أدب وفن

إرادةُ الشَّعب بين الوطنيِّ و السِّياسيِّ

د. وجيه فانوس

الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)

بُركانُ غضبٍ، يجتاحُ لبنانَ!
بركانٌ تثورُ حِمَمُهُ نتيجةَ ضغط الظُّلمِ والتَّعسُّف، المُهِينَيْنِ لكلِّ ما هو إنسانيٌّ؛ ونتيجةَ استمرارِ القَهرِ وانتشارِه على مساحةِ الوجودِ الوَطَنِيِّ بِكامِلِها، ونتيجة استهانةِ بعض أهل السُّلطةِ السِّياسيَّةِ بكلِّ ما هو حقيقةٍ أو حق.
إنَّه غضبٌ مشروعٌ؛ بل غضبٌ واجبُ الوجودِ. إنَّهُ غضبُ الدَّلالة على حياةٍ ما بَرِحَت تنبُضُ في وجود الشَّعبِ ووجدانِهِ؛ وغضبُ الإشارةِ إلى ضرورةِ إحلالِ الوَعْيِ الوَطَنِيِّ السَّوِيِّ والفِكْرِ السَّليم، محلَّ كلِّ مصلحةٍ ذاتيَّةٍ أو آنيَّةٍ أو انفعاليَّةٍ، ما انْفَكَّت تتلبَّسُ كثيراً من القِيَمِ والمفاهيمِ والسُّلوكيَّات.
اعتادَ اللُّبنانيون، عَبْرَ عهودٍ، أنْ يكونَ تفجيرُ غضبِهِم رهناً بثورةِ قائدٍ؛ وغالِباً ما شَهِدَ تاريخُ البلدِ، أنْ يكونَ هذا القائدُ زعيماً، يحملُ همَّاً شعبيَّاً ما؛ غَيْرَ أنَّ ممارسَةَ هذه الزَّعامة الفردِيَّة، كثيراً ما ساهمت في تكوين حَجَرَ عَثْرَةٍ في سلامَةِ تجاوبِ “الزَّعيمِ” مع حقيقةِ تفجُّرِ غضب شعبه. فغالباً ما كان “الزَّعيمُ”، يَتَقَوْقَعُ داخلَ رؤيته الخاصَّة لمصلحةِ الشَّعبِ؛ ولطالما كانت الأيَّامُ تثبتُ أنَّ تلكَ الرُّؤيا الخاصَّة، للقائد/الزَّعيمِ، نجحت في حصرِ صاحِبِها في شخصانيَّةٍ له، لا تقبلُ أيّ نقاشٍ أو مراجعةٍ أو حتَّى مساءلةٍ؛ إذ غالباً ما تجنحُ نحو كثيرٍ من تأليهِ الذَّاتِ وفرضِ مفاعيلِ تأليهِها على من يتبِعها من القومِ، عقيدةً وطموحاً ومستقبلاً ومصلحةً. ولكم تماهت جماعاتٌ كثيرةٌ من اللُّبنانيين، مع قادةٍ لها في “عقائدَ” ارتآها القادةُ؛ فشكَّل هؤلاء طموحات ناسِهِم ورسموا مستقبلاً لهم وحدَّدوا مصالح تميِّزهم من سواهم؛ ثمَّ نصبوا، من كلِّ هذا، مقياساً يقيسون بهِ الولاء الوطنيَّ للشَّعبِ، تجاه ذواتهم وجدارت النَّاسِ في ساحات الثِّقة الوطنيَّة التي يرسمونها له وحصَّته من مسارات حياته التي ووهبها للوطن!
لأوَّل مرَّة، اليوم، يغضب الشَّعبُ في لبنان، من غير ما قائد/زعيم؛ ولأوَّل مرَّة يكاد الشَّعبُ في لبنان يسعى حقَّاً إلى تحقيقٍ حرفيٍّ، من حيِّز الوجود بالقوَّة، إلى محاولة الوجود بالفعل، لمقولةِ أبي القاسم الشَّابي:
“إذا الشَّعبُ يوماً أرد الحياة

فلا بدَّ أن يستجيب القدر”

ومع هذا، ومع كلِّ الصَّفاءِ الإنسانيِّ الفَذِّ، لجوهرِ الحَراكَ الشَّعبيَّ الرَّاهن؛ فإنَّ ثمَّة واقعاً من المسؤوليَّة يواجه اللُّبنانيين جميعاً؛ إنَّه واقعٌ يحضُّ على التَّفكُّرِ في آليَّاتِ هذا الحَراك، والمسؤوليَّةِ المباشرةِ تجاهه. إنَّه واقع البحثِ الجديِّ، والنَّظرِ المسؤولِ، في إمكانيَّةِ استغلالِ الجوهرِ النَّقيِّ لهذا الحِراكِ، من قِبَلِ جهاتٍ لا تريدُ خَيْرَه وخَيْرَ ناسِه؛ أو من قِبَلِ عواملَ قد تَحيدُ بهِ عن جادَّةِ صوابِ ما يبتغيهِ أهلُه منه؛ كما يُشير إلى صفاقة هذا الأمر ورعونته، ما شهدناه جميعاً من مجريات الأحداث المؤلمة والمُرَّة في اللَّيالي السَّوداء المرعبة التي عاشها أبناء الوطن مؤخَّراً.
من هنا تبرز أهميَّة فاعليَّة الرُّؤيةِ الوطنيَّة، وحدها ومن دون سواها؛ إنَّها الرُّؤيةُ التي لا بدَّ لأهلِ الفكرِ النَّاضجِ وأصحابِ الطُّموحِ الوطنِيِّ الحقِّ، مِن تَحَمُّلِها والنُّهوضِ بأعبائها.
ثمَّة مسؤوليَّةٌ وطنيَّة أساسٌ، لا يمكن الاختلاف فيها أو عليها، تُواجِهُ النَّاس في لبنان في هذه المرحلة؛ وهي، حُكْماً، ليست من نوعِ المسؤوليَّاتِ السِّياسيَّةِ الآنيَّة. إنَّها مسؤوليَّةُ وجودِ الوطن، وبقاءِ ناسِهِ على أرضِهِ، وحِفظِ وجودِهِم ضمنَ الحقوقِ الدُّستوريَّةِ والقانونِيَّةِ والإنسانِيَّةِ المُشترَكَةِ؛ وهي، تالياً، مسؤوليَّة تغييرِ الحالِ الوطنيِّ المُزريِّ الرَّاهن. لكنَّ التَّغييرَ، وإنْ سَهُلَت الدَّعوةُ إليه، لَيْسَ بالأمرِ البسيطِ على الإطلاقِ؛ بَلْ هو موضوعٌ يتطلَّبُ كَمَّاً مِن مسؤوليَّةِ أُسُسِ الرُّؤيةِ الوَطَنِيَّةِ والحياتيَّةِ ونوعيَّتها، على حَدٍّ سواء. إنَّها الرُّؤيةُ التي تَتَرابَطُ عناصِرُ وجودِها، فيما بَينها، عَبْرَ علاقةٍ جَدَلِيَّةٍ شديدةِ التَّـلاحُمِ والتَّناغُمِ في آنٍ، ضمنَ البُعدينِ الاستراتيجيِّ والتَّكتيِّ. والأمرُ، بحدِّ ذاتهِ، يتطلـَّبُ تحديداً واضِحاً للرَّأي والسُّلوكِ مِمَّا يُعتَبَرُ مناسِباً أو مخالِفاً، وضارَّاً أو نافِعاً، وعدوَّاً أو صديقاً، إلخ..
يقفُ جميعُ اللُّبنانيين، اليومَ، وعلى مختلفِ مواقِعِهِم في الوَعْيِّ الوطنيِّ والانتماءِ السِّياسيِّ والتَّبيعيَّةِ المناطقيَّة والعَقيديَّة، في قَلْبِ هذه المسؤوليَّاتِ جمِيعِها؛ لا يُمكنُ لأيِّ واحدٍ منهم أنْ يكونَ بعيداً لا عَن صِناعَتِها، ولا عن تَوْجيهِها، ولا عن تَفْعيلِها، وكذلك عن التَّفاعلِ معها. وليست القضيَّةُ، ههنا، مُجَرَّدَ قضيَّة مشاركةٍ؛ بل هي قضيَّةُ تحمُّلِ مسؤوليَّةِ تفعيلِ المُشاركَةِ لِصالِحِ هَدَفٍ جوهريٍّ وأساسٍ واحدٍ، هو وجودُ الوَطَنِ حُرَّاً وسَيِّداً، ووجود ناسِ الوطنِ فيهِ بكرامةٍ وعزَّةٍ ومِنعةٍ. إنَّهُ هدفٌ، لا يَقْبَلُ مساومةً ولا يَرْتَهِنُ إلى أيِّ مفاوضةٍ؛ وهو أبعد، في أساسيَّةِ وجودِهِ، عن ما يكونُ في الهدفِ السِّياسيِّ النَّاهضِ على آنيَّةٍ مُعَيَّنةٍ ومَصْلَحةٍ محدودةٍ، والقابِلِ دائماً لإمكاناتِ التَّحويلِ فيه والتَّغيير.
لِيَكُن الضَّميرُ الوطنيُّ وحده قائداً وبوصلةَ حركةٍ وغايةَ تحقيقٍ؛ بعيداً عَنْ أيَّةِ دعوةٍ دينيَّةٍ أو هَوَسٍ مَذْهَبيٍّ أو مَناطِقِيٍّ، أو وَلاءٍ اتِّباعيٍّ لِهذا أو ذاكَ مِنْ أهلِ الشَّأنِ السِّياسيِّ الآنيِّ وناسِ الرُّؤى الظَّرفيَّة. اليومُ، وقتُ الوطنِ، والوطن وحده؛ الوطنُ الذي ما تمكَّن الآباءُ مِنْ تحقيقِ ما يصبوا إِليهِ أبناؤهُم فيه؛ فَعَسى أنْ لا يَضيِّع الأبناءُ، اليومَ، الفرصةَ الأخيرةَ المُتاحةَ لهم، ليمكِّنوا مَنْ بَقِيَ في هذا البلدِ، مِن أبنائِهِم، مِنَ العيشِ الوطنيِّ اللُّبنانيِّ في كَرامَةٍ وحُريَّةٍ وعِزَّةٍ ومِنْعَةٍ وسَلامَةِ قِيَمٍ وازدهارِ اقتصادٍ بنَّاءٍ وتكافوءِ فُرَصٍ حقيقيٍّ في العملِ والوجودِ وممارسةِ المُواطَنَةِ الكامِلَة.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى