أدب وفن

قنبلة الدم بقلم الكاتبة اليمنية يسرا البشيري

قنبلة الدم
بقلم الكاتبة اليمنية
يسرا البشيري

في الخامس من نوفمبر من عام 2015م أشرقت الشمس على مدينة صنعاء الفاتنة، مسدلة خيوطها على أكتافها ليبدأ الناس يوما جديدًا، وكالعادة تبدأ الحركة في الأزقة والأسواق ويتجمع الأطفال في أسراب لِلَّعبِ في شوارعها وحاراتها وذلك ما يبعث روح الحياة، بالرُّغم من وابل القصف المتكرر ليلَا ونهارًا، إلاّ أنها لم تتوقف عن الحركة، إنها مدينة السلام والحب، المدينة التي تحتضن اليمنيين القادمين من شتى المحافظات، صنعاء الشامخة في تاريخ الحضارة.
استيقظت على صراخ أمي لي كالعادة فأنا من الذين يعشقون النوم، إنها التاسعة صباحًا هيا… انهضي! استيقظت على وجه أخي الصغير فقمت بتقبيله، كان شهيًا للغاية إذ لا يكون صباحي جميلًا دون أن أتذوق خدوده الطرية.
خرجت من الغرفة أبحث عن الجميع كانوا داخل المطبخ أمي وأختي وأخي الذي يصغرني بعام واحد أما أختي فكانت تكبرني بعامين، كان الجميع يعدون طعام الإفطار وأصواتهم تملأ المنزل بين عراك وضحك ومشاغبة، أما أبي فقد استيقظ باكرًا كعادته للعمل في البناء، لا يعود إلا ليلًا، منهكًا متعبًا جدًا؛ حتى يوفر لنا مقومات العيش، كان العمل شبه متوقف مع الأوضاع الحالية، لكن أبي لم يستسلم بل ظل يبحث عن عمل، كان يبحث في كل مكان؛ حتى لا يجعلنا نحتاج إلى أحد، كم أنا فخورة به!
اجتمعنا على طعام الإفطار جميعًا والضحكات والمشاكسات بيني وبين أخي لا تنتهي، وضحكة أخي الصغير تضيف نكهة مميزة دائمًا، أتممنا ونهض الجميع حتى نبدأ يومًا جديدًا لا نعلم خفاياه، هم أخي بالخروج وكالعادة حاولت أمي منعه خوفًا من أي قصف مفاجئ، وانتهى العراك بخروج أخي وعدم الاكتراث لخوف أمي، تستودعه الله وتطمئن، ثم تتجهز للخروج إلى السوق لشراء حاجيات الغداء، وأقوم أنا وأختي بتنظيف البيت والعناية بأخي الصغير حتى تأتي، أكملت عملي بالبيت وأمسكت جوالي؛ لأتصفح مواقع التواصل الاجتماعي وجدت رسالة من صديقتي بأن نجتمع اليوم في منزلها، فرحت كثيرًا للحظة، ثم فكرت بأمي، هل ستسمح لي؟ انتظرت حتى عادت، قمت بتقبيلها وشممت ريحتها، واحتضنتها بقوة، ردت أمي باستغراب ما الذي تريدينه اليوم؟ اعترفي! ضحكتُ… أرغب بالذهاب إلى صديقتي ليلى! أرجوكِ أمي، نظرَت إلى عينيّ بقوة وهزت رأسها موافقة.
قفزت من الفرح واحتضنتها، أسرعت للمطبخ والفرحة تغمرني، سوف أُعِدُّ طعام الغداء بسرعة، وأخطط فيما سنفعل أنا وصديقتي عندما نلتقي.
رُفع أذان الظهر، انتظرنا أخي قليلًا؛ لنتناول معًا الغداء، وما هي إلا دقائق حتى وصل، كنت خائفة أن تخبر أمي أخي أنني سأذهب إلى لقاء صديقتي
ربما سيمنعني بسبب الأوضاع، لحسـن حظي لم تخبره، أكـملنا تناول الغداء وذهـبت إلى غرفتي كي أصنع لصديقتي شيئًا أهديها إياه، فتشت في صندوقي الخشبي عن الخيوط، وخطرت برأسي فكرة، سوف أصنع لها باندا صغيرًا من الكروشيه فهي تعشق هذا الكائن، بدأت بصناعته، مرت ساعتين وأنا أصنعه حتى أكملت بعد صلاة العصر، أدخلته في علبة جميلة وتجهزت وذهبت مسرعة.
طرقتُ الباب، أجابتني وفتحَت الباب فارتميت بحضنها، كان الشوق أكبرَ من أن أحتضنها لدقائق قليلة، نزلت دموعي ربما كانت دموع الفرح، لقد التقينا بعد أربعة أشهر من الغياب، فقد كانت نازحة في قريتها بسبب الحرب، جلسنا في غرفتها وأخرجت العلبة وأعطيتها، ففتحتها وصرخت من الفرحة ثم احتضنتني وذهبت مسرعة إلى والدتها؛ كي تريَها الباندا الصغير، فسرّت كثيرًا بفرحتها هذه، وقامت بضيافتي، وجلسنا بالقرب من النافذة ننظر إلى الشارع ونتحدث عن أربعة أشهر مرت.
نظرت في عينيَّ، وقالت: هيا نخرج إلى السوق قليلًا، لقد سئمت البيت لم أستطع أن أعارضها، ذهبَت لتستأذن والدتها وتجهزنا ثم خرجنا، كان الجو خياليًا جدًا، مرت ساعة دون أن نشعر بها، ها قد حان موعد العودة إلى منزلي، قررت ليلى بأن تقوم بإيصالي فوافقت، لحظات ونسمع صوت طائرة كانت منخفضة، وصوتها كان مرتفعًا ومرعبًا، لم نكمل المسير من الخوف، ثوانٍ ونسمع صوت الصاروخ وقت نزوله، هربنا إلى زقاق لعله يحمينا كان الصاروخ متجهًا نحو جبل نقم الذي كنا نسكن جميعًا تحته، هرب الأطفال من صوت الصاروخ عند نزوله، وبقيت وصديقتي مختبئتين في الزقاق، قررنا الافتراق من هنا، فلنعد إلى منازلنا ونتشجع قبل أن يزداد الوضع سوءًا، مَشَينا قليلًا و إذا بمخزن الأسلحة في الجبل يتفجر بشراسة، كانت الصواريخ تتطاير بكثافة في كل مكان، الصوت مرعب جدًا، أمسكت يد ليلى بقوة والصمت يحتلنا كيف سنرجع؟ وأين نذهب؟
كان الجميع يهرب… فقررنا أن نتشجع ونهرب، نظرت في عينيها، كانت خائفة جدًا لكنها تكابر، أمسكت يدها وأسرعنا في الشوارع الرئيسة، كانت مليئة بالنساء والأطفال، الجميع يهرب من انفجارات المخازن، دقائق وعادت تلك الطائرة تحمل الموت معها، أكملنا المسير أنا وليلى، لم تمر دقيقة واحدة حتى شنت الطائرة اللعينة غارتها بالقنابل النيوترونية المحرمة، فهزت مدينة صنعاء بأكملها.
عندما اصطدمت تلك القنبلة بالأرض صعدت إلى السماء كرة ضخمة ملتهبة كانت القنبلة تحفر الجبل، حينها وقفت أنا وليلى ننتظر الموت المحتم فسماء منطقتنا ملتهبة، لم نعد نرى لون السماء الأزرق، أصبحت السماء حمراء ملتهبة وأصوات المخازن تتفجر، أما القنبلة فقد أرادت الوصول إلى الأعماق حينها شعرت بأن الوضع مميت، أمسكت يد ليلى وهربت من الموت، ثوان وانفجرت القنبلة، كان المشهد قاسيًا، الحروف لا تكفي لوصف ذلك الوضع، كان الهواء الذي نتنفسه حممًا من النار والشظايا، والمكان شبيهًا بكتلة ملتهبة كبيرة، لا أحد سينجو، انفجرت وما زلت ممسكة بيد ليلى، الشظايا اخترقت جسدينا الاثنتين لكن ما زلنا على قيد الحياة ارتميت أرضًا، لم أكن أرى سوى الدم حولي، كان أشبه بالحلم الكئيب وأنت تحاول الهروب منه لتعلم أنه مجرد حلم وترتاح، لكنه لم يكن حلمًا، إنه واقع مخيف كنت شبه فاقدة للوعي، أرى فقط أناسًا يهربون، وجثثًا على الأرض وصراخ أطفال ونساء وسيارات مسرعة ودخان أسود يملأ السماء، شعرت حينها أني أودع الحياة، التفت يمنةً ونظرت لليلى كانت مغمضة عينيها وبجانبها حقيبتها وميدالية الباندا عليها، حاولت أن أنهض لكن دون جدوى، هناك ألم في ظهري حاولت أن أزحف إليها، زحفت وأنا أشعر بأن الأرض تهتز وتدور وأنه سوف يغمى علي، زحفت وزحفت حتى وصلت إليها، تفحصتها لكنها لم تكن بكامل جسدها فقد بُتِرت قدمها اليمنى وغمر الدم ثيابها، أمسكت وجهها ولم أعد أتذكر شيئًا حتى استيقظت وأنا على سرير المستشفى، كانت الأجهزة من حولي وجهاز التنفس على فمي وكأني صحوت من كابوس مخيف، دققت في المكان وأدركت أني ما زلت على قيد الحياة، وأنني الآن في غرفة العمليات، كانت أول كلمات أتمتم بها: ليلى.. أمي… أبي… إخوتي أين أنتم؟ دخلت أختي مسرعة: لا تخافي، إصابتك خفيفة دخلت شظية في الجهة اليمنى من ظهرك، لقد تمت العملية بنجاح، قضيتِ في غرفة العمليات ثلاث ساعات والدكتور طمأننا أنها لم تخترق جسدك، لقد كانت سطحية والجميع بخير سألتها عن وضع ليلى!
-ليلى بترت قدمها ما زالت على قيد الحياة لكن!
سألتها لكن ماذا؟ فأجابت: ربما سوف تقطع الرجل الأخرى؛ لأنها مهشمة!
نهضتُ أريد الذهاب لكن أختي منعتني، كنت أريد فقط أن أكون بجانبها لأخفف عنها، لكن للأسف لم أستطع.
لم أتقبَّل ما حصل، فقد كانت المشاهد تُعرَضُ أمامي كل لحظة، كنت أمسك رأسي بقوة وكأن تلك المشاهد تُمَثِّلُ صداعًا ينهش جمجمتي.
المستشفى مليء بالجرحى والوفَيَات بالمئات، كان البكاء والصراخ سيِّدَا الموقف.
كانت ليلة طويلة جدا مليئة بالألم والوجع والفقد والصدمة، كم مِن أرواح أُزهقت! ما ذنبهم يُحرقون ويُقطعون بهذا الشكل الوحشي؟
قضَيتُ تلك الليلة أبكي بصمت على وضع ليلى، كانت كل عائلتي بجانبي، ودموع أمي التي لم تتوقف، كنت أريد أن تمسك يدي فقط؛ حتى أشعر أني في الواقع، فما جرى كان شبيهًا بالحلم، كنت أنتظر الصباح حتى ألمح ليلى ما كنت لأنام لولا العلاجات التي كانت تخدر جسدي.
أشرقت شمس الصباح ونهضتُ ببطء، كان الصداع يحتل رأسي، أشعر بالدوار أمسكت الجدار ومشيت ببطء إلى غرفتها؛ حين علمت رقم الغرفة من أختي، كنت بكل خطواتي أتخيل وضعها حتى وصلت، كانت في غرفة العناية المركزة، لا أستطيع الدخول إليها، اتكأت على باب غرفتها ولم أقو على الوقوف، كان الألم مضـاعفًا، حال ليلى كسرني وحالتي أيضًا، لقـد انهـرت وبكـيت بحـرقة،
أسأل نفسي: ما الذي حصل؟ لماذا يحدث هذا؟ ما هذه الوحشية؟
لكني لم أجد أي إجابة لأسئلتي، كانت أمي تبحث عني، وحين وجدتني منهارة في غرفة ليلى، احتضنتني بقوة، وبكينا سويًا كأنها كانت تقول لي: لِمَ خرجتِ ذلك اليوم؟ لكنها كانت تحترق بصمت من أجلي، ساعدتني على الوقوف والعودة إلى غرفتي، ثم قررت الخروج، سوف أكون بخير في البيت لكن الدكتور لم يسمح لنا.
مرت ثلاثة أيام مليئة بالألم، وعدت إلى منزلي شعرت أني تحسنت كثيرًا جسديًا، أما نفسيًا فما زلت في صدمة.
مرت الأيام فتحسنت صديقتي ليلى وها هي على كرسيٍّ مُتَحَرِّكٍ لا تملك رجلين، أيُّ ألم كانت تحمله صديقتي؟ هل لدي القدرة على انتزاع قطرة من بحر معاناتها؟ كنت أتظاهر بالقوة أمامها؛ حتى لا تضعف وكانت دمعتي تقف عالقة أسفل عيني، كان وجع صديقتي لا يخفَّفُ، ولا يبدل بفرح، فقد سلَبَتها الحربُ كل ألوان الحياة.
*فلتأخذ الحرب منا ألف عضو من أجسادنا! فلتأكل ما شاءت من أطرافنا! فلتنهش ما يشبعها من أشلائنا! هذه الأرض لنا، عليها قدرنا، سوف نعيش أنا وليلى والباندا والحقيبة التي تخبئ أحلامنا، ستكون صدورنا بحجم نقم في الثبات، سأخرج السوق مع ألف ليلى وعكازها

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. قنبلة الدم قصة تحكي واقعا مؤلم وأحداث مروعة لا يمكن نسيانها أو تجاهلها هكذا جسدت المبدعة يسرى البشيري رسالتها للعالم بصورة حقيقية لتظهر ما يحدث من حقائق في روايتها قنبلة الدم عن وطن غارق في دمائه التي اراقها العدوان بشتى الاسلحة المحرمة ولم يكترث العدوان لقداسة تلك الدماء الطاهرة فلا صوت يحكي ما يحدث سوى أصوات الحروف المنهار على أبواب الشفاة فهل هناك من سيوصل قنبلة الدم إلى العالم الحقيقي ذو الضمائر الإنسانية الحية والذين لا يخافون من قول الحق وينصروا المظلوم وينشروا العدل والسلام والله القوي العدل

  2. حصاد الحبر × حصاد يوم مر
    تمضي سنواتنا ما بين انفجار و آخر ..
    فبيروت الأمس هي صنعاء اليوم ، بغداد الغد ، انفجار هنا ، أشلاء هناك ، أطلال نحيا بينها ، شواهد قبور نخط عليها أسماء أحبتنا ..
    تتغير أسماء مدننا لكن مصائرنا تبقى وحدها المشتركة ..
    تحية ليسرى البشيري و لحصاد الحبر ..

  3. رائعة جدا وهادفة وأسلوب سرد الأحداث متميز ويجعل القارئ يعيش تلك اللحظات ولا يتوقف حتى يعرف النهاية
    فعلا ابداع وقصة كفاح وألم بنفس الوقت وجع وحزن
    اتمنى للمبدعة الكاتبة يسرى البشيري كل الخير والتألق والتميز ونشكركم ايضا على النشر والاهتمام بالإبداع والمبدعين واليمن

زر الذهاب إلى الأعلى