أدب وفن

الرقم ٧٥ …قصة قصيرة بقلم الكاتب ماهر عبد الله

أدركها خريف العمر ، وبقيت صلبة كسنديانة جبلية، تحملت مسؤولية عائلتها بصبر وثبات بعد سفر زوجها سعيا وراء لقمة العيش ، انها الحرب ، وسبل العيش ضاقت. ترك عمله جراء تلقيه رسالة : “غير مرغوب فيك بمنطقتنا “!!!! سافر تاركا ثلاثة اطفال صغار بعهدتها ، ربتهم حتى اشتد عودهم وحمَّلتهم اول طائرة رمتهم في بلاد الغربه الموحشه ..
وذات صباح، حملتها رجلاها المنهكتان بجسدها النحيل الى المصرف، حيث اختفى جنى العمر، لتتسول مبلغا زهيدا يمن به عليها المصرف الذي استولى صاحبه على مدخرات الناس واودعها خارج البلاد للتلذذ بها ..
عند تخطيها الباب لمحتها المديرة فاشاحت بوجهها متجاهلة اياها، وهي التي كانت تستقبلها بعناق مزيف.. حتى معقب المعاملات الذي كان يتفاتى بخدمتها طمعا بإكرامية سخيه ، صاح بوجهها : خذي رقم يا مدام وانتظري .!! ثم انصرف لمتابعة جولاته بين الزبائن متحسسا طعم الزعامة تحت اضراسه!! استلمت رقما وتمتمت : لقد اصبحنا أرقاماً .. شخصت عيناها الى الشاشة المثبة حديثا على الجدار لقتل معاناة الإنتظار. كانت مقدمة البرنامج تستضيف سياسيا من زمن الحرب ، فيما مضى ، كان مجرد سماع اسمه يثير الرعب والهلع في النفوس..عادت بها الذاكرة يوم بقيت لوحدها ترعى ثلاثة اطفال ، وكيف اتجهت ذات صباح نحو اقرب فرن محتضنة طفلتها الرضيعه، لتقف بالدور مناضلة في سبيل ربطة خبز ، وكيف عادت بعد معاناة ، وكان عليها ان تعبر ” المتراس” تفاديا لرصاص القناص المتربص بالابرياء من العابرين ، وما ان اجتازته تحت ازيز الرصاص ، حتى احست بحرارة تسري في يدها ، ولم تكن تلك الحرارة سوى دماء طفلتها البريئه التي اختارها القناص ضحيته الاولى ذلك الصباح المشؤوم .وبينما هي غارقة في المها، حتى سمعت رد الضيف حينما سئل عن اكثر شيء أنب ضميره خلال الحرب فاجاب : اختياري اصطياد طفلة بريئة قنصا وهي في حضن والدتها.. هالها ما سمعته فصاحت باعلى صوتها : يا لك من مجرم قاتل ، انت من قتل طفلتي ..!! صراخها المدوي استفز رجل الامن الذي اجبرها على مغادرة المصرف فورا ، ارتمت على اول رصيف تنتحب بمراره حتى شاركتها حجارة الارصفه مُرَّ النحيب، ما ذرفته من دموع ، لو سقط فوق حقل لانبت سنابلا من جروح الغضب . هي تنتحب ، وموظف البنك يصيح : الرقم ٧٥..الرقم ٧٥ ..!!!
يا وطني، اصبح ناسك ارقاما في زمن شياطين ، والشياطين تقض مضاجعها الاسماء …

ماهر عبدالله / كاتب و محام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى