برمَّته، بتاريخه وناس هذا التَّاريخ، بأديانه وعقائده وكلِّ ما فيها من أخذٍ وعطاءٍ؛ ثمَّ إنَّ “المحبرة” هي التَّجربةُ الإنسانيَّةُ بكليَّتها، تقمَّصت نَصَّاً شعرِيَّاً، هو ملحمة إبداعٍ فنِّيٍّ قد لا يكون أحدٌسبق “جوزف حرب” إلى مثله. 

ثمَّة فاعليَّات متعدِّدة ومتنوِّعة للصُّورة في النَّصِّ الشِّعري؛ ولعلَّ من أهمِّها ما يمكن تسميته بـ”الصُّورة التِّقنِيَّة”، التي تنهض على أساسٍ من براعةٍ فنيَّةٍ مُعيَّنة، كما في قولِ”امرئ القيس”:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً                كَجَلْمودِ صَخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ مِنْ علِ

وهنا يكونُ إبرازٌ كُلِّيٌّلِ تِقَنِيَّةِ تَشَكُّلِ الصُّورةِ، إِذْ يُظهِرُ النَّصُّ لعبةً فنيَّةً ذات قيمةٍ تعليميَّةٍ أو تجربيَّةٍ وبُعْدٍ جماليٍّ عامٍّ؛ وغالباً ما تأتي هذه الصُّورة عَرَضاً، ضمن النَّص، وتظهرُ نافرةً عن سواها، ومن غير ما فاعِلِيَّةٍ عضويَةٍ في بنايتِهِ التَّشكِلِيَّة.

ثمَّة وجود آخر للصُّورة يمكن وسمه بـ”الصُّورةِ الهدفِ”؛ وهي الصُّورةُ التي تبرز لتوفيرِ فاعليَّةٍ جماليَّةٍ ومضمونيَّةٍ محدّدَةٍ وقصيرةِ المدى في النَّصِّ، كما في قولِ”أبي نواس”، موحياً بهالةٍ من القداسةِ تَلُفُّرأسَ ساقيةِ الخَمْرِ:

قامت بإبريقها والليل معتكرٌ      فلاح من وجهِها في البيتِ لألاءُ

وهنا يكون تقديمُ الصُّورةِ، عبر تقنيَّاتِ إيجادها وتشكيلها، لغرضٍ محدَّدٍ ضمن النَّصِّ الشِّعري؛ فهي صورةٌ محدَّدةُ الفاعليَّةِ ومحصورةُ التَّكوين.

أمَّا ما يمكن تعريفه بـ”الصُّورةِ الوجود”، فهو ما تتولَّد منهحقيقة الفاعليَّة الشِّعريَّة التي تنتظم النَّصَّ بكليته وتعطيه الألق الشعري. إنَّها وجود النَّص، إذ لا وجود للنَّصِّ خارجاً عنها؛ وهي، تالياً جوهر الوحدة العضويَّة المضمونيَّة والجماليَّة، في آن، التي تنتظم التشكُّلَ الكُليَّ لبناية النَّص. وهذه الصُّورة بالذَّات هي أبرز ما ينتظم الفاعليَّة الشِّعريَّة في نتاج “جوزف حرب” قاطبة، و”المحبرة” منه، بشكلٍ خاص.

الصُّورة، في “المحبرة”، فعل تبتُّل لـ”حربٍ” في محرابِ الوجود؛ ليكونَ الشِّعر وجود حياة.تبدأ الصورة من فاعليَّة أولى، هي فاعليَّة الوجود عبر الفن؛ وتنتقل، من ثمَّ، إلى فاعليَّة اشد شمولاً من الأولى، إذ تكون فيها الفاعليَّة للفنِّ باعتباره الدَّال الوحيد على الحياة. وتكون الفاعليَّة الفنيَّة للحياة، مسلكاً جماليَّاً وموضوعاتيَّاً للحياة/العيش ومعاينة للوجود ومعاناةً له في آن. وتكون معاينةُ الوجود ومعاناته ممارسةً لعيشِ الحقيقة المنبثقة/المشرقة من موضوع النَّص الجمالي. فالحقيقةُ، ههنا، فعلُ اختيارٍ للجمالِ؛ والجمالُ، في هذا المجال، هو الوجودُ الوحيدُ الذي يطرحه النَّصُّ؛ بغَضِّ النَّظرِ عن موضوع هذا النَّص. أمَّا الوجودُ المتجلِّي، عبر الجمال، فليس سوى حقيقة الصُّورة التي تنتظم نصَّ “محبرة” “جوزف حرب”؛ وهذه الصُّورةُ، موضوعٌ يكون العملُ عليهِ والغوصُ في أبعادهِ، فعلَ إغناءٍ للتَّجربة الشِّعريَّة العربيَّة المعاصرة، بصورة عامَّة، ومساهمةً أساساً في فهم الدَّرس الجمالي الشِّعري الإنسانيِّ، بصورةٍ خاصَّة.

    ثمَّة صورةٌقد تحلو تسميتها بصورة “محراب الشَّاعرِ في هيكله”. إنَّها صورة الوضعيَّة التي انطلق منها الشَّاعر “جوزف حرب” في قراءاته التَّحليليَّة والتقويميَّة، التي انتظمت “المحبرة”، لكتاب “الكَوْن” :

يدي

ريح.

وطاولتي سواد الليل. والأوراق غيمٌ

عن يميني، قربها أقلام صندلة، ومحبرةٌ تقطر

حبرها الكُحلي

        من ماء البنفسج.

عن

يساري،

شمعة من فضَّة، يدعونها: قمراً.

ولي كرسي أيلول، خفيف الحَوْرِ، أجلس فيه

مستنداً إلى

        قزحي سحابة،

        وظهر عريشة،

        عند الكتابة.

(المحبرة: ص. 11-12)

تتفاعلُ، ههنا، عناصرُالصُّورةِ،عبر شبكةٍ بنائيَّةٍ شديدةِ التَّنَوُّعِ والتَّعَدُّدِ فيما بينها؛ لتقدِّمَ، بتفاعلها الوجوديِّ هذا، عالَماً قائماً بذاته، هو محراب الشَّاعر في هيكل شاعريَّته؛ إذ يتزاوج فيه الواقعي بالجمالي لإعطاء مضمون “أسطوريٍّ-ملموس” في آن. وهذا المضمون
“الأسطوريُّ-الملموس”، هو ما يضع الشَّاعر في أهليَّة مطلقةٍ لمراجعة ما قام به “الكون” وتقييمه. فمن كانت يَدُهُ الرِّيح، بكلِّ ما للِّريح من صُوَرٍ، ومن كانت طاولته اللَّيل، بكلِّ ما للَّيلِ من عُمقٍ وسِحرٍ، ومن كانت أوراقه الغَيْم، بكلِّ ما للغَيْمِِ من انتشارٍ، ومن كانت أقلامه من عَبَقِ الصَّندلِ وحبرهُ من قَطْرِ البنفسج، بكلِّ ما للصَّندلِ من نفاذٍ وكلِّ ما للبنفسجِ من زُرْقَةِ السِّحرِ وغموضه، ومن كان القمرُ، بشاعريَّة ضيائه وأسرار تحوُّلاته وتأثيراته، شمعته، ومن كان أيلول كرسيه، بكلِّ ما لسطوة شهرِ أيلول من قدرة على التَّبديل والتَّغيير، ومن كان مسنده قوس قزحٍ بكلِّ ما لقوس القزح من اتِّساعٍ وانتشارٍ، حقَّ له، إنْ لَمْ يَكُنْ قد وَجَبَ عليهِ، أن يقرأَ كتابَ الكون ويَحْكُمَ عليهِ، بَلْ أن يُنَقِّحَ فيهِ ويُضيف إليه!

ثمَّة أنموذجٌ آخر للصورة ضمن “المحبرة”، لعلَّه يُشَكِّلُ إشارةً إلى ما يمكن وسمه بـ”الصُّورة الومضة”؛ الصُّورة التي تشبه وميض البرق السَّريع المضيئ المنير المفصح لبعض ما ينيره بأضوائه والمخفي للبعض الآخر بسرعة انطفاء ما ينير به؛ فيضحي من يشهد هذا البرق في فضاء السِّحر الدَّاعي إلى فتح آفاق الخيال والتبصُّرِ معاً.

كل ما في الكون من نار،

وإعصار، وفيض مالح،

                يولد فيكْ

                عندما لذَّات جسمي

                تشتهيكْ.

(المحبرة: ص. 416)

ومثل هذا، أيضاً:

لاح

هذا الكون كباب ذي قفلٍ،

فتقدَّمت المرأة حاملة

        أوَّل

        مِفتاح. 

(المحبرة: ص. 454)

إضافة إلى كلِّ ما سبق، فإنَّ جوزف حرب يقدِّم، عبر “المحبرة”، أنموذجاً عن ما يمكن وصفه بـ”الصُّورة الدراميَّة” القائمة بناء درامي تصاعدي يقدِّم حركة دراميَّة متكاملة تنهض على حدث مركزي تتالى تحرُّكاته تتصاعداً وتأزماً لتنتهي بقمَّة مأساويَّة شاملة هي، بحدِّ ذاتها، حضور إنساني أخَّاذ:

إثنان

كلٌّ منهما يتَّهم اآخر.

توضع

قصعتان،

إحداهما مسمومة،

بينهما سهمٌ، وعنكبوت.

يأخذ كلٌّ قصعة، يأكلها،

ويصبح الجاني الذي يموت. 

(المحبرة: ص. 802)

ولجوزف حرب، فيما له ضمن المحبرة، أنموذج آخر من الصُّورة لعلَّ أفضل ما يمكن تعريفه به أنّضه “الصُّورة الحكاية”. فالصُّورة، في هذا المجال، حكاية، بكل ما للحكاية من عناصر وكل ما للحكاية من إيحاء وتشويق وجمال:

هذي

البراي

الغيم صاحبها،

ودواته،

فيها يذوبها.

يمضي شهوراً

في كتابتها،

وكَوَشيِ شيراز

         يرتِّبها.

كزمرّد،

يجري بأخضرها،

وكخمر دير النَّاي

         يسكبها.

والورد

         يعصر فيه

         حمرته

شمساً

         عليها

         ذاب مغربها.

يمحو، ويحذف،

أو ينقِّح،

         كي

يبقى بها

في الرِّيح

         أطيبها.

فإذا مضى عام،

يمزِّقها

برياحه،

ويعود يكتبها.

(المحبرة: ص. 1376)

الصُّورة في “محبرة” جوزف حرب، كما في سائر نتاجه، جمال في موجوده الكُلِّي المطلق، بل هو جمال في جوهر وجوده وحقيقة هذا الوجود؛ إنَّه عيش شاعرٍ مفكِّرٍجماليٍّيعيش ويحلم ويرى ليبني من الفكر والرُّؤيا وجوداً لحقيقة الحياة ينبثق من فَيْضِ الشَّاعريَّة.

دراسة فنيَّة الصُّورة في شعر جوزف حرب ما زالت طفلاً يحبو في عالم البحث والتحليل؛ وما هذه إلاَّ نُتَفٌ من مجرَّد إشارات إلى ما يمكن أن يُساهم في إثارة المزيد/البحر من عَمَلٍ على العيش الشِّعري الذي يحياهُ جوزف حرب ويقدِّم عبره الصورة الشعريَّة فضاءَ عطاءٍ مضمونيٍّ جماليٍّ في أُفُقِ التَّجربةِ الشِّعريَّةِ العربيَّة منها والإنسانيَّة.

*نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى