أدب وفن

الكتابة الإبداعيَّة (الحلقة الثَّالثة والأخيرة) في نقد الإبداع

Like |  Soumaya |  ديسمبر 17, 2019 |  أدب وفن 19 Views

د.  وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

         انطـلاقاً منفهم مجالات الكشف في اللُّغة/الكتابةِ الإبداعيَّة، يمكن النَّظر في  تجربةٍ لافتةٍ في هذا المجال يمثِّلها نص  حدائق وفيقة” لبدر شاكر السيَّاب في ديوان “المعبد الغريق“.

لوفيقة

في ظلام العالم السفليّ حقل

فيه مما يزرع الموتى حديقة

يلتقي في جوها صبح وليل

وخيال و حقيقة

تنعكس الأنهار فيها وهي تجري

مثقلات بالظلال

كسلال من ثمار كدوال

سرّحت دون حبال

كل نهر

شرفة خضراء في دنيا سحيقة

ووفيقة

تتمطى في سرير من شعاع القمر

زنبقي أخضر

في شحوب دامع فيه ابتسام

مثل أفق من ضياء وظلام

وخيال وحقيقة

أي عطر من عطور الثلج وانِ

صعّدته الشفتان

بين أفياء الحديقة

يا وفيقة ؟

تخالها تلوح في القرار

من جدول أحاله النهار

صدى من المياه مقمرا

كأنه عشترت آخى فوقها الحجار

صفائحا من الزجاج ، أصبح الثرى

ذرّا من الضياء والغبار

والحمام الأسود

يا له شلال نور منطفي

يا له نهر ثمار مثلها لم يقطف

يا له نافورةً من قبر تموز المدمّي تصعد

والأزاهير الطوال الشاحبات الناعسة

في فتور عصّرت إفريقيا فيه شذاها

ونداها

تعزف النايات في أظلالها السكرى عذارى لا نراها

روّحت عنها غصون هامسة

ووفيقة

لم تزل تثقل جيكور رؤاها

آه لو روّى نخيلات الحديقة

من بويب كركرات لو سقاها

منه ماء المد في صبح الخريف

لم تزل ترقب بابا عند أطراف الحديقة

ترهف السمع إلى كل حفيف

ويحها ترجو ولا ترجو وتبكيها مناها

لو أتاها

لو أطال المكث في دنياه عاما بعد عام

دون أن يهبط في سلّم ثلج وظلام

هناك حين يهبط الموت في سكون

يسمّر العيون

على شموس تنشر الظلام

هناك يستنيم ، في محفّة الغصون

شذى إذا تنشقته روح ميّت غفا

له، ونام

شعوره القديم واستراح للقتام

ووفيقة

تبعث الأشذاء في أعماقها ذكرى طويله

لعشيش بين أوراق الخميلة

فيه من بيضاته الزرق اتقاد أخضر

أي أمواج من الذكرى رفيقة

كلما رفّ جناح أسمر

فوقها والتم صدر لامعات فيه ريشات جميلة

أشعل الجوّ الخريفيّ الحنان

واستعاد الضمّة الأولى وحواء الزمان

تسأل الأموات من جيكور عن أخبارها

عن رباها الربد عن أنهارها

آه و الموتى صموت كالظلام

أعرضوا عنها ومروا في سلام

وهي كالبرعم تلتف على أسرارها

والحديقة

سقسق الليل عليها في اكتئاب

مثل نافورة عطر وشراب

وخيال وحقيقة

بين نهديك ارتعاش يا وفيقة

فيه برد الموت باك

واشرأبّت شفتاك

تهمسان العطر في ليل الحديقة

مثل أفق من ضياء وظلام وخيال وحقيقة

            ماتت وفيقة، وهي، كما يبدو، عزيزة على الشاعر. ولا بد للميت من دفن  في قبر. ولا بد لميت، في قبره، من تَحَللٍ لجثته؛ مع كل ما  يصاحب هذا التَّحلُّل وينتج عنه من بشاعات موضوعية لا  تستسيغها النفس الانسانية؛ فكيف بنفس الانسـان الذي أحبَّ هذا الميت قبل وفاته؟

       هذا هو الحدث الموضوعي الذي واجهه السيَّاب عند وفاة وفيقة. لكن العامل الذاتي عند الشاعر لم  يُتِح للحدث أن يتفاعل في جُوَّانِيَّة الشاعر بهذا الاتجاه  المنطقي. إن العامل الذاتي عند السياب يقوم على فعل الحب الذي يجمع بين الشاعـر وبين وفيقة. فكان أن انتصر فعل  الحب الذاتي على فعل المنطق الموضوعي. وكان من الطبيعي، في هذا الحال، أن تتحوَّل الكتابة الأدبية من فعلها التعبيري إلى فاعليتها الإبداعية.  ومن هنا، فإن التعامل مع النص من خلال دلالاته التعببيرية لن يُمَكِّنَ من الدخول إلى ذلك العالم الجواني الذي انطلق منه الشاعر. لا بدَّ، تالياً، من التعامل مع النص عبر فعل الكشف الذي يقود إلى حقائق ذاتيةٍ أساسٍ هي التي انطلق منها الشاعر في سعيه إلى تحقيق فاعلية لكتابته الإبداعية هذه.

       لعل من أبرز هذه الحقائق الأساس أنَّه لم يعد لوفيقة قبر كما لكل الأموات قبر. وهكذا فقد تحوَّلَ الموتُ المؤدي إلى التحلل، والعفن، والعطن إلى دخول في حياة جديدة؛  حياة باهرة، لها جمالها الخاص و لهـا رواؤها الندي الذي أنتجته جوانية الشاعر. فكان تحقق اللغة، ههنا، عبر فاعليتها الإبداعية، وعبر دعوة هذه الفاعلية إلى الكشف؛ فلم تكن، بذا، مجرد لغة تعبير ومجالا لممارسة توصيل ما هو مشترك أو متفق عليه بين المرسل والمُسْتَقْبِل. تأتي اللغة، هاهنا، فتحا جديدا في فهم الناس لحدث الموت و لفعل الدفن:

              ” لوفيقة

                       في ظلام العالم السفلي حقل

                       فيه مما يزرع الموتى حديقة

                       يلتقي في جوها صبح و ليل

                       و خيال و حقيقة

                       تنعس الأنهار فيها و هي تجري

                       مثقلات بالظلال،

                       كسلال من ثمار، كدوال،

                       سرّحت دون حبال “

       اللغة، ههنا، فعل ايضاح، ولا شك؛ وهو فعل فيه جمال، ولا شك أيضا. لكنهما، هذا الجمال و ذاك الايضاح، لا يقصدان لذاتهما. إنهما من عناصر وجود فعل أشمل  وأعـظـم.  اللغة هنا فيض من ذات الشاعر العامرة بالحب  لوفيقة؛ هذه الذات التي لم تستطع أن ترى  وفيقة في موتها جثة تتحلَّل، وتتعفن، وتتآكل في قبر مظلم رطب كريه.  بل إن  فعل الحب قد حَوَّلَ كل تلك القباحة الموضوعية إلى جمال أخاذ.

       لا يمكن للمحبوب الاّ أن يكون جميلا، ولا يمكن للحبيب الاّ  أن يرى في محبوبه جمالا. لم تعد وفيقة الميتة، الملفوفة بالكفن الأخضر المعتاد، في قبرها جثة متيبسة باردة، بل:

       ” ووفيقة

                       تتمطى في سرير من شعاع القمر

                       زنبقي أخضر

                       في شحوب دامع، فيه ابتسام

                       مثل أفق من ضياء و ظلام “

       ولكن، هل هذا الفيض الجمالي من جوانية الشاعر فعل تهويم وهلوسة، أم انه وجود شعري حقيقي؟  واقع الحال، إن الشاعر في صميم اصراره على جمالية وجود وفيقة هذا، يظل  يـدرك أنها ميتة، وأنها ليست من الأحياء.  و لذا، فكل هذه  الروعة الجمالية التي يراها من خلالها ليست سوى روعة حزينة  ملأى بالموت:

   ” و الحديقة

                       سقسق الليل عليها في اكتئاب

                       مثل نافورة عطر و شراب

                       و خيال و حقيقة

                       فيه برد الموت باك “

       يُدْخِلُ السيَّاب متلقِّي نصِّه، عبر هـذه اللُّغة/الكتابة، إلى العالم الذَّاتـيِّ للشَّاعر، إلى حقيقته الموجودة، ولكن غير المُدْرَكَة من قِبَلِ الآخر؛ إلى حيث الأمور غـير ما هي عليه في الواقع الموضوعيِّالذي طالما عرفه الآخر أو أدركه. وهذا الواقع الذَّاتيُّ، المختلِف جذريَّاً عن الواقع الموضوعيِّ، لا يحتاج إلى إيضاحٍ، إذ الإيضاحُ أمر موضوعيٌّ؛ و لا يحتاج إلى تأويلٍ أوتجميل؛ فتأويلهُ أو جماله ينبع منه و لا ينفصل عنه.  السيَّاب، هنا، حطّم الحدث الموضوعيَّ، أذابَهُ في جوانيَّته الشَّاعريّة؛ ثم قدّمه إلى المُسْتَقْبِل، بفِعْلَي التَّحطيم والإذابةِ، حدثاً جديداً متجذِّراً في جدَّته تجذُّراً هو غاية وجود اللُّغة/الكتابةِ الإبداعيَّة في تَشَكُّلها الاكتشافي.

*نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى