أدب وفن

“مُحَمَّد دَكْروب” ورُؤْيَةٌ إِلى فاعِلِيَّةِ الثَّقافَةِ في صَوْغِ الابْداعِ وقِيامَةِ الوَطَن

الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

يَذْكُرُ “يوحنَّا الرَّسول”، في إنجيله، أنَّهُ في قريةٍ اسمها “بيت عنيا”، وتعني، فيما تعنيه، بيتُ العَناء أو الأَلمِ؛ وقف “السيِّدُ المسيحُ”، عند قبرِ “اللّعازر”، وقال: {إرفعوا الحَجَرَ! قالت لَهُ “مرتا”، أخت الميت: يا ربّ، لقد أَنْتَنَ، فهذا يومه الرَّابع. 41 فرفعوا الحَجَرَ… 43 قال هذا، ثمَّ صاح بأعلى صوته: يا “لْعازَر”، هلمَّ فاخرج. 44 فخرج الميت مشدودَ اليدينِ والرِّجلين بالعصائب، ملفوفَ الوجهِ في منديل. فقال لهم “يسوع”: حلُّوهُ ودعوه يذهب”}. فأقامَ “السيِّد المسيحُ” “اللّعازَر” من الموت.
وفي مدينةِ “صُور”، من الجنوب في “لبنان”، كان “مُحَمَّد دَكْروب”، منذ ولادته، سنة 1929، يعيشُ العَناءَ؛ بلا مدرسةٍ، يُتقن فيها معالم الحروف الأبحدِيَّةِ وسياقات الكلمة وأمجاد الثَّقافة؛ بل كانَ مجرَّد مساعدَ بائعِ فولٍ وعاملاً سمكريَّاً ومنخرطاً في كثيرٍ من المِهن الأُخرى، مثل بَيْعِ الخُبز أو السَّجائر، التي لم يكن أمامه سواها؛ لا ليتعلَّم الحَرْفَ وصَوْغ الكلامِ، وليعتلي أمجاد الثَّقافةِ؛ بل لِيَسُدَّ الرَّمقَ، والرَّمق وحده، في دنيا ما كان له فيها إلاَّ ما يُشبه الموت. بيد أنَّ “مُحَمَّد دَكْروب”، بما امتلكه من قدرة على الاستيعاب والتَّحليل، وبما طوَّره في ذاته من وعيٍ جدليٍّ للعيش والحياة، تمكَّن من أن يُحيي ذاك “اللّعازر” الذي فيه؛ ويدفعه، بكلِّ قوَّة، إلى فاعليَّة العيش المثقَّف. ولعلَّ هذا كلُّهُ بدأ بـ”خمسة قروشٍ”، وهو عنوانُ القصَّة الأولى التي ألّفها “دكروب”؛ فباع بها كلَّ ذلك الموت، واشترى، بثمنها، إتقانَ معالمِ الحروفِ وسياقاتِ الكلامِ وأمجاد الثَّقافة.

الأستاذ محمد دكروب


دخل “دكروب” من باب مجلَّةِ “الثَّقافة الوطنيَّة”، محارباً فارساً، يسعى إلى تطبيقٍ لوعيهِ الجَدَلِيِّ للعيشِ والحياة؛ فوصلَ إلى مجلَّة “الطَّريق”، مَقَرَّاً ومستقرَّاً وقلعةً حصينةً هو حارسِهُا وخادِمُها وأميرُها وفتى أحلامِها. وتوصَّلَ، عبر مسارات “الطَّريق”، إلى محطَّات له كبرى في مواكب الثَّقافة العربيَّة؛ منها “جذور السِّنديانة الحمراء” و”شخصيَّات وأدوار في الثَّقافة العربيَّة الحديثة” و”الذَّاكرة والأوراق” و”وجوه لا تموت”؛ وقد استوحى، هذه المحطَّة الأخيرة، مِن “أشياء” صديقِهِ الرَّائع الرِّوائيِّ “محمَّد عيتاني”، التي هي الأخرى “لا تموت”.
آمَنَ “مُحَمَّد دَكْروب” بفاعليَّةِ الثَّقافةِ، وناضلَ في سبيلِ إيمانِهِ هذا؛ فوقفَ إلى جانبِ رؤيةِ الأديبِ والنَّاقدِ “رئيف خوري” الفكريَّةِ؛ يومَ كانت أفكارُ “رئيف خوري” مَحَطَّ إضطهادِ كثيرين مِن رفاقِ “دكروب”. وآمَنَ “مُحَمَّد دَكْروب” بِحَقِّ النَّشرِ، وإنْ لَمْ يَكُن هوَ، بصفةٍ شخصيَّةٍ، مُقتنعاً تمامَ الاقتناعِ بفاعليَّةٍ ثقافيَّةٍ مُعيَّنةِ لما سيُنْشرُ؛ فنشرَ، في مجلَّةِ “الطَّريق”، دراساتٍ لبعضِ النٌّقَّادِ المبرِّزين في مجالاتِ النَّقدِ البِنائيّ؛ ثمَّ عقد،َ معهم، جلساتِ النِّقاشِ والحِجاجِ وتبادُلِ الرَّاي؛ فكانَ، في ما عَقَدَهُ، المُثقَّفَ المُسْتنيرَ والمُنيرَ في آن.


”مُحَمَّد دَكْروب” من أبرز المساهمين في إنشاء “إتِّحاد الكُتَّاب اللبنانيين”؛ ومن أبرز المناضلين الذين يعتزُّ الاتِّحاد بنضالاتهم في ساحات وجوده ومجالات إنتشاره، التي كانت معطاءً، في سبيلِ تعزيزِ حريَّة الفِكرِ والحقِّ في التَّعبير. ولعلَّ “الاتِّحادَ”، وبعضُ الاتِّحاديين”، ما انفكُّوا، في هذه الأيَّام المرَّة، يشتاقُون بلهفةٍ حَرَّى إلى شخصيَّةِ “مُحَمَّد دَكْروب”، المتقبِّلةِ للآخر والسَّاعيةِ إلى الحِوارِ البنَّاءِ مع المُخْتَلِفِ، والنَّاهدةِ إلى العملِ الموحَّدِ في لُبنان، رَفْعاً لِشأنِ الكلمةِ المقدَّسِ، وإذكاءً لفاعليَّةِ الثَّقافةِ المِعطاء، وتعزيزاً لحقيقةِ الكاتِب السَّاعي الذي جدوى النُّهوضِ الثَّقافيِّ، والاحترامِ المسؤولِ والمُقَدَّسِ للحريَّة.


تمكَّنَ “مُحَمَّد دَكْروب”، بِوَعْيِهِ الجَدَليِّ الفطريِّ، مِنْ ارتقاءِ “السِّنديانة الحمراء”؛ بِدءاً من أعمق ما في أبعادِ جذورها؛ حتَّى وصلَ، بحقيقة وعيهِ هذا وقدرته على بلوغ أبعد ما في الحقيقةِ من أغوارٍ، إلى أرقى ما في أعالي أغصان هذه السِّنديانةِ مِنْ سُمٌوِّ الوجودِ وفاعليَّتِهِ.
نَشَرَ “مُحَمَّد دَكْروب”، سنة 1999، كتاباً لهُ، أسماه “وجوه لا تموت في الثَّقافة العربيَّة الحديثة”؛ وها هي ذي الأيَّام الرَّاهنة، في تقلُّبِ أحداثِها وتعدُّدِ ناسِها وتنوُّعهم، تُضيفُ وجهَ “مُحَمَّد دَكْروب”، طيِّبِ الابتسامةِ وبَهِيِّ الأَلَقِ، إلى الوجوهِ التي أثبتها هو في هذا الكِتاب؛ في واحدٍ من أكثرِ فصول الكتاب ووجوهه إشراقاً وصفاءً وقابليَّة على العطاء والبناء الإيجابيِّ.
أحيا “مُحَمَّد دَكْروب”، ذاتهُ بوعيهِ الجدليِّ الثَّقافيِّ، كما أحيا “السيِّد المسيح” “الّلعازر”؛ فهل بسعي يمكن استشرافه من مسيرة مُحَمَّد دَكْروب” الثقَّافيَّة اليوم، يمكن أن يُعيد إلى الحياة ما يفتقده لبنان من عناءِ الفعل والفاعليَّة؟


“مُحَمَّد دَكْروب”، ونحن اليوم في لبنان سنة 2020، لعلنا ما برحنا، في تلك البلدة، بلدة “بيت عنيا”، نعيش الألم لنموتَ بهِ؛ ولكن، سعينا إلى النَّظرِ في صوغكَ لثقافتِكَ، قد نتعلَّم منه أن نفهم، ثمَّ أن نصرخَ “أما آن للعازر، في كلِّ واحد منَّا، أن ينهض”؛ فيقوم “لبنان” من الموتِ، بعدَ أن يفكَّ بيديه ووعيهِ أربطة كفنه؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى