أدب وفن

قراءة في ديوان ” كأسطورة في كتاب الفناء ” للشاعرة التونسيّة وداد رضا الحبيب

قراءة في ديوان ” كأسطورة في كتاب الفناء ” للشاعرة التونسيّة وداد رضا الحبيب

الشاعر و الناقد كمال الدريدي

ستنطق جوارحي وتشهد بما حوى هذا الأثر بكل موضوعيّة وان كانت الموضوعيّة نسبيّة، لكن سأحاول جاهدا. فى هذا المقال أن أقدّم أهم مواطن الجمال والابداع والتجديد في هذه المجموعة الشعريّة.

كأسطورة في كتاب الفناء هو المولود الأدبي الخامس للشاعرة التونسيّة وداد رضا الحبيب وهي مجموعتها الشعريّة الثالثة بعد مجموعتها ” أنا العاشقة ” في 2017 و ” خيال المرايا ” في 2019. صدرت المجموعة الثالثة عن دار يس للنشر والتوزيع في جانفي 2020 و عدد صفحاتها ثلاث وعشرون ومئة صفحة . ما يميّز هذه المجموعة هو احتواءها على فصل أوّل يتكون من خمسة عشر قصيدة عموديّة وفصل ثانٍ يتكوّن من احدى عشرون قصيدة نثر فكلما جاءت الصورة الشعريّة تقضّ مضجع الشاعرة قذفت بأيّ ساق مرمى المعنى متخذة الشكل العمودي تارة والنثر تارة أخرى. وفي الفصلين تراوحت المواضيع من البوح العشقي إلى الصوفي إلى الاجتماعي و الوطني .

** الإيقاع
تتميّز القصائد في ديوان كأسطورة في كتاب الفناء بالإيقاع و هو بدوره يرتكز على السّمع ثم الصورة والمعنى. والايقاع هو موسيقى وتتألف من بناء شكلي بألفاظ غير متنافرة تخدم المضمون وتنقل الصّورة .كما يعتبر الايقاع المعبر الأساسي بين البناء العمودي والنثري للشاعرة وداد رضا الحبيب.
حين نسمع هذا المقطع من قصيدة “جرار الشوق “

عـلِّـقْ جِرارَ الشّـَوْقِ واسْكُبْ دمْـعـهُ
فـوق الحَـــنَايــــا لـــــعـلّ الـبـوْحَ يسْــقـيـهِ


لا تحْسِـبِ العَـبَـراتِ كُحْلاً قـدْ برَى
طَرْف الـخَلـيـلِ وَلا دَفْــقـًا يُعـزّيــهِ


حـتّـامَ تشْحَـذُ نـارُ البُـعْـدِ مِـرْجَلـَهـا
وَيَشـْمـتُ البَيْـنُ والأَشْـواقُ تَحْكِيهِ


لاَ تقْطَـعُوا سُبُلَ الأَشـْواقِ أَسْألُـكُمْ
لاَ تَدْفِنُـوا الظِّـلَّ فـَالأَصـْدَاءُ تَرْويهِ


لا تَذْهـَبُـوا بِبَـرِيقِ الـرُّوحِ أَسْـألُـكمْ
لا تَحْجُـبُوا النّـورَ فالأعَـطـافُ تُبْدِيهِ
***
إنِّي بِـجَـفْـنِ الجَوَى تَجْتَاحُنِي عِـلَلٌ
كالمُسْـتَجِـيرِ منَ الأَوْهـَـامِ بالتِّـيــهِ

تتكوّن القافية في هذا المقطع من حرف الهاء والرّوي من حرف الياء (بكسر الياء ) انتحصّل على ” يه”
وفي ذلك زمن خلال الايقاع تصوير دقيق لمعاناة الشّاعرة وصورة ناطقة حسيّة تعبر عن شدة الوجد بسكب العبرات..التى تنفى انها كحلا لأنّه من وسائل الزّينة عند المرأة فهي تقتنص الصّورة الجميلة لتعبّر عن الألم. استطاعت الشاعرة أن تصيغ الالم بطريقة شعريّة جميلة جمعة فيها بين الايقاع و غزارة المعنى وقوّة الصورة لتجعل من القبح جمالا بل جعلت منه في أكثر من قصيدة موطنا للجمال.

تقول الشاعرة في قصيدة “شهوة سكران”
يا من بفسّر في الجنون حقيقتي
إنّى أرتّب في الغياب مكاني
في هذا المقطع تصوير للحيرة والضياع والتيه في العشق الذى جعل الشّاعرة تبحث عن الرّحيل و الغياب وتتساءل عن من يعينها على استجلاء المعاني ونلاحظ هذا التضاد القويّ الذي يثير حيرة القارئ ويلهب نبض القصيد ” الغياب / المكان ” . نقرأهنا نزعة وجوديّة صارخة وهي صرخة فلسفيّة عن شاعرة مختصّة في فلسفة الحداثة والتنوير

** الأسلوب اللّغوي:

  • تخطّ الشاعرة وداد رضا الحبيب قصائدها بأسلوب سلسٍ ، دون ثقل ألفاظ ولا حشو كلام ولا أساليب بلاغيّة معقّدة . الايقاع في تناغم جميل مع المعنى والكلمات، كلّ ذلك يجعل من القصيد محراب وجد للقارئ يلِجه باطمئنان وسلاسة فيستمتع بالمعاني ويسافر مع الايقاع الجميل خاصة أن أغلب هذه القصائد تسبح في فضاء العشق والبوح الرومنسي.
  • أيضا ومما يجعل ولوج محراب القصيد ممتعا للقارئ هو أنّ أغلب القصائد ترتكز على ضمير المتكلّم ” أنا ” وكأنّ القارئ يتحدّث عن نفسه ويتغنّى بمشاعره ويرتّل بدوره أجمل الأشعار.
  • تتميّز أيضا القصائد العموديّة بالحركيّة من خلال أفعال الدالة على الحركة وكأنّنا أمام مشاهد سنيمائية أو مسرحيّة موسيقيّة التي تذكرنا بالتراجيديا و البلادا.

2/ الفضاء النثري: قصيدة النثر

  • الأسلوب:
    اعتمدت الشّاعرة وداد رضا الحبيب نفس الأسلوب في الخطاب فاختارت البوح باستعمال الضمير المتكلم “أنا ” لكن نلاحظ مواطن اختلاف عميقة بين قصائدها العموديّة وقصائد النثر من حيث اختيار اللفظ والمعجم اللّغوي فالصورة الشّعريّة المكثّفة والمعانى مختلفة جدا عن التي استعملتها في قصائدها العموديّة وهذا يعود طبعا إلى متطلّبات وخصوصيّة قصيدة النثر التي تقوم على عنصر الادهاش وتكثيف المعنى واستعمال الرّموز والأسطورة والصور الشعريّة والأساليب اللغويّة المربكة وهو ما امتازت به فعلا قصائد الشاعرة التونسيّة وداد رضا الحبيب في مجموعتها الشعريّة ” كأسطورة في كتاب الفناء “. إلا أنّها استطاعت أن تجد نوعا من التوازن الجميع بين أن توغل في المعنى والبحث عن الصور الشعريّة الجديدة والتي تثير دهشة وحيرة القارئ دون أن تفسد عليه متعة البوح والاستمتاع بنبض القصيد وما يثيره من مشاعر ومعاني. فالشاعرة استطاعت أن توغل في اللغة مع ابقاء مساحة تواصل بينها وبين المستمع لقصائدها.
  • اللغة :
    نلاحظ حضور الأنثى الصارخة الثائرة. التي تريد الانعتاق وتبحث عن الحريّة. الأنثى عند وداد رضا الحبيب ترفض القيود والحدود. تثور حتى على اللغة والشعر والحروف والكلمات بل إنّها حتى تثور على الصّمت ثم تثور على ثورتها ذاتها. أنثى قلقة تواجه العدم وترفض القوالب الجاهزة. تطرح الأسئلة الوجوديّة والفلسفيّة لتبني لنفسها عالما خاصا بها أرضه الحيرة و سماءه الحريّة والتجديد. و من هنا نستشفّ مفهوم الفن والابداع لدى الشاعرة وداد رضا الحبيب الذي يذكرنا بالشعراء رامبو و بودلير. وهذا ليس بالغريب فالشاعرة متحصلة أيضا على شهادة الأستاذيّة في اللغة والآداب الفرنسيّة.
    نفرأ لها في قصيد ” إليها “..
    سأكتبُ يا أمّي
    لأعيد رسم المسافات
    وترتيب الزّمن
    لم يعد في كفّي غير الحاضر الهارب مني…
    أداعبه… أرصّع الأمل على سجّاده الأحمر
    وأهديه لآلئ لهفتي
    أعتّقها من محراب جنوني أنا
    ليس لي…
    إلا الانغماس في الغياب
    يتلاشى المعنى
    تهوي القيود لأنبعِث في غفلة من الآلهة
    أوّاه من ثورتي القادمة من العدم
    حيث لا ضجيج… و لا صمت
    هناك…. هناك
    ينتظرني ظلّي
    شغوف هو بالقُبلة الأخيرة
    كلّ النّوافذ بعدها سراب
    كلّ الأراضين أبواب من غمام
    وأنا شمعة بلا انتهاء
    قبسٌ بلا انطفاء
    حروفي قطرات النّدى
    تنساب رويدا رويدا توقد الرّجاء
    على ثغرها يحطّ الحمام
    يكتوي بآهات الهوى
    كلّ المراعي تشتهي انسيابها
    ليُزهر القمر على أرضٍ ابتلعت سماءها
    وحدوسٍ من ولهي أنا.

استطاعت الشاعرة إذا ان تجمع بين فرعين من الكتابة الشّعرية قد اينعا وتفرقا لكن اصلهما واحد وهما القصيدة العموديّة و قصيدة النثر فكان الممر الذى يربط بين الرافدين هو الابداع وملكة السّماع حيث كان الايقاع وكانت الموسيقى هنا مكْمن الجمال والتّجديد والابداع لدى الشاعرة التونسيّة وداد رضا الحبيب التي أرادت أن تجمع بين نوعيْ القصيد في مجموعة شعريّة واحدة لتكون رسالة للشعراء بمختلف توجّهاتهم أن الساحة الثقافيّة تسع جميع الأنواع والأجناس و أيّ نص سيكون شمعة مضيئة تضيف الكثير للقارئ العربي مادام هذا النص يلتحف بالإبداع ويرتقي بالذوق العام.

الشاعر و الناقد كمال الدريدي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى