أدب وفن

“الإشعاع الحضاريّ العربيّ – الأمازيغيّ فى الأندلس”:عِقدٌ من جُمَان  يُرصِّع جيدَ الزَّمَان

1 / 3

الإشعاع الحضاريّ العربيّ – الأمازيغيّ فى الأندلس“:

عِقدٌ من جُمَان  يُرصِّع جيدَ الزَّمَان

د. السّفير محمّد محمّد خطابي *

يطيب لي أن أدرج  للقرّاء الكرام فيما يلي ملخّصاً مقتضباً لمحاضرتي ضمن فعاليات ووقائع الندوة الدولية الهامة التي نظمّت مؤخراً  بالرباط تحت عنوان : (القضيّة الموريسكية على ضوء التشريع الإسباني ومنظومة حقوق الإنسان)،  والتي كانت تحمل عنوان :” الإشعاع الحضاري العربي – الأمازيغي فى الأندلس..عِقد من جُمان يُرصّع جيدَ الزمان”، وقد نُشر هذا الملخّص فى الكاتالوغ أو الكتيّب الذي أعدّته ” مؤسّسة ذاكرة الأندلسييّن” التي يترأسها الباحث المغربي المثابر الموريسكيّ الأصل والمحتد الدكتور محمد نجيب لوباريس ( الذي ينحدر إسم عائلته من لغة سيرفانتيس وهو ( Olivares ) الذي يعنى في اللغة الإسبانية ( حقول أشجار الزيتون) و” مؤسّسة ذاكرة الأندلسيين” هي التي أشرفت على تنظيم هذه الندوة الدولية التي حقّقت نجاحاً منقطع النظير بمشاركة باحثين كبار، وخبراء متخصّصين في تاريخ الاندلس من المغرب، ومصر، وإسبانيا ،والبرتغال…إلخ.

تدعونا محاضرة الباحث الدكتور محمّد محمّد خطّابي للقيام برحلة عبر ربوع،ومدن، وحواضر  تلك الأصقاع الإيبيرية الغالية علينا جميعا ،النائية عنّا فى الزمان والمكان ،والقريبة منّا فى الذاكرة والعقل والوجدان ، وهي أرض الاندلس الفيحاء، رحلة تسلّط الأضواء على بعض المظاهر الحضارية العربية والأمازيغيّة الإسلامية التي تألقت ،وازدهرت،وسادت، وأشعّت على العالم المعروف في ذلك الإبّان، وأنارت دياجي الظلام في أوربّا التي كانت لمّا تزلْ دهرئذٍ غارقة في سبات الجهل والتأخّر، وترزح تحت سديم الظلام والتقهقر، بما  قدّمته هذه الحضارة من عطاءات خصبة ثرّةّ، و إبداعات مشرقة وضّاءة في مختلف حقول العلم والمعرفة والعرفان، ومناحي ومرافق الحياة بشكل عام.

التراث العربي الامازيغي الأندلسي بنصوصه، وثائقه، وأمّهات كتبه ،وأسفاره، ومخطوطاته، وأشعاره، وآدابه، وفنونه، وعلومه إلى جانب معالم الأندلس التاريخية، ومآثرها العمرانية، وقلاعها الحصينة، ودُورها،وقصورها،وجوامعها، وصوامعها، وبساتينها، وحدائقها الغنّاء ، فضلاً عن التأثيرات اللغوية والثقافية، والعادات والتقاليد العربية الحميدة التي تأصّلت في الشعب الإسباني في مختلف مناحي الحياة،والتي نقلها الموريسكيون معهم فى رحلتهم القسرية  بعد إبعادهم المُجحف غير المًنصف عن دورهم،ووطنهم الأصلي وإنتشارهم،وإستقرارهم فى مختلف المدن والأصقاع، كلّ ذلك ما زال شاهداً إلى اليوم على مدى الأوج البعيد الذي أدركه الإشعاع الحضاري الأندلسي في شبه الجزيرة الإيبيرية ( إسبانيا والبرتغال) على إمتداد الوجود الإسلامي بها.

ثمانية عقود من جمان، تزيّن جيدَ الزمان وترصّع طوق التاريخ الاسباني بالوجود العربي والأمازيغي الإسلامي في الأندلس،تجسّد لنا فى بهاء ورونق وإبهار ماضي هؤلاء الموريسكيين


2 / 3

الذين ولدوا، ونشأوا، وترعررعوا، وأبدعوا فى هذه الجزيرة المحروسة، ويبيّن المحاضر كيف أنّ الإشعاع الذي خلّفه هؤلاء وأجدادهم أصبح اليوم الشغل الشاغل لغير قليل من الاسبان، وأمسى حديثَ الناس في كل منتدى ومنبر ومحفل ودار ومدرج. وطفق الاهتمام بالإرث الحضاري العربي والإسلامي يتزايد ويتكاثر وينمو في كل مكان من هذه الجزيرة الغنّاء . لقد شكّلت إسبانيا في الفترة الممتدة بين القرن الثامن والقرن الثالث عشر الميلادي جسراً حضارياً إنتقل من خلاله هذا الثراء الهائل من المعارف والعلوم التي برع المسلمون في التبحّر فيها الى شعوب أروبية أخرى ذات “ثقافة لاتينية مغلقة” كما يصفها ميننديث بيدال،وخوان غويتيسولو، وأنطونيوغالا وسواهم من الباحثين الاسبان الثقات  .

يقوم المحاضر بجولة سريعة فى أهمّ الحواضر التي عرفت تألّقاً وإزدهاراً فى الأندلس أيام وجود المسلمين بها، مستشهداً بأقوال بعض المثقفين الإسبان ومن أمريكا اللاتينية الكبار أمثال أمريكو كاسترو،وبيلاثكو إيبانييس، وغارسيا لوركا ،ولوبث بارالت، وخوان غويتيسولو، وأنطونيوغالا، ومانويل دي لا بارّا، وكارلوس فوينتتيس، وأدالبرتو رييّوس،وكارلوس فوينتيس، وإكرام أنطاكي وسواهم، عن الأوج البعيد الذي أدركته الحضارة الإسلامية فى الأندلس، وعن قيمة وأهمية ما ورثه  الإسبان عن تلك القرون للوجود الاسلامي في شبه الجزيرة الايبيرية” ،وهم يجمعون فى هذا الصدد أنه يستحيل فهم الثقافة الاسبانية وهضمها بشكل شامل ودقيق دون إستيعاب التراث الإسلامي، ومعرفة الثقافة الإسلامية، واللغة العربية.

ويبيّن المحاضر كيف أنّ لقاء العالمين الإسباني والسكان الأصليين فى القارة البكر ينبغي أن يضاف له عنصر ثالث هام وهو الحضارة العربية الإسلامية، إذ بعد تاريخ 12 إكتوبر 1492 لم تكن الرقعة الجغرافية الإسبانية خالية من العرب والبربر المسلمين، فمنهم من هاجر وفرّ بجلده ،وهناك من آثر البقاء متظاهراً باعتناق الكاثوليكية ،والذين نجوا وبقوا سُمّوا بالموريسكيين ،فقد كان منهم أمهر الصنّاع والمهندسين والعلماء والمعلمين وخبراء الرّي، والفلاحة ،والهندسة والمعمار،  بل لقد ظلت مسألة تسيير العديد من المرافق الحيوية واقطاعات الهامة فى البلاد ليس فى الأندلس وحسب (جنوب إسبانيا) بل وفى مناطق أخرى من شبه الجزيرة الإيبيرية خاصة فى شمالها الشرقي بيد المسلمين. فكيف والحالة هذه ألاّ يحمل الإسبان الذين هاجروا إلى العالم الجديد معهم هذا “التأثير”..؟ بل إنّ هناك من المسلمين المغلوبين على أمرهم  من الموريسكيين مَنْ هاجر مع أفواج المهاجرين الإسبان ، وإلاّ من أين جاءت هذه الدُّور،والقصور ذات الباحات،والساحات، والنافورات العربية الأصيلة التي بنيت فى العديد من مدن أمريكا اللاتينية ..؟ ومن أين هذه الأقبية والأقواس ،والعقود ،والشّرفات ،والمشربيات،والشبابيك،والزخارف العربية؟ بل والأبعد من ذلك حتى الكنائس التي كانوا يبنونهاغداة وصولهم  كان يظهر فيها الأثر العربي والإسلامي بوضوح وقد أكدت ذلك الباحثة المكسيكية السورية الأصل إكرام أنطاكي في كتابها الكبير ( الثقافة الثالثة) ،ولقد إستعمل بعضهم الخطّ العربي المحتوي على أشعار، وحِكم،وأمثال، وآيات قرآنية إعتقاداً منهم أنه كان من علامات الزينة والترف  والثراء فى البيوتات الكبرى فى إسبانيا وفى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية .

ويسلط المحاضر الأضواء على الأدب السرّى أو ما كان يُطلق عليه ب “أدب المنفى داخل الوطن” الذي كان عند هؤلاء الموريسكيين وهو أدب مؤثّر وبليغ يُسمّى باللغة الإسبانية  الخاميادة أو الخامية بمعنى(العجمية)،وقد أطلق عليه هذا النعت لأنه أدب مكتوب إنطلاقاً من اللغة الإسبانية


3 / 3

ولكنه يستعمل حروفاً عربية ،وكان الإسبان من ناحيتهم يطلقون هذا اللفظ على اللغة القشتالية المحرّفة بمزجها بكلمات عربية، وكان يتكلّم بها عرب إسبانيا فى آخرعهدهم بالأندلس ،ولمّا خشي الحكّام الكاثوليك على هؤلاء من التكاثر وإستعادة النفوذ قرّرالملك فيليبّي الثالث بعد أن أصدر ظهيراً أو مرسوماً بين1609-1614 بطرد آخر المسلمين من إسبانيا . ويشير الباحث “لوبث بارالت”:” أنّ هذا القرار الدرامي المجحف الذي إتّخذه هذا الملك الاسباني كان سبباً فى إثارة جدل هائج ما زال يُسمع صداه حتّى اليوم.” وإذا كان هذا يحدث فى القرن السابع عشر (1614) أي 122 سنة من وصول الإسبان إلى”العالم الجديد” (1492)فإنّ ذلك يدلّ الدلالة القاطعة على أنّ إسبانيا عندما “إكتُشِفت ” أمريكا كانت لمّا تزل واقعة تحت التأثيرالعربي الإسلامي الموريسكي، وأنّ العادات والتقاليد وفنون المعمار وأسماء الحرف والمهن والصناعات والإبتكارات والآلات البحر ية،  والعسكرية والفلاحية وعشرات الآلاف من المسمّيات كانت عربية أو على الأقل من جذر أو أصل أو أثل عربي،وهي التي استعملت فى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وظلّت مستعملة بها ولا تزال إلى يومنا هذا.ويستشهد المحاضر فى هذا القبيل بأقوال العديد من المثقفين الإسبان وغير الإسبان الذين يؤكّدون هذه الحقيقة التاريخية التي لا مراء فيها.كما يثبت عدداً هائلاً من الكلمات الإسبانية من أصل عربي وأمازيغي التي إستقدمها الموريسكيون معهم وإستعملوها ، وجاءت هذه الحقيقة  على لسان أحد جهابذة الإستشراق الإسباني وهو ” أمريكو كاسترو”.

و يتساءل المحاضر فى ختام عرضه: بعد كلّ هذا، أيحقّ لنا أن نسمّي الأندلس “بالفردوس المفقود”..؟! ويسارع بالإجابة فى نصّ شاعريّ حالم : لقد سمّوه فعلاً فردوساً، ولكنّه ليس مفقوداً كما وُهِمُوا،إنّه هنا حاضر الكيان،قائم الذات،إنّه هنا بسيره، وأسواره،وبقاياه ، وآثاره،وعمرانه، ونفائسه ،وذخائره، بعاداته، وطبائعه، فى عوائده ،وأهوائه،إنّه هنا فى البريق المشعّ، فى المدائن،والضّيع، والوديان، فى اللغة والشعر، والعلم والأدب، فى لهجة القرويّ النائي، والفلاّح المغمور، فى الكرم العربي الأصيل ،والإباء الأمازيغي القحّ ، والحزازات القديمة،التي ما فتئت تفعل فى ذويها فعلَ العُجب.

******************************

*كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الاكاديمية الإسبانية-الامريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى