منتديات

“الحلقة الثالثة” من: [رؤيةٌ إلى التَّعامل مع “الآخَرِ” و”المُخْتَلِفِ” وِفاقاً للمفهوم القرآني]

الدكتور وجيه فانوس

<سلسلةٌ تسعى إلى تبيان مناهج من التفاعل الحضاري الإنساني في النَّصِّ القرآني>
(العملانيَّة الحياتيَّة لـ”الآخر” و”المختلف”)

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

قد تتجلَّى التَّرجمة الفعليَّة، لمفهومي “الآخر” و”المختلف”، في حياة الإنسان على وجه الأرض، عبر أمرين اثنين أساسين:
أوَّلاً، تأكيد أهميَّة فاعليَّة الآخرِيَّة والاختلاف بين خلق الله.
ثانياً، تأكيد الحق في آخرِيَّةِ والاختلاف، بغض النَّظر عن النَّتائج المتحصِّلة من كلِّ منهما.
لعلّ ما يؤكِّد هذا ويوضِّحه ما ورد، بقوله تعالى، في عدد من آيات سور النَّص القرآني المتعلِّقة بالاختلاف بين النَّاس. فمنها ما يشير إلى إرادة واضحة وحكمة من الله تعالى في جعل النَّاس مختلفين، وبمعنى آخر متنوِّعين فيما بينهم؛ ومثال هذا ما ورد في الآية 48 من سورة البقرة، بقوله تعالى”لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ”. ومنها ما يؤكِّد الغاية من الاختلاف/التَّنوُّع بين مجموعات النَّاس قاطبة، كما ورد في الآية 13 من سورة الحجرات “يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”. ومنها ما يشير إلى أن الحَكَمَ في الاختلاف/التَّنوُّع ليس سوى الله وحده، كما جاء في الآية 55 من سورة آل عمران، بقوله تعالى “ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون”.
من مبادئ هذه التَّرجمة الفعليَّة، ما يشير إليه النَّص القرآني في الآية 256 من سورة البقرة “لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين”؛ وقد تمَّت ممارسة هذا المبدأ من قبلِ رسول الله محمَّد، عندما علَّمه الله، عبر سورة “الكافرون”، أن يحاور الكافرين الذين أصرُّوا على التَّمسُّك برأيهم في رفض الإسلام، من خلال ” قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ() لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ() وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ() وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ() وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ() لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ().
يمكن الاستنتاج، من كل ما سبق، أنَّ المنهج القرآني للإسلام يؤكِّد، في مجالي الآخَرِيَّة والاختلاف، حقَّ كلِّ واحدٍ من أطراف الاخَرِيَّة أو الاختلاف في عيش آخريته أو اختلافه؛ وما الآخَريَّة والاختلاف، ههنا، إلاَّ من سنن الله في خلقه، وفعل توحيد لوجوده وممارسة حمد وشكر له على نِعَمِه، وفضاء اجتهاد في العبادة للفوز برحمته ورضاه. ولعل في ما ورد في الآية 34 من سورة “الحج” ما يشير إلى هذا الاستنتاج، إذ يقول رب العالمين “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِين”. لكن، لا بدَّ لكل واحدٍ من هذه الأطراف من أن يتحمَّل المسؤوليَّة الكاملة في حضرة الله عن ممارسته لهذا الاختلاف أو تلك الآخَرِيَّة؛ ولعلَّ مصداق هذا ما جاء في سورة “الزلزلة” بقوله تعالى “يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ() فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ() وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ() . الجدير ذكره، في هذا المجال من الحديث عن تأكيد المنهج القرآني للإسلام على الحق في الآخَرِيَّة والاختلاف، أن النَّص القرآني يُفَرِّقُ بين الآخر والمختلف اللذان يمكن الالتقاء معهما على احترام الآخريَّة والاختلاف، والآخر والمختلف اللذان لا يُقران هذا الحق، بل يسعى كلٌّ منهما إلى إلغاء كل ما هو آخر أو مختلف عنه. فلقد ورد في الآيتين 8 و9 من سورة المُمْتَحِنَة “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ() إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون”. ومن هنا، يمكن الاستنتاج بأنَّ النَّص القرآني للمنهج الإسلامي يفرِّق بين الآخر والمختلف من جهة، والعدو من جهة أخرى. لكُلٍّ من الآخر أوالمختلف الحق في ممارسة آخريته أواختلافه، ضمن حدود احترامه لحق سواه في مثل هذه الممارسة؛ أمَّا عند انتفاء اعتراف الآخر أوالمختلف بحق سواه في ممارسة آخريَّتهم أواختلافهم، فإنَّه لا يعود مجرَّد آخر أو مختلف، بل يتحوَّل إلى عدو، تجب مقاتلته دفاعاً عن الذات وإحقاقا للدعوة في الآخَرِيَّة والاختلاف.

رئيس المركز الثقافي الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى