الشيخ أحمد عبّاس الأزْهريّ (1853-1926):الكلّيّة العثمانيّة
حكاية عن مرحلةٍ وأجيال وليْست أبداً حكايةً عن شخص (الحلقة 9)
الدكتور وجيه فانوس
ثماني سنواتٍ مضت على الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأَزْهَرِيِّ»، وكان قد بَلَغَ، وَقْتَذاكَ، الثَّانية والأربعين مِن سِنِيِّ العُمرِ؛ وهوَ ثابتٌ على نشاطه في «المكتبة العُثمانيَّة»، التي أسَّسها في بيروت؛ يتعاطى أمورَ إِجْتِلاب الكُتبِ وبَيْعها، ويُزاوِلُ نَشْرَ ما يُمكنه مِن المؤلَّفات التي يَسْتَنْسِبُها، بثقافتهِ ووعيهِ المعرفِيِّ، لعمله. كانَ الشَّيخُ، وكما ذَكَر الأستاذ «عبد الباسِط الأُنسي»، ينهضُ إلى هذه المهام جميعها، «مِن دون أن يفارقه الفكر في خدمة الأمَّة». لقد آلمه ما عاينه مِمَّا كان يَعْتَوِرُ «المدرسة السَّلطانيَّة»، في ذلك الوقت، مِن تَبَدُّلٍّ سَلْبِيٍّ في المفاهيم التَّعليميَّة والقِيَمِ التَّربويَّة والرُّؤى الإصلاحيَّة؛ التي سعى إلى إرسائها فيها مع الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه». ويبدو أنَّ تَفَاقُم أمورِ «المدرسة السُّلطانيَّة»، دفع بالشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزْهَريّ»، إلى التَّفكير مجدَّداً وجِدِّيَّاً بالعودةِ إلى الغَوْصِ في مجالاتِ التَّربيَّة والتَّعليم.
ثمَّة حدثٌ جَلَلٌ حلَّ بناس مدينة «بيروت»، سنة 1882؛ إذ عَمَدَت السَّلطة العثمانيَّة، حينذاك، إلى حلِّ «جمعية المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة»، بعد ثلاث سنوات مِن تأسيسها وانتخاب السيِّد «عبد القادر قبَّاني» رئيساً لها سنة 1878. قد يكون في هذا الأمر، إضافةً إلى ما كان الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزْهريُّ» قد خَبِرَهُ مِن تَقَهْقُر أوضاعِ «المدرسة السُّلطانيَّة»، وما قد يقود إليهِ هذا الإنْحِطاطُ التَّعليمي والإداريِّ من مساوئ على النَّاشئة من أهله وأبنائه، قد دفعه إلى التَّفكيرِ بضرورةِ القيام بِعَمَلٍ يُنْقِذُ فيه الحقل التعليمي والتربوي في بيئته مما كان يُحْدِقُ بِهِ مِن مَقَابِح ويلْتَفُّ حوله من مَسَاوِئ وما قد يحاصره، إِثرها، من المَعايِب التي لا يمكن التَّغاضي عنها.
يتوجَّه الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأَزْهَريُّ» إلى أحد أعيان بيروت، وكبيرٍ مِن وجهاءِ المسلمين فيها، والرَّئيس السَّابق لـ «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة» السَّيِّد «عبد القادر قبَّاني»؛ يشاورهُ في الحالِ البائسِ الذي وصلتِ إليه أوضاع النَّاس في بيروت عامَّة، وأمور التَّربيَّة والتَّعليم فيها، بِوَجْهٍ خاص. كان «عبد القادر قبَّاني»، وقتذاك، مِمَّن مارسوا شؤونَ التَّربية والتَّعليم في مطلعِ حياته؛ كما كان في سنة 1880، عضواً في مجلسِ إدارةِ «لواء بيروت»؛ وقد انتقلَ، مِن ثمَّ، إلى العمل في السِّلك القضائيِّ، قاضياً في «المحكمة الابتدائيَّة»، ثمَّ أصبح في سنة 1888، قاضياً في «محكمة الإستئناف». وخلاصة القَوْلِ، فـ «عبد القادر قبَّاني» كان مِنْ أهل الشَّانِ العام المرموقين، المثقَّفين والسَّاعين إلى إصلاحِ الأوضاعِ الاجتماعيَّة في بيئته، من جهة؛ ولم يكن، من جهة أخرى، ليُثيرَ، بِحُكْمِ ما حازَهُ مِن مناصب حكوميَّة، أيَّة حَسَاسِيَّة لدى السَّلطةِ المركزيَّة في الآستانة. (كريديه: 219-220).
عمل الشيخ «أحمد عبَّاس الأَزهري»، سنة 1895، وهو في الثَّانية والأربعين من العمر، على تأسيس مدرسة جديدة في بيروت؛ وكان عمله هذا، بالتَّعاون مع السيِّد «عبد القادر قبَّاني»؛ الذي ساهَمَ مع «الشَّيخ» بجزءٍ مِن جُهود التَّأسيس، في الاستحصال على الإذن الرَّسمي بالعمل، كما اشتركَ معَهُ بقسمٍ مِن الكلفة الماليَّة لتجهيزِ هذهِ المدرسةِ وتأمينِ احتياجاتها.
تَخَيَّرَ «الشَّيخُ» لمدرسته اسم «المدرسة العثمانيَّة»؛ ولعلَّ في هذا ما قد يتوافقُ مع اعتماده صفة «العثمانية»، مِنْ قَبْلُ، للمكتبة التي أسَّسها في مرحلةٍ سابقةٍ. لرُبَّما كان في انتقاء «الشَّيخِ» لهذه التَّسمية، اعتقاده أن في هذا ما قد يُؤَمِّنُ له بعض استساغةٍ لعمله من قبل مسؤولي الولاية ومأموري الرِّقابة فيها، بعد أن كان قد أَكَمَدَهم، قبل ثماني سنواتٍ، بتقديم استقالته من العمل في «المدرسةِ السُّلطانيَّة» التَّابعة لإشرافهم في «شعبة المعارف»، احتجاجاً منه على تَعَسُّفِ سلطتهم تجاه الشَّيخ «مُحَمَّد عَبْدُه». وانتقى الشَّيخ الأزهري، الأستاذ «عبد الباسط فتح الله»، من بين تلاميذه وأصدقائه، ليكون مساعده الأساس في شؤون إدارة المدرسة وتنظيم أوضاعها. وكانت المدرسة، في بداية الأمر، في موقعٍ هو بين ما يعرف اليوم بمنطقة «الباشورة» ومنطقة «حوض الولاية» من بيروت؛ وقد التحق بها، بداية عدد قليل من التَّلاميذ. (شبارو: 65).
ما هي إلاَّ سنواتٌ خمسٌ، حين أدركَ الشَّيخ «الأَزهريُّ» الخمسينَ مِن سنين العُمر، وقد تَحَوَّلَت المدرسة، سنة 1900، بجهده وكَدِّه وإصراره ورؤيتهِ، مِن مؤسَّسة تعليميَّة متواضعة، إلى كليَّة كبرى، اسمُها «الكليَّة العثمانيَّة». ولقد نهضت مناهجُ التَّدريس في هذه الكليَّة الكبرى، على التَّوفيق بين مقتضيَّات العلوم الحديثة ومقرَّرات العلوم الدِّينيَّة؛ وأضحت يؤمُّها تلاميذٌ، ليس مِن «بيروت» وحدها، بل مِن خارج «بيروت» و«جبل لبنان»؛ مِن «سورية» و«العراق» و«مصر»، ناهيكَ بـ «الحجاز» و«اليمن» و«مسقط» و«تونس»؛ بل كان مِن تلاميذها مَن وَفَدَ لتلقيِّ العِلمَ في رِحابها من «الأناضول» وحتَّى مِن «سنغفورة». ولذا فلقد أُنشئ ضمن «الكليَّة» قسمٌ داخليٌّ، يؤمِّن الإقامة الكاملة للتَّلاميذ المنتسبين إليه، وآخر خارجي، يكتفي بتقديم الدُّروس إلى المنتسبين إليه من التَّلاميذ. (البيان: 6). وانطلاقاً من هذا كُلِّه، فإنَّ الشَّيخ «أحمد عبَّاس»، الذي طالما عُرف، منذ أن كان في الحادية والعشرين من عمره، سنة 1874، بـ «الشيخ الأزهريِّ»؛ فإنَّه، وفي هذه المرحلة من ترؤسِه لمهامه المُتَيَقَّظَة والمُفْلِحَة والرَّائدة في «الكليَّة العُثمانيَّة»؛ قد غدا يُعْرَفُ، بلقب «الأستاذ الرَّئيس».
شَهِدَت «الكليَّة العثمانيَّة»، بهمَّة «الأستاذ الرَّئيس الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، سنة 1904، افتتاح مكتبة المطالعة الكبرى في مبناها؛ وهي مكتبة ضمَّت، فضلاً عن ما حَوَتْهُ مِن الكُتب، ما يزيد على ألفِ مُجَلَّد مِن أبرز المجلاَّت والدَّوريَّات العِلميَّةِ والأَدَبِيَّةِ والثَّقافِيَّةِ في تلكَ الحقبة، مثل «المقتطف» و«الهلال» و«المشرق» و«دائرة المعارف». ولم يقفْ الأمرُ عند هذا الحدِّ، على الإطلاق، إذْ عمل «الأستاذ الرَّئيس»، في هذه السنة كذلك، على افتتاح قاعة المسرح، في المدرسة. (الحقيقة: العدد 284، 29 أيلول، 1910). وحصلَ أن أقلق، «الأستاذ الرَّئيس» ما كان يلحظه، وقتذاكَ في المجتمعِ، مِن تباينٍ في الرَّأي بين بعض تلامذة المدارس العصريَّة وبين بعضِ طلبةِ العلوم الدِّينيَّة؛ وكان يفترضُ أنَّ سبب هذا الأمر يَكْمُنُ في جَهْلِ كلٍّ مِن الفئتين بعلم الفئة الأخرى. وخشي، «الأستاذ الرَّئيس»، في حينه، على الجهود المبذولة في سبيل نهضة الأمة من أن يحيط بها هذا الخلاف أو يحبطها إلى عكس المقصود منها؛ فوسَّع، قدر ما أمكن في مقرَّرات تدريسِ «الكليَّة العثمانِيَّةِ»، دروس العلوم الدِّينيَّة مِن فِقهٍ وتوحيدٍ، وأضاف إليها درساً في علم «الأصول»؛ كما عمل على إنشاء دائرة خاصَّة بمريدي الإختصاص في العلوم الدِّينية من دونِ سواها، شريطة أن لا يُقبل فيها إلا مَن اضطلع بزادِ معرفيٍّ قَيِّمٍ مِن «العلوم العصريَّة». (البيان: 6).
وإلى اللقاء مع الحلقة العاشرة: «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة والنِّشاط السِّياسي»
المراجع:
– إبراهيم عبد الكريم كريدية، مكتبة نوفل، بيروت، لبنان، 2007.
– عصام شبارو، جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، دار مصباح الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 2000.
– الكلية الإسلامية في بيروت، البيان السنوي، العام 29، المطبعة العثمانية، 1932-1933.
– جريدة الحقيقة: العدد 284، 29 أيلول 1910.
* رئيس المركز الثقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية
شكرًا لنشر هذه المعلومات القيمة الموثقة، والتي تؤرخ مرحلة وأجيالًا، بأسلوبٍ أدبي رفيعٍ، جذاب، لا يمكن لمن يعشق اللغة العربية والتاريخ والأدب معًا إلا أن ينتظرها فيستفيد من المعلومات والأسلوب معًا. أرى أن ما يكتب بقلم الدكتور فانوس إنما يكتبُ بشغف؛ لذا لا يمكنك إلا أن تقرأه بشغف.
ما يُكتَبُ بشَغَفٍ يقرأ بشغف