والجامعاتُ إذا احتضرتْ !

د. نزار دندش

والجامعاتُ إذا احتضرتْ ! …
عندما تحتضرُ الجامعات نكون قد قطعنا ثلاثة أرباع الطريق نحو تخلّفنا ” المنشود ” … نعم المشود ! لأن الأبالسة ينشدونه ويخطّطون لنشره .
قد لا نفهم لماذا تحتضر الجامعة اللبنانية اليوم إلا اذا تذكرنا ظروف ولادتها ، فلبنان الذي كان “سويسرا الشرق” لم تكن فيه جامعة وطنية قبل ستين عاماً ، أي قبل ستينيات القرن العشرين ، حين كان أبناء أغنيائه يدرسون في جامعاته الخاصة وكان المحظوظون من فقرائه يدرسون في الجامعات السورية والمصرية .
وعندما راح المدُّ “الثوري” يجتاح المنطقة نزل طلاب لبنان الى الشوارع فتظاهروا واعتصموا وافترشوا الأرض الى ان فرضوا تأسيس أول كلية للجامعة اللبنانية ، هي كلية التربية . ولم تكن مهمة الطلاب المناضلين سهلة في فرض فتح كليات جديدة .
ويشهد تاريخ التعليم عندنا ان فتح كلية للحقوق استدعى يومها إضراباً لمحامي لبنان في لعدة اشهر في محاولة لمنع فتح تلك الكلية ، فتدريس الحقوق كان برأي نقابتهم وكالةً حصرية للجامعة اليسوعية .
وفي أوائل السبعينيات كادت الجامعة اللبنانية ان توحّد لبنان حيث انتشر الوعي الوطني ( والطبقي ) على حساب رعاية الغرائز الطائفية . وهناك من يعيد بعض اسباب الحرب الأهلية التي شهدها لبنان الى تلك النهضة التوعوية التي أبعدت لبنان عن سربه .
واستطاعت الجامعة اللبنانية التي حرستها كوادرها المتحمسة والمتفانية ان تُخرِّج اختصاصيين شهدتْ على تميّزهم جامعات الغرب وأسواق العمل في الشرق . لكن الحرب العبثية قد عبثت بها فمزّقتها وطيَّفتها ووجّهت لها ضربة مميتة . وما ان استعادت وحدتها ومستواها حتى وقعت ضحية التقاسم الطائفي وتحوّلت الى ميدان للتوظيف العشوائي حتى على صعيد الموازنة المخصّصة للأبحاث العلمية .
واليوم ترى الجامعة نفسها مطوّقة بكل انواع الاهمال والخداع والتخلّي ، وهي المرشحة في منظور اهل المال لأن تكون الحلقة الأضعف والضحية ، فلبنان الجديد لم يعد بحاجة لتعليم ابناء الفقراء ولا لتوظيفهم ، فالتوظيف في نظر البنك الدولي رجسٌ من عمل الشياطين ، والعلم في نظر أزلام المصارف رجسٌ من عمل المثقفين المتفلسفين الطامحين الى تغيير العالم . والجامعات في نظر المحاصصين والمؤدلجين غنائمُ عصرِ الفوضى ومراحلِ الإفلاس . وبديل جامعة لبنان جامعات الفطر التي تظهر وتنمو بعد كل برقٍ ورعد .
راتبُ الاستاذ الجامعي لا يقل عن ثلاثة آلاف دولار في اية جامعةٍ محترمة من جامعات العالم .أما راتب الاستاذ في الجامعة اللبنانية فهو الآن أقل بعشر مراتٍ او اكثر .وهو لا يكفي حتى لعيشٍ نصف كريمٍ يبقيه على قيد العطاء . هذا بالنسبة للاستاذ المتفرغ والمضمون ، أما الاستاذ المتعاقد فمعاشه اقل بعشرات المرات ومصيره على كف عفريت ووضعه محزن ، ولا تُطبّق فيما يخصه القوانين ولا من يفيه اذا وعد !
الجامعة اللبنانية متروكة كي تتقاذفها رياح الصدفة ، وللمسؤلين همومهم التي لا تمتُّ اليها بصلة . وحده الرئيس رشيد كرامي ناصرها أثناء تأسيسها ، ووحده الرئيس رفيق الحريري دعم اساتذتها وحسّن رواتبهم ، من بين كل رؤساء الحكومات . أما السياسيون فقد تعاطوا معها كما يتعاطى سياسيو اليوم مع أموال المودعين .
ولكي نعرف من هم حماة الجامعة الحقيقيون يجب ان نعود بالذاكرة الى مرحلة فرض تأسيسها ، فالطلاب الفقراء هم أصحاب المصلحة ، وَلَكَمْ كنتُ اردّد في الجمعيات العمومية انه يجب اشراك الطلاب في التحركات المطلبية التي تخصّ الجامعة ، ويجب الاعتماد عليهم في حمايتها . لكن أحزاب العصر الحديث تقف ضد توحيد الحركة الطلابية وتحرص على ان يكون لكل طالبٍ اتجاهٌ مخالف لاتجاه أخيه الطالب .
جامعتنا الوطنية في خطر ، فلا بدّ من توحيد الحريصين على مصيرها !
وانعاشُها يبدأ بإنصاف الأساتذة المتعاقدين .