مُحَمَّد كرَيِّم مرآة ناصعة لتاريخ لبناني لا بُدَّ من الاعتناء به (2)
الدكتور وجيه فانوس
يلتحق محمَّد كريِّم بـ «دار الإذاعة اللبنانيَّة من بيروت» سنة 1958، وتبدأ عنده، كما يقول، مرحلة العطاء الإذاعي. ولقد شهدت تلك الأيَّام، مرحلة انتقال الإذاعة من مقرِّها القديم في السَّراي الحكومي، إلى مبناها الجديد والحديث والمتطوِّر، عهد ذاك، في محلَّة الصَّنائع؛ وصارت إذاعة لبنان التي اجتمعت فيها نخب الروَّاد المبدعين من كبار الإذاعيين والموسيقين والمغنين والممثلين. وهل ثمَّة من يمكن أن ينسى الأستاذ شفيق جدايل على رأس المذيعين، والأساتذة حليم الرومي وتوفيق الباشا وعبد الغني شعبان وعاصي ومنصور الرَّحباني وفيليمون وهبي في قمَّة المؤلفين الموسيقيين والملحنين، ومحمَّد شامل وعمر الزعنِّي رائدين كبيرين في مجال البرامج الانتقاديَّة؛ إذ اختصَّ شامل بما هو تمثيليٌّ أو دراميٌّ منها واختص الزعنِّي بما غنائيٌّ منها. ومع كل هؤلاء كانت نُخبة من أهل الإدارة تتولّى شؤون الإذاعة منهم الأستاذ حسن الحسن مديراً، ومن بعده الأستاذ كاظم الحاج علي، ومعهما الأستاذ كميل منسَّى مديراً للبرامج.
يتحوَّل كريِّم، ضمن هذا الجو ومعه وبه، إلى نهر دافق يُغْنِي التَّجربة الإذاعيَّة في لبنان؛ ويرفد، عبر هذا الغِنى، التَّجارب الإذاعيَّة العربيَّة بما يُقَدِّمه من برامج ومناهج عمل. فيُخرج برامج «شامل ومرعي» لمحمَّد شامل وعبد الرحمن مرعي وبرنامج «يا مدير» الذي كان يُقدِّمه محمَّد شامل، وبرنامج «فانوس جحا» الذي يُعتبر أوَّل برنامج كوميدي لبناني في إطار غنائي، ومعظم برامج شوشو الإذاعيَّة.
وهنا، يقترح محمَّد كريِّم أن يُتابع دورةً إذاعيَّة في فرنسا؛ فيسارع مدير البرامج عهدذاك، الأستاذ كميل منسَّى، إلى قبول الإقتراح ويسهِّل إيفاد كريِّم إلى باريس. ومن باريس يعود محمَّد كريِّم وفي جعبته أفكار جديدة ومشاريع متعدِّدة، كان من أبرزها وأشدّها جرأة برنامج «البث المباشَر». والصُّعوبة في هذا كانت في أنَّ إذاعة لبنان ما اعتادت بثَّاً مباشراً يربط المستمع بميكروفون الإذاعة، بل إنَّ بعض القيّمين كان يتوجَّس خيفة من خطورة هذا العمل، إن كان لجهة تفاعل المستمعين مع البثِّ، أو كان لجهة مقدِّمي هذه البرامج في تعاملهم مع الموضوع برمَّته.
ويتقدَّم محمَّد كريِّم مغامراً، ولكن بنضج؛ ومجدِّداً، ولكن بوعي للمسؤوليَّة الإعلاميَّة ومقوِّمات الإبداع في آن. يبدأ محمَّد كريِّم بتدريب ثُلَّةٍ من الشَّباب الإذاعيين على مبادئ التَّعامل مع برامج البثِّ المباشَر؛ ويكون من هؤلاء من صاروا، فيما بعد، من عمالقة التَّقديم الإذاعيِّ، إذ منهم الأستاذ رياض شرارة والأستاذة هدى الحُسيني والأستاذ إيلي صليبي. وينجح برنامج البث المباشَر، ويشكّل واحداً من أبرز أعمدة نهوض إذاعة لبنان وتفوّقها وريادتها في عالم الإذاعات العربيَّة؛ ويكون لمحمَّد كريِّم فضل الريادة وجرأة الإعداد وحسن التدريب وعبقرية الإطلاق والنشر.
وتطلُّ مرحلة، بل مراحل، ذلك الاقتتال الدَّامي بين اللبنانيين بِدءاً من سنة 1974. ومع هذا الاقتتال، تبدأ إذاعات محليَّة في الظُّهور؛ وتبدأ كلُّ واحدةٍ من هذه الإذاعات تشكِّل ساحةَ منافسةٍ إعلاميَّةٍ سياسيَّةٍ تتواجه فيها مع زميلاتها. وتكاد إذاعة لبنان تفقد موقعها الأوَّل بين ناس لبنان وأهله؛ ويتحوَّل كلٌّ إلى الإذاعة التي تُرضي هواه السِّياسي أو تتجاوب مع متطلِّبات ما يرغب من نشرات أخبارٍ أمنية وسوى ذلك من أمور. ويتطوَّر الوضع بين هذه الإذاعات المحليَّة، لا لتظلَّ الواحدة منها إذاعةَ سياسةٍ وحربٍ، بل لتكون إذاعةَ مجتمعٍ وثقافةٍ ورؤيةٍ وفن. ويكون لمحمَّد كريِّم أن يتولى مسؤولية البرامج في إذاعة صوت الوطن من سنة 1980 إلى سنة 1996. ومعه تصبح الإذاعةُ المحليَّةُ إذاعةً وطنيَّةً، ويرقى كريِّم بـ «صوت الوطن» لأن تكون فعلاً صوتاً للوطن، لكلِّ الوطن. وتصبح برامج هذه الإذاعة موجَّهةً إلى جميع اللبنانيين؛ تُساهم في الدَّعوة إلى الوحدة فيما بينهم وتعمل على نشر الطُّمأنينة بين ظهرانيهم وتدعو كل فريق منهم إلى انفتاح من جهته على الفريق الآخر. وعرفت صوت الوطن مع محمَّد كريِّم مبدأ شبكات البرامج المنظمة والمدروسة والمسؤولة؛ في زمن الفوضى والشَّغب وتآكل كثير من قِيَم الوطن ومفاهيمه.
وخلال هذا كله، لا يقف محمَّد كريِّم عند حدود الإذاعة وبهجة الصوت؛ بل ينطلق بجرأته وثقافته ورهافة إحساسه إلى دنيا الصَّوت والحضور الجسديِّ، فَيَصِل إلى رحاب المسرح، أبي الفنون وسيِّدها ومنطلق كثير منها. يقوم كريِّم بإخراج عددٍ من المسرحيَّات التي دخلت جميعها التَّاريخ الفنِّي من أبواب الاحترام والتَّقدير. فكانت له في سنتي 1967 و1968 مسرحية «عيلة أبو المجد» للأستاذ محمَّد شامل، وفي السبعينات عدد من مسرحيَّات الفنان شوشو التي منها «فرقة نمرة» و«طربوش بالقاووش» و«وراء البرفان» و«واو سين»؛ كما أخرج مسرحيَّة «حزب سعد الله» للأستاذ أنطوان غندور، فضلاً عن عدد من المهرجانات المسرحيَّة التي منها مهرجان «موسم الزَّيتون» الذي جرى تقديمه في منطقة الكورة ومهرجان للسيِّدة صباح قُدِّم في بحر صيدا.
لم يتوقَّف طموح كريِّم عند هذا الحد؛ فلقد عمل على تأسيس شركة إنتاج فنيٍّ، هي «جنا برودكشن»؛ وهي مؤسسة تعنى بالأفلام الوثائقيَّة والثقافيَّة بشكل عام؛ كما ينصرفُ محمَّد كريِّم، في المرحلة الرَّاهنةِ، إلى عالَمِ البحثِ والتَّأليفِ؛ إذ أصدر كتابه «نصف قرن من المسرح في لبنان» سنة 2000، و«في البال يا بيروت» سنة 2005، و«كما عرفتهُم» سنة 2015، و«اللحن الثَّائر»، سنة 2015؛ والحبل على الجرَار.
هذه شذرات من تاريخ محمَّد كريم؛ وهو تاريخ يحتاج إلى عناية، وحُسن توثيق وأرشفة؛ لا لأنَّه تاريخ شخصٍ مهمٍ وحسب، بل لأنَّ فيه تاريخ محطَّات أساسيَّة وكبرى من عُمْرِ لبنان الإذاعي والفنِّي والثَّقافي قَلَّ أن عمل الباحثون والدَّارسون عليها.
تعالوا معي نُحَيْي محمَّد كريِّم، واحداً من جيل أغنى ذاته بثقافة خاصَّة قبسها من وهج الحياة، بيد أنَّها ثقافةٌ فاعلةٌ وخلاَّقةٌ ومؤثِّرة. تعالوا معي نحيي محمَّد كريِّم، واحداً من عصاميي لبنان، ومرآة لتاريخ لا بدَّ من العناية به.
———————
* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية
إلى أهمية (محمد كريّم) مسرحيًّا، ومنتجًا فنيًّا، وباحثًا، ومؤلّفًا؛ لفتني ذلك العائد من “باريس” حاملًا في جعبته فكرة “جريئة”، “مغامِرة”، هي فكرة “البث الإذاعيّ المباشر” التي لم يكتفِ بطرحِها؛ بل عمل جادًّا على تنفيذِها، مدرِّبًا، مؤمنًا بأنها ستنجح وينجح معها مَن درّبهم في الوصول إلى الهدف الرّيادي المنشود، تمامًا كما وصلَ بإيمانِه بالوطنِ إلى أن يكون صوت الوطن الواحد الموجّه إلى “جميع اللّبنانيين”، والقادر على “نشر الطّمأنينة بين ظهرانيهم” في زمن الحرب التي أُلبِسَت أحداثُها زُورًا ثوبَ العشوائية تغطية للأهداف الاستراتيجية المرسومة ببراعة بهدف زعزعة الثِّقة بالوطن وصولًا إلى تفتيته.