لمناسبة ذكراه العاشرة د. حليم اليازجي أٌستاذ لا ينسى
الدكتور وجيه فانوس
لمناسبة ذكراه العاشرة د. حليم اليازجي أٌستاذ لا ينسى
التقيتُ «حليم اليازجي» للمرَّة الأولى سنة 1966؛ كان، عهدذاك، أستاذاً لمادَّتي «آداب اللُّغةِ العربيَّةِ» و«تاريخ العلوم عند العرب» المقرَّرتين ضمن منهج التَّعليم الرَّسمي لتلاميذ الصفوف النِّهائيَّة، في «ثانويَّة رمل الظَّريف الرَّسميَّة» في بيروت. كنتُ، في تلك الأيام، تلميذا في تلك الثانويَّة، وكان هو من بين نخبة أساتذة يتركون بصماتهم المشرقة على مسيرة التَّربية والتَّعليم في لبنان. وكان حليم اليازجي، في هذه المحطَّةِ من حياته، مشارِكاً في وضع البرامج الرَّسميَّة لهذه المواد التدريسيَّة، كما كان عضواً في اللَّجنة العُليا لامتحانات نهاية الدُّروس الثَّانويَّة للتَّعليم الرَّسمي في لبنان.
كانت «ثانويَّة رمل الظَّريف الرَّسميَّة»، تشغل مبنىً أنيقاً في شارعِ «مدحت باشا»، من منطقة «الرَّمل الظَّريف في بيروت»؛ وكانت غالبيَّة تلاميذها من أبناء الطَّبقات الفقيرة والشَّعبيَّة؛ كما كانت الثَّانويَة الحكوميَّة الوحيدة في بيروت، التي تُقدِّم دروسَ العلومِ والرِّياضياتِ وعِلْمِ النَّفسِ، باللُّغةِ الإنكليزيَّة؛ إضافةً إلى اللُّغةِ الفرنسيَّة، التي كانت وحدها المعتمدة لتدريسِ هذه المُقرَّراتِ في الثانويَّات الحكوميَّة الأخرى. وكان الأساتذةُ في «ثانويَّة الرَّمل الظَّريف»، كوكبةً رائعةً من خِرِّيجي «دارِ المُعلِّمينَ العُليا» وكثيرٍ من الجامعاتِ الكُبرى في لبنان والخارج؛ تَعدَّدت مناهِلُ معارفِهم وتنوَّعت توجُّهاتهم الثَّقافيَّة، كما تعدَّدت مشاربهم السِّياسيَّة ورؤاهم الوطنيَّة، فضلاً عن تنوُّع انتماءاتهم المناطقيَّة والدِّينيَّة والمذهبيَّة؛ كما كانت كثرة منهم من المهندسين والأطباء المتعاقدين للتَّدريس في الثانوية.
عرفتُ «الأستاذ حليم»، في تلكَ المرحلةِ، إذ كُنْتُ تلميذاً في صفوفِ المرحلةِ الثانويَّةِ، وكانت معه، في تلك الثَّانويَّةِ، كوكبةٌ من أساطينِ التَّعليمِ الثَّانوي في لبنان؛ وكان لنا، نحن تلاميذ «رمل الظَّريف»، أن نتَعَرَّفَ مِن حضورِ هذه الكوكبةِ، وقبل أنْ نَقْرأَ ولَوْ حَرْفاً واحِداً في أيِّ واحدةٍ من صفحاتِ كُتُبِنا المدرسيَّةِ، كيفَ يكونُ لبنانُ ناجِحاً، بل متفوِّقاً، في تآلُفِ ناسِهِ ضمن تنوُّعاتِهم الثَّقافِيَّةِ، وكيفَ يشكِّلُ التَّعدُّدُ الدِّينيَّ بين جماعاتِ ناسه، تكاملاً اجتماعياً ثقافِياً وأخلاقِيَّاً، وكيفَ الاختلافُ في الانتِماء السِّياسيِّ بين النَّاس، أداةً للتَّنافُسِ فيمت بينهم لتعزيزِ ما هو وطنيٌّ.
اجتمع، مع حليم اليازجي، اليساريِّ العقيدة السِّياسيَّةِ والأرثذوكسيِّ المذهب الدِّيني بالولادة، في تلك «الثَّانويَّةِ»، الشَّيخ يحي الرَّافعي، ذو الأصولِ العريقةِ المتجذِّرةِ في طرابُلْسَ الفيحاء، وهو المُسلِمِ السُّنِّيِّ، ولادةً وتخصُّصاً معرِفِيَّاً، والمنفتِح ثقافِيَّاً على فيوضات المعارف كافَّةً. وكان للثانويَّةِ، مع هذين الأستاذين، العَلمُ الكبيرُ الدكتور عبد اللهُ الطَّبَّاع، المتخصِّصُ في علومِ الأدبِ العربيِّ وتاريخِهِ، والمحافِظ، مع شقيقهِ الدكتور عمر الطبَّاع، على مفاهيم التُّراث العربيِّ وأصولِهِ؛ وإلى جانبِهِما كان الأستاذ إلياس مطر، المنطلِق في رحابِ رؤى اليسار السَّياسيِّ، والنَّاهِد إلى معارج التَّجديد الأدبي العربِيِّ، صُحْبَةَ خالد عبد الصَّمد، ابن عمَّاطور. ولقد اجتمع، في هذه الكوكبة كذلك، الصَّيدليُّ رافي باليان، وهو الأستاذ الأرمنيُّ القادِم من منطقة برج حمُّود، الذي درَّس لنا علوم الكيمياء؛ إلى جانبِ الدكتور منح حماده، الذي كنا نتلقَّى عليهِ علوم الأحياء (البيولوجي)، وهو الطَّبيبُ ابن بعقلين الشَّامخةِ باعتزازها بفكر أهل التَّوحيد ومسلكهم، ومعه زاهي ريحاني، الذي صار، لاحقاً، من كبار علماء الأحياء في الجامعات الأميركيَّة. وكان أستاذ الرِّياضيَّات، سامي أدهم، حامي حمى الفِكر التَّجريدي، بجميع تنوُّعاتِهِ وتعدُّدِ مذاهبه وأعماقِ تشكُّلاتِهِ الرِّياضيَّةِ، ويزامله، في تدريس الرياضيات، ابن بيروت، المهندس عاطف سنُّو. ولا يمكن للأمر أن يقفَ عند هذا الحدِّ من التَّنَوُّعِ والغنى المعطائين، إذ كانت، إلى جانب هؤلاء، الأستاذة «جميلة خوري»، بِرُقِّيِّها الحضارِيِّ وثقافتها الإنكليزيَّةِ الواسعةِ، تأخذ بأيدينا إلى عوالم اللُّغة الإنكليزيَّة وآدابها، فندخُلُ معها إلى أقداسِ شكسبير، ونسرحُ في رحاب ميلتون ودرايدن وكوليردج؛ وقد سبقها، داجاد كاسبيان، في التَّمهيد لنا بشرحٍ دقيقٍ لمفاهيم اللغةِ الإنكليزية وقواعدها. ولقد كان لهذا الجَمْعُ الرائعِ والمجيدِ، من نُخَبِّ أهلِ العِلم، ومن مَعَهُم مِن سائرِ المدرِّسين، يعملون بإدارةِ الكبيرِ، حسن دوغان، ابن بيروت الغالي، يعاونه حسين عطية، ابن الجنوب، ودرويش الطبَّال، العصامي الفَذْ، وسامي الحسامي، ابن جبيل الذي توطَّن أهله بيروت منذ دهور.
عاشَت هذه الثَّانويَّة، التي كانت تقعُ مبانيها في منطقة «الرَّمل الظَّريف» مِن مدينةِ بيروت، عِزَّاً، مع «ثانويَّة البِرِّ والإحسان»، التي كانت في منطقةِ «الطريق الجديدة»، انماز بأمرينِ معاً؛ الانتشارُ الشَّعبيُّ، والتَّفوُّق المعرفي. تجلَّى الانتشار الشَّعبي، في الإقبال الجماهيري العارِم، وخاصة من أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة، بالإقبالِ على تلقِّي العِلمِ في رِحاب كلِّ واحدة منهما؛ فكانت «ثانويةُ الرَّملِ الظَّريفِ»، مَقْصَدَ مَن كانت الإنكليزيَّة، لغتهم الدراسية الثَّانية، في حين كانت «ثانوية البِر والإحسان»، مَقْصَدَ جماعةِ اللُّغة الفرنسيَّة. تشكَّلت ملامحُ التَّفوُّقِ العِلْمِي، ههُنا، عبر مظهرين أساسين؛ أحدهما، تَجَمُّعٌ كبيرٌ لأساتذةٍ هم كِبارُ المُختصِّين في تدريس المُقرَّراتِ التَّعليميَّةِ للمرحلة الدِّراسيَّةِ الثَّانويَّةِ، بل إنَّ كثيرين منهم شكَّلوا المجموعاتِ العلميَّةِ التي وَضَعَت كُتُبَ التَّدريسِ الخاصَّةِ بهذه المُقرَّراتِ، وهي، عَيْنُها، الكُتُبُ التي اعتمدتها معظم الثَّانويَّات الخاصَّةِ في لبنان، بما فيها تلكَ المشهورةُ بعراقتِها التَّدريسيَّة وبالنُّخَبِ الاجتماعيَّةِ الموسِرَةِ، التي ينتمي مُعظمُ تلاميذها إليها؛ أمَّا المظهرُ الآخرُ للتَّفَوُّقِ، في هذا المجالِ، فكان في أنَّ طلاَّبَ هاتينِ الثَّانويتين الرَّسميتين، ينافسون في النَّتائج المُشرِّفةِ التي يحصِّلوناها في الامتحانات الرسميَّة، تلكَ التي يَسعى إلى تَحصيلها طلاَّبُ كُبريات تلكَ الثَّانويَّات الخاصَّة العريقةِ في لبنان. لقد كان هذا الإنميازُ، وللحقِّ والتَّاريخِ، مِن أبرزِ مؤشِّراتِ نَجاحِ التَّعليمِ الرَّسمي في لبنان زمنئذٍ؛ ولعلَّ في هذا ما كانَ دافِعاً لأنْ تفتحَ وزارةُ «التَّربيةِ والفنونِ الجميلةِ»، كما كان اسمُها وقتذاك، أبوابَ صُفوفِ الثَّانويَّاتِ الرَّسميةِ، للمرَّةِ الأولى في تاريخها، للتَّعليم المختلَطِ، في تلكَ البيئات الشَّعبِيَّةِ العابقةِ بكثيرٍ من تقاليدِ الفصلِ المجتمعيِّ بينَ الذُّكورِ والأناثِ؛ فكانت ثانوية «رمل الظَّريف» في الرُّبع الأخير من ستينات القرن العشرين، أوَّل ثانويَّة رسميَّة في هذا المجال.
تَمْضي الأيَّام، فألتقي سنة 1980 بـ «الأستاذ حليم»، الذي كنت أعرفه من قبل، زميلاً لي في الجامعة اللبنانيَّة؛ ولكنه، هذه المرَّة، «الدكتور حليم اليازجي»، الأستاذ في قسم اللغة العربيَّةِ وآدابها في كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة. اجتمعنا في الفرع الأوَّل من هذه الكليَّة؛ في وقتٍ تعاظمت فيه وحشيَّة تقطيع أوصال لبنان السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، وتعاظمَ كثيرٌ مِن السَّعي الدَّوليِّ إلى محاولاتِ تفتيتِهِ أو تقسيمه. بدى وكأنَّ ثمَّة مباراةِ تفريغٍ لمعظم المناطقِ في لبنان من أي تلاقٍ فِعْلِيٍّ يؤكِّد العيشَ الواحِد في هذا البلدِ. وكان للجامعةِ أن تعيشَ، في بعضِ الأحيانِ، أهوالَ هذا البؤسِ المُفجِع، من تَهديدٍ يطالُ بعض أساتذتها، وتخويفٍ ينالُ كثيراً من طلاَّبها، وتعويقاتٍ عديدة تسعى للنَّيل من كيانِها.
كان حليم، وهو المسيحي الأرثذوكسي ولادةً؛ مُصِرَّاً، في هذه المحطَّة من تاريخه،على البقاء في الفرع الأوَّل من الكليَّة، الفرع الأم، كما كنَّا نسميه جميعا؛ الفرع الذي هجره بعضهم، في تلك المرحلة، جرَّأ ما كان يحصل من تطوُّرات «أمنيَّة» بين اللُّبنانيين، إلى فروع أخرى مستحدثة زمنذاك. وفي الفرع الأول هذا، كان حليم ينطلق من رؤية إنسانيَّة واضحة في ذهنه ومن موقف وطنيٍّ، لا لبس فيه في تفكيره، ومن بعد سياسي، لا شكَّ عنده الالتزام به؛ لكن الأهم أنَّ حليما كان يعيش كلَّ هذه الأبعاد بممارسة منهجيَّة، طبعت شخصيَّته ودمغت وجوده؛ ليس في مسيرة الفرع الأول من كليَّة الآداب والعلوم الانسانيَّة، بل في تاريخ الجامعة اللبنانيَّة برمَّته ومسيرة الفكر الوطني في لبنان.
لم يشأ الدكتور حليم اليازجي أن ينتقل للتَّدريس في فرع آخر لكليَّة الآداب؛ فهو، وكما كان يقول ويكرر القول، مؤمن بلبنان وطناً للعلم ومنهلاً للأكاديميا أيَّاً كان التَّباين الدِّيني أو المذهبي أو السِّياسي بين مناطقه. فلبنان، عند حليم اليازجي، ملتقى لجميع اللُّبنانيين؛ أيَّاً كانت صبغاتهم الدِّينية أو الفكريَّة أو السِّياسيَّة. آمن حليم اليازجي أن لا بدَّ من عيشِ المرحلة بدمقراطيَّة، حتى ولو كانت قوى العنف المسلَّح والخطفُ على الهويَّة والتَّصنيف الطَّائفي والمذهبي قد سيطرت على الشَّارع، الذي كان يلهث للقبض على نواصي الجامعة واحتلال رحاب الأكاديما فيها. أصرَّ «حليم» على الاستمرار في العمل في الفرع الأول، وأصرَّ على أن يكون حضوره مدوِّيا في هذا الفرع، عبر تدريسه مقرري «حضارة العصور العباسيَّة» و»أدب النَّهضة العربيَّة»، بكلِّ ما في هذين المقرَّرين من فكر دقيق وقضايا حضاريَّة شائكة. كان «حليم»، في كلِّ لحظة من وجوده في الفرع الأوَّل، في امتحان مع الذَّات والزُّملاء والطلاَّب والشَّارع. وظلَّ الدكتور «حليم اليازجي» يحقِّق المراتب العليا للنَّجاح في كلِّ هذه الامتحانات.
كانت النِّقاشات السياسيَّة والفكريَّة، بين ناس الجامعة، في تلك المرحلة، كثيرة متشعِّبة وخانقة في كثير من المرَّات؛ وكان الجدال، حلواً في بعض الأحيان ومرَّا علقماً في أحيان أخرى؛ وكان الشَّارع يغلي ضاجَّاً بألف ترهَّة وحماقة. وكان «حليم اليازجي» ثابتا في حضوره، متمسِّكا بالتزامه، قويَّاً بمنهجه الحياتي الرَّائع. فرغم كل خلاف في نقاش، ورغم أيِّ تردٍّ في جدال، ورغم كل المظاهر المظلمة، فإنَّ «حليم اليازجي» ظلَّ محاوراً من طراز رفيع، يدافع بحواراته مع الزُّملاء والطلاَّب، وعبر محاضراته، عن الحقِّ في المواطنيَّة وعن أساسيَّة العيش الإيجابيِّ، بين أبناء الوطن؛ وعن الحقِّ في الاختلاف والتنوُّع، ضمن روابط الوطن وناسه.
ابتسامة «حليم» وطول أناته شكَّلت بلسم الأحاديث والمحاورات؛ فَعَشِقَهُ الطلاَّب وتحلَّق حوله الزُّملاء، وإن كان من تباين في الرَّأي، بينه وبين الآخرين، فإنَّ «حليماً» لم يجعل من هذا التَّباين باباً للقطيعة، بل حوَّله ليكون مدخلاً للتَّواصل والبحث عن النِّقاط المشتركة التي يمكن أن تشكِّل منطلقا للقاء جديد. فلم أعرف، أبدا، أنَّ «حليماً» وصل إلى عداء مع أحد من الزُّملاء، حتَّى مع أشد المعارضين أو المعترضين على ما كان يؤمن به عقائديَّاً أو يراه سياسيَّاً؛ ولم أعرف أحداً من الطلابً ادَّعى، ولو مرَّة، أنَّ الدكتور «حليم اليازجي»، لم يتعامل معه بغير التَّقاليد المثلى للأكاديميا وأصول البحث عن المعرفة. «حليم اليازجي» كان ديمقراطيَّاً بامتياز، بل كان مثال الدِّيمقراطيَّة، في مراحل سادت فيها همجيَّة الرَّصاص ورعونة الغضب الأعمى. «حليم اليازجي»، في الجامعة، كان حليما وهاديا ومثالا.
لطالما أطلق حليمٌ لطموحاته الكبرى العنان، إذا كان الحالُ العام يميل إلى شيء من الاستقرار؛ فكان يحكي عن النَّهضة العربيَّة ويناقش، بفكر منهجيٍّ بنَّاءٍ تجاربها، وينظر إلى الحاضر، عبر أمثولاتها، ويندفع، بابتسامةٍ قصيرةٍ وضحكةٍ متقطِّعةٍ ومَحطِّ كلام بلفظةِ «إيْ»، اشتُهِرَ به، يستفسر عبره عن موقف مُحَدثِّه؛ راسماً رؤاه في مجالاتِ ما يراهُ من مستقبلٍ للفكر العربي وحقيقة الفكر الوطنيِّ. صحيحٌ أنَّ «حليم اليازجي» كان صاحب التزام سياسيٍّ بيِّنٍ؛ بيد أنَّ التزامه، هذا، لم يحجب عنه حقَّ الآخرين في التزامهم السِّياسيِّ، ولم يمكِّنه من تحويل الخصومة السِّياسيَّة إلى عداوة وطنية.
كان الوطن، بدمقراطيَّة «حليم اليازجيِّ» ووعيه الفكريِّ، وعاءً للسِّياسات، ولم تكن السِّياسة وعاءً عنده للوطن. ومن هذا المنطلق كانت مشاركاته في المعارك النِّقابيَّة التي خاضها أساتذة الجامعة اللبنانيَّة وطلاَّبها؛ بل من هذا المنطلق كانت رعايته لنشاطات فكريَّة ثقافيَّة قد لا تتَّفق، أحياناً، مع التزامه السِّياسي، لكنها تستجيب لرحابةِ ديمقراطيَّته الفكريَّة. وهكذا تسنَّمَ «حليم اليازجي» أستاذيَّة كرسي الدِّيمقراطيَّة والوطنيَّة والانفتاح الفكري، في رحاب الجامعة؛ وهكذا استحق ، كذلك، رتبة الأستاذيَّة في الزَّمالة الجامعيَّة المُثلى فيها.
كان لحليم اليازجي، ووفاقا لقانون العمل في الجامعة، أن يترك التَّدريس في الجامعة اللبنانيَّة سنة 1996، بعد أن كان قد دخل إليها سنة 1972. شغر كُرسيُّ «حليم اليازجي» التَّدريسي في الجامعة، منذ ذلك العهد؛ وما انفكَّ منهج «حليم اليازجي»، في ذلك الكرسي شاغراً. ازداد عدد المتقاعدين من التَّدريس في الجامعة واحداً، وما برح عدد العاملين في التَّدريس فيها، بغياب «حليم اليازجي» ناقصا.
توجَّه حليم إلى قرية «البربارة»، من «قضاء جُبَيل» في محافظة جبل لبنان، يمتِّع سني تقاعده ببحرها وجبلها وطيب مناخها. فتح دارته الحلوة الفسيحة للأصدقاء؛ وما مِن مرَّة زرته فيها هناك، أفرح بحيويَّة حضوره، وأغتني بعمق آرائه، وأسعد بطعام مائدته، وأترع كأسي من شرابه، إلاَّ وكان يسأل عن الزُّملاء في الجامعة، فردا فردا؛ بل طالما ألحَّ على أن يكون معي، في زيارتي التَّالية له، مجموعة منهم أو أحدهم على الأقل. «حليم اليازجي»، محبٌّ بغير حدود؛ وهو في حبِّه لزملائه حضاريٌّ إلى أبعد حد.
قبل ثلاثة أسابيع من رحيله اتَّصل بي «حليم» هاتفيَّا؛ كانت رياح المذهبيَّة بدأت تسعى لتشميرٍ ما عن سواعدها في البلد. تأسَّف للحال، وقال مداعبا، «لهفُ نفسي عليكَ، يا وجيه؛ أنتَ وُلِدْتَ على مذهب دينيٍّ مسلمٍ، غير المذهب المسلم الذي ولدت عليه زوجك؛ باللَّه عليكما، كيف سيصيرُ الحال بينكما؟!». ضحكتُ للدُّعابة، وسمعتُ ضحكةَ «حليم» باكيةً على وطنٍ طالما آمن بضرورةِ عيشِ الدِّيمقراطيَّةِ فيه وأساسيَّةِ حقِّ الآخرِ في العيشِ في رِحابه.
———————-
* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية