أدب وفن

كرسيٌّ أم عرش …لمحمد علي شمس الدين

“جُدْ بِجمالِكَ بلا انقطاع، بلا حسابٍ، بلا كلام، تصمتُ أنت… ويقول هو عنك كلّ شيء”.(مقولة للشاعر الألماني راينر ريلكه).

بين أيدينا جمالٌ ناطق بليغ، وسحرٌ أخّاذٌ عميق، جاد به الشاعر العربي محمد علي شمس الدين في ديوانه الثاني والعشرين “كرسيّ على الزبد”.

أعترفُ أنّي أوقعتُ نفسي في مأزقٍ كبير.. كيف لي أن أتحدّث عن آخِرِ وأحدثِ ديوانٍ لمحمد علي شمس الدين، الشاعرِ الذي أرسل “غزالًا نحو الشمسِ لينطحها”، المسكونِ بكبرياء القصيدة وشعوذتها، المتفرّدِ بوجعٍ خلاقٍ متدفّقٍ من جذورِ الإيقاع حتّى برزخ الشعر، المتعمّق ِبفلسفة الوجود والكلمة!

اختلفتْ عليّ الطقوس كثيرًا هذه المرّة.. لا عاصمَ ليَ اليومَ من سطوة ذاك الكرسيّ الذي تتراقصُ تحت أقدامه البحور، ويرفعه الزبد، وتُلاطمه العزلة!

ولأن “العالم هو غابة من الرموز” كما يقول “بودلير”، نجد انعكاس هذه المقولة بشكل جليّ حدّ العمق والغموض في قصائد الشاعر “شمس الدين” الذي يؤمن أن الشعر امرأةٌ متمنّعةٌ لا يمكن مراودتها إلا بالذكاء والثقافة والخبرة!

إنّ أدب “شمس الدين” يُعيدك إلى أكثر من حضارة وثقافة من دون أن يخلع عنه انتماءه وثقافته، ينقل لنا التاريخ بمشهدٍ بانوراميّ الخيال، فهو ماهرٌ في استحضار الرموز التاريخية وتفجير معانيها بما يخدم فكرته أو تمرّده على الفكرة، لا يهاب العروض بل يجدّف فيه كيفما يشاء فيبرّه حينًا ويعقّه حينًا آخر ويبتدع تيّاراتٍ جديدة تميّزه. تتلبّسُه الحداثةُ الذكيّة والأصالة التي جعلته في طليعة أعلام الشعر في الوطن العربي.

يحملُ عزلته على كاهل القصيدة ويدور بها نحو عالمٍ تتشظّى فيه التأويلات والانزياحات، فـ”العزلة وطنٌ للأرواح المتعبة” كما يقول”همنغواي”.

يتقنُ لعبة تلاقح الفنون في قصائده من نحتٍ ورسمٍ ورقصٍ على الإيقاع والصورة، وغناءٍ ومسرحٍ يسرقك من ذاتك كلّما غرقتَ معه في التفاصيل أكثر.

“كرسيّ على الزبد” ديوانٌ غلبت فيه القصائد التفعيلية بشكل كبير غير أنّ قصائده العمودية التسع من أصل تسعٍ وثلاثين قصيدة كانت من التحليق بمكان جعلت كفّة الميزان تتوازى.

للعنوان دلالة واضحة حول رؤية الشاعر ونظرته للوجود، هذا التهافت على الملك والعرش والمادة ليس الا زبدًا سيذهبُ جُفاءً.. وما ينفع الناس يمكث في حرفه الذي يحمل رؤية ماورائية للشعر.

كم من لذّةٍ يعيشها الحرف بين يديّ محمد علي شمس الدين وهو يُدلّلُ “أناه” ويغنّج غرور حرفه كي يُحلّقَ مزهوًّا في أبياته الشامخة كوجه بيروت عند الشروق، إذ “لا يكون الغرور مرتاحًا في ظلِّ اللامبالاة”، كما يقول “إليوت”، وشاعرنا هنا يحظى أدبه باحتفاءٍ كبيرٍ وانتباهٍ عالٍ ما يجعل غروره وحرفَهُ مرتاحَيْنِ إلى أبعدِ حدود.

تحليل لقصيدة “أغنية إلى الجميل والنحيل”:

على وزنِ بحر الرمل، يُطلِقُ الشاعرُ أغنيته التفعيلية بخطىً انتقالية سريعة، يُغنّي للجميل النحيل، هذا العنوان يُشير إلى أنّ الجمال الحقيقي بعيدٌ من المادّة وتوابعها، يستوجبُ على صاحبه النحول.

قصيدة يتصارع فيها الشاعر مع نفسه، صراع الظلّ والشمس، والجهل والمعرفة، والمادة والروح.

عندما كان الشاعر في الظّلِّ، كان في أمانٍ بعيدًا من العقل والتفكير، فهو مجرّد رقمٍ لا قيمة له ولا تأثير، يمكن الاستغناء عنه، لذلك كان يستطيع أن يغفو هانئًا مرتاح البال، فالجاهل لا يدرك فلسفة الحياة ولا يعيش أرق الوجود: “أنا في الظلِّ وهذا الظلّ يمحوني فأغفو”.

لكنّ الشمس عندما كشفته قتلته! فالحقيقة قاتلةٌ لمدركيها، والمعرفة تعذّب صاحبها وتسلبُ منه سعادة البسطاء. وقد ذكّرتني هذه الفكرة بأبيات من العصر العباسي:

لو كنتُ أجهلُ ما علمتُ لسرّني جهلي كما قد ساءني ما أعلمُ
كالصعوِ يرتعُ في الرياضِ وإنّما حُبِسَ الهزارُ لأنّه يترنّمُ
من لي بعيشِ الأغبياءِ فإنّه لا عيشَ إلا عيشُ من لا يفهمُ

يؤكد الشاعر على هذه الفكرة في تصويره للقمر النديّ الرقيق السارح في لجج العتمة الذي يُقتل حالما تشرق الشمس!

يكمل “شمس الدين” قائلًا: “أنت يا أنت ولا أقصد نفسي”، وما ألطف نكرانه ونفيه الذي يحمل التأكيد مضاعفًا بأنه يقصدها ليشرح لها فلسفة الحياة التي ستختلف رؤيتنا فيها للملذات بعد أن نفهمها، فنتخلّص من أدران المادّة ونبحث عن ملذّات معنوية تأمّليّة فكريّة وفلسفيّة.

يستخدمُ الشاعر تناصًّا عاليَ المرامي في ندائه “دثّريني”، كما حصل مع النبيّ محمد عندما كان يرى ويسمع ما لا يراه ويسمعه الآخر وتنكشف عنه الحجب، والشاعر كذلك يخاطب نفسه أو شريكته أو ربّما القصيدة التي وحدها تستطيع أن تؤوي احتضاره بعد أن تكشّفت له الحقائق وأصبح مرهف السمع يسمعُ عويلَ المتعبين في الصمت!

بات قلبه مملوءًا بالشكّ من كلّ ما زرعه المجتمع من أفكار وتقاليد ومسلّمات في رأسه، يُبدي خوفه وتوجّسه وارتيابه.

وبين الماء، رمز الحياة والتدفّق، والطين، رمز الغرائز والمادة، قفزة روحيّة انتقالية الى الضفّة الأخرى (السلام) حيث تستريح النفس بعد الموت وترى (ربّما) الحقيقة جليّة وواضحة، لتأتي الخاتمة على شكل صدمةٍ للمتلقّي بأن الإله (وليس الله) الذي كان يعبده في الدنيا هو “الخوف”، ذاك الإله المزروع زورًا في وجدانه.

إنّ القصيدةَ صوّرت حالةً رؤيوية وفلسفية تعيش فيها نفس الشاعر تقلّباتٍ كثيرة ويظهر فيها التناوب والنزاع بشكل لافت بين الثبوت والحركة (الجمل الاسمية حينًا والفعلية حينًا آخر)، حتى يبلغ الشعر (التجلّي) مداه ومنتهاه، ويصل إلى الذروة في قوله “دثّريني” حيث الانتقال من ضفّةٍ إلى ضفّة. لقد تحوّلَ الشاعر في النص من إنسانٍ لا مبالٍ يهتم فقط في إشباع غرائزه المادية الى إنسانٍ يعيش شفافية الروح والماورائيات وذلك يدلّ على صراعٍ كبير في نفس الشاعر بحثًا عن اليقين الذي ما زال في دائرة الشك.

لقد شكّلت هذه القصيدة فرادة في الأسلوب إذ أبدع “شمس الدين” في تقديمها بقالبٍ ساحر جمع فيه جمال المبنى وعمق المعنى فبرزت عبقريّته الفذّة، لأن “إبداع القالب هو العبقرية” كما يقول “شارل بودلير”.

هذا الديوان هو إضافة كبيرة للشعر العربي جعل للشاعر كرسيًّا متينًا في قلوب وعقول المتعطشين للجمال الحقيقي الذي يرقى بالمتلقي ثقافةً وشعرًا وأدبًا وعمقًا.

وهنا نصّ القصيدة:

أنا في الظلِّ
وهذا الظلّ يمحوني فأغفو
غير أن الشمس لمّا كشفتني
قتلتني
*
أنتَ يا أنتَ (ولا أقصدُ نفسي)
كلّما كنتَ جميلًا
كنتَ كالوردةِ هشًّا ونحيلًا
*
قمرُ الوردِ على الشرفةِ يطفو
كان عند الفجرِ كالفجرِ بليلا
فجأةً
نام على الأرض قتيلا
*
دثّريني
فأنا أرتجفُ الآن من الخوفِ وما كنتُ نبيّا
وأنا أسمعُ في الصمتِ عويل المتعبينْ
لا أريدُ الآن أن أُعلنَ ما أخفي
وأن أبدي ارتيابي
ربّما ينقلني الماءُ من الطين
ومن أصل عذابي
لأرى في الضفّة الأخرى من النهر سلاما
وأرى أنّ إلهي
كان خوفي

سارة بشارة الزين / شاعرة و ناقدة لبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى