مجتمع

كورونا : هل يغيرنا ونتغير؟ بقلم الكاتب توفيق شومان


تقول الأغنية المعروفة في بلاد الشام :
بردا برداني بردا عيني بردا / من هواك يا أسمر صابتني حمى وبردا .
بردا محرفة من اسم وباء الملاريا المعروف عند العرب ب ” البرداء ” ، ومنه استعارت الأغاني والأهازيج الشعبية حرقة العواطف ولهبها وحرارتها ، ومثلما يصاب المريض بحمى” البرادء ” وارتفاع حرارة الجسم ، كذلك يصاب العاشقون والمغرمون .
هذا شاهد على كيفية تأثير الأوبئة والأمراض على أنماط الحياة ، ومن ضمنها الفنون والأغاني بأجناسها وخصوصا الشعبية منها.
حروب الأوبئة مثل الحروب العسكرية ، تفتك بالناس و تفرض عليهم تغيير أشكال العيش وأساليبها وتنتج تعبيرات فنية وفكرية واجتماعية ، ومن الأغاني الشعبية الشهيرة في بلاد الشام واللصيقة بالحروب ، أغنية : سكابا يا دموع العين سكابا ، وهي الأغنية التي يقال إنها عكست حرقة الأمهات والزوجات على أبنائهن وأزواجهن حين ساقهم القائد العسكري المصري ابراهبم باشا إلى أواسط الأناضول في حربه على الدولة العثمانية في عام 1840.
وثمة أغنية شعبية أخرى أنتجتها الحرب العالمية الأولى على ما يقال ويُروى وهي ” ع الأوف مشعل ” وفيها روايتان :
الأولى لبنانية وتقول إن أفرادا من الجيشين العثماني والألماني اعتقلوا شابا اسمه مشعل كان مختبئا في بيت خطيبته ، وأخذوه إلى الخدمة العسكرية الإلزامية للقتال ، وبعد فترة جاء خبره مقتولا فغنت له ما يُعرف ببلاد الشام ب” أغاني الفراقيات ” وقالت :
ع الأوف مشعل أوف مشعلاني / عا درب زحلة دبحوا الألماني
يا حصان مشعل يخطر بالليالي/ ما بنسى مشعل طول عمري وزماني .
وتقول الرواية الفلسطينية إن مشعل شاب فلسطيني ، ساقه الأتراك إلى الجندية الإجبارية بعدما عثروا عليه بالقرب من نبع ماء كان مكان المواعدة مع حبيبته ، فغنت له :
ع الأوف مشعل أوف مشعلاني / ماني تبليته هو لي تبلاني
ياما قعدنا عَ النبعة خلواني/ ليالي السمر في شهر نيساني.
بصرف النظر عن مكان انطلاق الأغنية ، إلا أن زمانها ـ على ما يبدو ـ محصور في بيئة الحرب العالمية الأولى ، وما رافقها من أهوال عسكرية ومجاعات وأوبئة وموت وفراق وحسرات ولوعات .
حروب الأوبئة على البشر ، قد لا تكون شرا مطلقا ، فتأثيراتها على تاريخ البشرية ، وفي حال تم تجاوز الأهوال والمهالك ، إيجابية في نواح عدة ، خصوصا حين تنتج مرحلة حروب الأوبئة وما بعدها ، أفكارا تصب في صالح البشرية والتاريخ الإنساني ، فالإنسان المستكين يندفع اندفاعا لمواجهة تلك الحروب باحثا عن أساليب الخلاص ، فيتحرك عقله وتعمل آليات أفكاره ، فينشأ عنها أفكار جديدة ، وقد تنقل هذه الأفكار العالم من حال إلى حال .
الشاهد الأول على ذلك ، طاعون أثينا ، الذي ضرب بلاد الإغريق في عام 430 قبل الميلاد ، فقبل حرب الطاعون تلك ، كان الطب حكرا ومحصورا لدى فئة قليلة من الأفراد الذين يتوارثونه أبا عن جد ، عبر العلم التلقيني وغير المكتوب ، ولما فتك طاعون أثينا بالناس والعباد ، ومنهم الأطباء القليلون المحتكرون للطب وأدويته ووسائل علاجه ، ظهر أبقرط المعروف بأبي الطب (460 ق.م 370 ق.م ) ففتح أبواب علوم الطب على مصاريعها ، وراح يؤلف كتبا عن الطب لمن أراد هذا العلم ويرغب به ، وافتتح آكاديمية لتعليم الطبابة ، ومنذ أبقراط غدا علم الطب مفتوحا للجميع ، وأمام كل الطبقات والفئات ، الأسياد والعوام .
الشاهد الثاني ، ما يُعرف تاريخيا ب ” الطاعون الأسود ” أو الموت الأسود ” ألذي أهلك ما لا يقل عن ثلث سكان أوروبا في عام 1350، وموجات الطاعون المتعاقبة وضعت الإنسان أمام أسئلة الوجود والأفكار التقليدية التي عجزت عن اجتراح الإجابات حول اجتياحات جائحات الطاعون ، فبرز جراء ذلك التفكير العقلاني الذي تمحور حول موجة النهضة الثالثة للفلسفة ، بعد نهضتها الأولى في أثينا قبل الميلاد ، والثانية في عصر الدولة العباسية ، والثالثة في أوروبا بعد ” الطاعون الأسود “.
حين يقال الفلسفة ، يعني أم العلوم ، من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة .
يعني من كل شيء إلى كل شيء .
من النظام السياسي إلى النظام الإقتصادي
ومن الطب إلى البيئة إلى النظام الغذائي .
ومن الفن إلى الأدب إلى عالم الأفكار المفتوح على كل جدل ونقاش .
كل ذلك أعقب وباء الطاعون في أوروبا ، وبعد هذا الوباء غدا العالم مختلفا ، وغدا عقل البشر مختلفا ، وبغض النظر مرة ثانية عن النسبة العليا أو الوسطى أو الدنيا ألتي أسهم ” الطاعون الأسود ” في دفع العقل البشري على تغيير أفكاره ، إذ لا أحد ينكر هذا الإسهام ، وإن اختلف الباحثون والمفكرون والمؤرخون على النسبة المؤثرة والفاعلة .
عن موجات الطاعون التي تعاقبت على العالم في تلك الفترة ، ينقل المؤرخ المقريزي ((1364م – 1442) الذي عايش موجات جائحات الطاعون فيقول ويصف :
” لم يكن هذا الوباء كما عهد في إقليم دون إقليم ، بل عم أقاليم الأرض ، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، جميع أجناس بني آدم وغيرهم ، حتى أسماك البحر وطير السماء ووحش البر ، وأضحت القاهرة خالية مقفرة ، بحيث أنه إذا مر إنسان من باب الزويلة إلى باب النصر ، فلا يرى من يزاحمه ، لكثرة الموتى والإشتغال بهم ، وتنكرت وجوه الناس وعلت الأماكن بالصياح ، فلا تجد بيتا إلا وفيه صيحة ، وصارت النعوش لكثرتها تصطدم والأموات تختلط ، ويقال بلغت الأموات في يوم واحد عشرين ألفا ، وأحصيت الجنائز بالقاهرة فقط في مدة شعبان ورمضان تسعمائة ألف “.
جائحة ” الأنفلونزا الإسبانية ” التي اجتاحت العالم في عام 1918، عجلت في كبح جماح الحرب ، فالعديد من المتفاوضين على ” مائدة الحرب والسلام ” في تلك الفترة ، أصابتهم الأنفلونزا الملعونة ، فقرر الأحياء منهم إنهاء الحرب واختراع فكرة ” عصبة الأمم ” لحل النزاعات والصراعات الدولية ، ومن ” عصبة الأمم ” خرجت ” هيئة الأمم المتحدة ” بعد الحرب العالمية الثانية ، وإذ يقال هنا : ماذا فعلت العصبة والهيئة ؟ فالجواب أنها فشلت في جوانب وأفلحت في جوانب ، غير أنها فكرة إنسانية رائدة تقرع أجراس مخاطر استمرار الحروب بين البشر وتدعو إلى السلام الإنساني والعالمي .
في المفاصل التاريخية التي أنتجتها جائحات الأوبئة يمكن المرورعلى هذه المنعطفات البارزة :
ـ اجتاح العالم ما بين أعوام 160 ـ 165 ميلادية ، وباء الطاعون المعروف تاريخيا بالوباء الأنطوني ( نسبة إلى عائلة أنطوني الحاكمة في روما ) ويقال إنه وباء الجدري ، وبفعل تعاقب موجات الوباء ، راحت الناس تنقلب على أفكارها التقليدية ، وتُنكر العقائد الوثنية ، وتُقبل على اعتناق المسيحية .
ـ في عهد الإمبراطور الروماني جستينان ( 560 م ) ضرب وباء الطاعون المعمورة ، وتكررت موجاته سنوات بعد سنوات ، وقيل إن هذا الإمبرطور كان يطمح إلى استعادة مجد الإمبراطورية الرومانية ، إلا أن موجات الطاعون صدته ومنعته بعدما مات من جنده ورعيته ملايين الأشخاص ، وأفضى ذلك إلى إضعاف إمبراطورية الرومان وبهتانها مما أسهم في هزيمتها أمام الفتوحات العربية في وقت لاحق، وخلال حروب الفاتحين الجدد مات القائد المعروف أبو عبيدة بن الجراح بوباء الطاعون .
ـ خلال عصر الدولة الأموية ، اجتاحت الطواعين البلاد ، وقيل إن عشرين طاعونا فتك بالعباد ، وأدى ذلك إلى أن يهجر الخلفاء الأمويون مدينة دمشق ويسكنون الصحارى والأرياف ، وعلى ما يروي الرواة ، أن الطاعون حسم نتائج الحرب لصالح عبد الملك بن مروان ضد عبد الله بن الزبير في معركة البصرة في العراق ، وهناك من يربط بين طاعونين ضربا في عصر الدولة الأموية ، أهمهما طاعون مسلم بن قتيبة خلال ولاية آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد ، الأمر الذي استثمره العباسيون بنجاح فقضوا على خلافة الأمويين .
ـ قصة نابليون بونابرت ومدينة عكا معروفة ، ولكن سبق ” طاعون عكا ” طاعون آخر قال عنه المؤرخ الجبرتي ( 1752ـ 1822) : ” أخذ كل مليح ومليحة ” ، وفي كتاب من الشيخ حسن العطار إلى الجبرتي حول الطاعون خلال حملة نابليون بونابرت ورد التالي : ” كل يوم يموت في مدينة أسيوط زيادة على الستمائة ، وعلى التخمين مات الثلثان من الناس “.
في تأثيرات الأوبئة والجائحات على الآداب والمنتوج الأدبي ، قد يكون من الأولوية الإتيان على ذكر الأسماء والأعمال الأكثر رسوخا في العقل العام ، ومنها على سبيل الأمثلة : مسرحية ” أوديب ملكا ” للإغريقي سوفوكليس (496 – 405 ق.م.) ، وكتب الإنكليزي شكسبير (1564 ـ 1616) مسرحيتيه الرائعتين ” الملك لير ” وأنطونيو وكليوباترا ” ، في زمن الطواعين ، ومن الروايات الأكثر شيوعا على مستوى العالم واتخذت من الأوبئة والجائحات عنوانا ، رواية ” الطاعون ” للفرنسي ـ الجزائري البيركامو و ” الحب في زمن الكورونا ” للكولمبي غابريال غارثيا ماركيز ، وأما الفنان الإيطالي ليوناردو دافنتشي، فقد استلهم من الأوبئة وجائحات الموت مدينة متخيلة ومتجملة بالنظافة والإنتظام والسعادة ، يجعلها نقاد ودارسون قريبة من “جمهورية ” أفلاطون و ” المدينة الفاضلة ” للفارابي .
أنشد إبن الرومي عن الطاعون فقال عن مدينة حماه :
يا أيها الطاعون إن حماه من / خير البلاد ومن أعز حصونها
لا كنت حين شممتها فسممتها / ولثمت فاها آخذا بقرونها
وقال عن معرة النعمان :
ماذا الذي يصنع الطاعون في بلد / في كل يوم له بالظلم طاعون
يقول المصنف صلاح الدين الصفدي (1296 – 1363م) :
قد قلتُ للطاعون وهوبغزة / قد جال من قطيا إلى بيروتِ
أخليت أرض الشام من سكانها / وحكمت يا طاعون بالطاغوت .
وقال أحدهم :
أسكندرية ذا الوباء / سبع يمد إليك ضبعه
صبرا لقسمته التي / تركت من السبعين سبعة
من الأمثلة الشعبية الشائعة حول الطاعون وأشقائه من الأوبئة :
شمس كانون مثل الطاعون ـ في الوجه صابون وفي الظهر طاعون ـ لا عمر إلا بعد جدري وحصبة ـ بعد قدامك جدري وحصبة (ما زال أمامك جدري وحصبة ـ يقال هذا المثل لمن تنتظره مشقات ومصاعب في طريق عمله).
الأوبئة في التاريخ غيرت معالم العالم
في أحيان أهلكته ، وفي أحيان قلبت أفكاره ، وفي أحيان صنعت تاريخا جديدا وعقلا جديدا وإنسانا جديدا.
هل سيغَير كورنا العالم ؟
هل سيكون من ينجو ويحيا أمام عالم جديد وعقل جديد ؟
الله أعلم ….
……………………………………………………………..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى