منتديات

عالم ما بعد الرأسمالية : الكونفوشيوسية نموذجا

سركيس أبو زيد

لم ينتهِ التاريخ بعد. في زمن «كورونا» ظهرت الرأسمالية عاجزة وفاشلة. فما هو الحل؟ البعض طرح نظريات السوق الاجتماعي أو الليبرالية التكافلية، آخرون بديلهم الاقتصاد التضامني أو التشاركي أو التعاوني… وغيرهم اختار الكونفوشيوسية نموذجاً. في هذه المقالة، سنتوقف قليلاً عند تجربة صينية حضارية متجدّدة وفريدة.

ولد كونغ فو تسو، باللاتينية «كونفوشيوس»، في 28 أيلول عام 551 ق.م، في مدينة لو، ومات فيها عام 479 ق.م، وهي تقع في شمال الصين بجوار البحر الأصفر، وتُدعى اليوم شانتونغ. وهو من عائلة كونغ الأرستقراطية. ومن ألقابه: المعلم، الحكيم، الملك، القدّيس، والإله كما لُقب بـ«نبيّ الصين».
يقوم مذهب كونفوشيوس على بناء نظام اجتماعي أخلاقي اقتصادي عادل، على أساس العلم والإيمان والأخلاق الحميدة، بعيداً عن الفِتن والأحقاد والحروب، يرتكز إلى المحبة والآداب واحترام الإنسان والمجتمع والحياة. وتعتبر وظيفة الحكومة هي خدمة الشعب، وواجب الشعب احترام القانون والنظام والطاعة، لكنّه يرفض بشدة الطغيان والاستبداد. تؤكّد الكونفوشيوسية على الشعور بالمسؤولية والعمل الجماعي، وتشجّع التنشئة التربوية الجيّدة للأطفال من حبّ الوالدين وحب الطبيعة والسماء والوطن وإصلاح الفرد والمجتمع.
تتضمّن الكونفوشيوسية جزءاً أساسياً ومهمّاً من التقاليد الحضارية الصينية العريقة. وهي «تلخيص لتجارب الماضي ورؤية للمستقبل». اهتمّت الكونفوشيوسية بالأخلاق بشكل كبير جداً. ليست الكنفوشيوسية ديانة مُنظّمة بالمعنى الحصري، كما هي المسيحية أو اليهودية أو الإسلام أو البوذية. مفهوم الدين قادم من خارج الصين. مذهب كونفوشيوس الفكري لم يكن في الحقيقة ديناً أو منهجاً سماويّاً روحياً. فهو لا يتحدّث عن إله أو عن عالم روحاني، وإنّما عن الحياة الخاصة وعن السلوك الاجتماعي والسياسي.
عرفت الكونفوشيوسية مدارس متنوعة في حقبات مختلفة منها: الأصلية والرسمية والتجديدية والحديثة واليسارية. وقد مرّت الكونفوشية بثلاثة تحولات: الكونفوشية الكلاسيكية، والكونفوشية الجديدة، والكونفوشية الحديثة.
قسّم البعض الفكر الكونفوشي إلى تيارَين: «الكونفوشية العقلية» و«الكونفوشية السياسية»، بينما تبنّى مفكرون آخرون موقفاً سياسياً ليبرالياً عن الكونفوشية الحديثة. ورُفض الجانب الميتافيزيقي، لأنّ الكونفوشية دين مدنيّ موازٍ للديموقراطية، والحياة السياسية قد تعبّر عن جانب ديني، من دون دين رسمي للدولة. ونظر آخرون إلى وحدة تتكوّن من العقل والواقع، وتصوّر التاريخ وتفسيره باعتباره ينطوي على ضرورة تاريخية (ضرورة ديالكتيكية) وضرورة أخلاقية.
عندما سيطرت الشيوعية على الصين، منعت الكونفوشيوسية عام 1949. لكنّها ظلّت سائدة في الأوساط الشعبية، كمعايير أخلاقية ونموذج للحياة. لكن بعد موت ماوتسي تونغ فقدت الشيوعية قدرتها على إلهام الشعب الصيني، ولأن أفكار الغرب لا تستهويه، تعالت أصوات رسمية وفكرية تدعو إلى «إحياء» كونفوشيوس. ومن أبرز اليساريين الكونفوشيوسيين الجدد، المفكر غان يانغ الذي دعا إلى تأسيس «الجمهورية الاشتراكية الكونفوشيوسية»، التي تدمج ما بين الموروث الصيني الكونفوشي والأفكار الشيوعية.
«الكونفوشيوسية اليسارية»، تؤكد التزام أهل الفكر بانتقاد السياسات الرديئة، وتُلزم الحكومات ببذل ما يلزم من جهد لتوفير الرخاء المادي للناس المحرومين، كما تدعو الحكومات إلى تبنّي وجهة نظر هي أقرب إلى العقلية الدولية والاعتماد على القوة الأخلاقية، بدلاً من القوة العسكرية لتطبيق الأهداف السياسية. وتشدّد الكونفوشيوسية اليسارية على المساواة في فرص التعليم والاعتماد على الجدارة والكفاءة في اختيار أعضاء الحكومة، فضلاً عن توزيع المناصب القيادية على أكثر أفراد المجتمع فضيلة وأعظمهم تأهيلاً. ويدعو كبار معلّمي الكونفوشيوسية إلى التسامح مع الحياة الدينية والحفاظ على الأديان والتقاليد المتعدّدة في الصين.
لكن اليوم، مع دراسة النموذج الصيني وإعادة إحياء التراث الكونفوشي، لا بدّ من التساؤل عن سر نجاح «التفوّق الصيني». هل هو عائد إلى طبيعة الشعب الصيني المصمّم والمنظّم والنشيط؟ أم إلى «شيوعية» الصين؟ أم إلى «كونفوشيتها»؟ الأرجح أنّ «الخلطة الصينية» هي السر، فقد جمعت التقاليد الموروثة ونظم العدالة الاجتماعية، مع اقتصاد السوق الليبرالي تحت سلطة سياسية شيوعية.
فهل تجدّد الكونفوشيوسية شبابها على نطاق أوسع من الصين، وتكون حلّاً لعالم أرهقته الليبرالية الأميركية والمادية الغربية؟
تقدّم الصين، اليوم، نظرة جديدة إلى العلاقات الدولية، انطلاقاً من آسيا ومحيطها الإقليمي مروراً بمشروعها المعروف بمبادرة «الحزام والطريق» وصولاً إلى الإنسانية. تنطلق الرؤية الدولية الصينية من مفاهيمها الحضارية ولا سيّما الكونفوشيوسية. منذ القِدم تبنّت الأمّة الصينية فلسفة «التناغم دون التطابق» و«استيعاب الجميع»، كأسلوب للتعايش مع الثقافات المختلفة. وقد تمسّكت الصين حضارياً بقيّم التآلف والتكاتف في تعاملاتها مع دول العالم. وهذا التوجّه يستند إلى روح ومبدأ «الانسجام الكبير» و«التناغم الأساسي» المكرّس في الثقافة الكونفوشيوسية. إحياء الكونفوشيوسية، اليوم، هو إعادة تشكيل الهوية القومية الثقافية الصينية.

يعلن المفكّرون الصينيون اليوم استقلالهم عن النماذج الغربية، ورفضهم استيراد نظريات بالجملة من الخارج، في مقابل الالتزام بتجارب الصين التاريخية لابتكار فكرة جديدة للحداثة

هذه المقاربة الدولية، عبّرت عنها الصين، بشكل أساسي، في «عرس حضاري» تجسّد في انطلاق المؤتمر الأول لحوار الحضارات الآسيوية، تحت شعار «التبادلات والتعلّم المتبادل بين الحضارات الآسيوية ومجتمع ذو مستقبل مشترك»، والذي استهدف الانتقال من الحضارة الآسيوية إلى المجتمع الآسيوي، وتطوير الحوار بين الثقافات، والارتقاء إلى «تحالف حضاري» يحقّق التنمية المشتركة لكلّ من الآسيويين والإنسانية. هدفُ المؤتمر، هو تعزيز الحوار الحضاري والثقافي بين بلدان قارة آسيا وهم «جيران وأصدقاء»، لتعميق الارتباط والاتّصال من أجل تعزيز الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية، التي ستنعكس إيجاباً على النظام الاقتصادي العالمي. وفي هذا المجال، توفر مبادرة «الحزام والطريق» فرصة ثمينة للدول الآسيوية، لتطوير بنيتها التحتية، وتعزيز الاتصال بين البلدان الآسيوية والعالم.
يمكن للتعاون الاقتصادي المتعدّد الأطراف بين الدول الآسيوية، أن يُرسي أساساً قوياً لمستقبل مشترك للمجتمع الآسيوي. لذلك، تعمل الصين على تعزيز التعاون القائم على احترام التنوع مع «آسيان» (منظمة اقتصادية تضم 10 دول في جنوب شرق آسيا)، وخاصة مع اليابان وكوريا الجنوبية والهند وسنغافورة ودول آسيوية أخرى.
عُقد المؤتمر بين 15 و17 أيار 2019، وقد حضرته 47 دولة آسيوية وصديقة. تشغل آسيا ثلث إجمالي مساحة الأرض، وتضم ثلثي سكان العالم، وفيها أكثر من ألف مجموعة عرقية. ويمثّل الموقع الجغرافي للقارة ـــ الأكبر مساحة وتعداداً ـــ أهمية كبرى، فهي تقع في النصف الشمالي الشرقي من الكرة الأرضية، ومطلّة على المحيطين الهندي والهادئ، والبحرين الأبيض المتوسط والأحمر، والخليج العربي، وفيها ممرّات تجارية مهمّة عالمياً. كذلك، تضم آسيا اثنتين من أصل خمس من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي (روسيا والصين).
«لا صراع حضارات… البشرية تحتاج إلى تضافر الجهود»، هذا ما أكده الرئيس الصيني شي جين بينغ، في كلمته التي افتتح بها المؤتمر، وتابع أن «البشرية تحتاج إلى قوة ثقافية، إلى جانب القوة الاقتصادية والتكنولوجية، لمواجهة التحديات المقبلة والتوجه نحو مستقبل مشرق، وبناء رابطة المصير المشترك لآسيا، ورابطة المصير المشترك للبشرية».
إنّ رؤية الزعيم الصيني لحوار الحضارات ليست حدثاً طارئاً، وإنما عقيدة صينية راسخة تنطلق من الحضارة الصينية التي تتّسم بالتنوّع والمساواة والشمول والانفتاح، وهو القائل: «نحن بحاجة إلى تشجيع مختلف الحضارات على العيش معاً في انسجام ووئام، وأن تثق ببعضها البعض لبناء جسر من الصداقة بين الشعوب». وأضاف: «نحن بحاجة إلى تثمين جماليات كل الحضارات»، والمحافظة على «حيويتها الذاتية»، في الوقت نفسه مع توسيع التبادلات العابرة للحدود والزمان والفضاء، وكذلك العابرة للحضارات.
ولخّص الرئيس شي جوهر الحضارة الصينية، متبنياً نظرية التكامل بين المعرفة والعمل التي يطرحها تلاميذ كونفوشيوس، اليوم، قائلاً: «الالتزام بقواعد الطبيعة وتحقيق الوحدة بين الإنسان والكون، هو فلسفة الوجود للحضارة الصينية». كما عمل من أجل تطوير ما أسماه «اشتراكية ذات خصائص صينية في عصر جديد»، سبق وكرّسها الحزب الشيوعي الصيني في دستوره عام 2017. وأعاد الاعتبار للكونفوشيوسية، بسبب حاجة الصين لعقيدة تملأ الفراغ الروحي لدى الإنسان الصيني. وشدّد على الأخلاق، لأنها تشكّل قوة دفع لعملية مكافحة الفساد في الصين.
الرئيس شي دعا قارة آسيا والعالم، إلى تعزيز الثقة في الحضارة، قائلاً إن«الشعوب الآسيوية تتطلّع إلى آسيا منفتحة ومتكاملة»، محذراً من أنّ الحضارة ستفقد حيويتها إذا عادت دولها إلى العزلة، وقطعت نفسها عن بقية العالم. كما أعرب عن أمله في أن «تشارك جميع الدول الآسيوية معاً، لتعزيز العولمة الاقتصادية التي تتميّز بالانفتاح والشمول والتوازن، والمفيدة للجميع، وأن تعمل هذه الدول معاً للقضاء على الفقر والتخلّف».
وفي هذا السياق، طرح الرئيس شي أربعة قواعد للعلاقات الدولية، وهي:
أولاً: «علينا أن نتمسّك بالمعاملات المتساوية والاحترام المتبادل، ونرفض الغرور والتحيّز. ونعمل على تعميق إدراكنا بالفوارق بين حضاراتنا، ونجتهد في دفع التبادل والحوار بين الحضارات للتعايش المتناغم».
ثانياً: «في الوقت الذي نعمل فيه على إثراء حضاراتنا، علينا أن نخلق الظروف الملائمة لازدهار الحضارات الأخرى. لجعل حضارات العالم تشمل كل لون وطيف».
ثالثاً: «يجب أن نتحلّى بروح مليئة بالتسامح والانفتاح، من أجل كسر عقبات التبادل الثقافي، وندعم التقدم المشترك للحضارات الآسيوية والعالمية، في ظلّ التعلّم المتبادل».
رابعاً: «مواكبة العصر وتفعيل الابتكار لدفع التنمية والتقدّم، وتحقيق إنجازات حضارية عابرة للزمان والمكان ومفعمة بروح الجمال الأزلية».
هذه الرؤية نابعة من القواعد الكونفوشيوسية التي تركّز على ما يلي:
1 ــ التناغم: يعدّ مفهوم «التناغم»، الأبرز في الثقافة الكونفوشيوسية. وهو يعني التناغم بين الإنسان والآخر، وبين الإنسان والطبيعة، ويتحقّق من خلال التفاهم والعطاء المتبادل، وينعكس على سلوك الفرد والأسرة والمجتمع ككل.
2 ــ «الإصلاح والانفتاح»: الكونفوشيوسية أثرت كثيراً في إعادة بناء الصين، خاصة مع بدء سياسة الإصلاح والانفتاح التي أطلقها دنغ شياو بينغ، في عام 1978. وقد تضمّنت مواقفه الكثير من القيم والمبادئ الكونفوشيوسية التي قصّرت المسافة كثيراً بين الصين والعالم.
3 ــ السياسة الخارجية: إنّ مبادئ السياسة الخارجية الصينية في الوقت الحالي، مستمدّة من تعاليم كونفوشيوس، والتي تقوم على التوافق والتعاون رغم الاختلاف والدعوة إلى إنسانية واحدة وثقافات متعدّدة في مصير مشترك للبشرية. إن الكونفوشيوسية تدعو إلى التقارب بين البشر، ونشر السلام ونبذ الحرب، وحماية البيئة والتناغم لتحقيق السلام الدولي وبناء المجتمع العالمي. لذلك، تحظى الحضارة الأيكولوجية باهتمام كبير في توجّهات الرئيس الصيني شي جين بينغ.
ما زالت هذه القيم بعيدة عن سلوكيات الولايات المتحدة، التي تجنح إلى الاستكبار والعنصرية، وإلغاء الآخر، حتى ولو كان حليفاً لها. المدنية الغربية الحالية، دمّرت العلاقات الإنسانية، سواء بين الإنسان وأخيه الإنسان، أو بين الإنسان والطبيعة. والعالم اليوم، يحتاج إلى حضارة أيكولوجية جديدة، تحفظ العلاقة بين الإنسان والطبيعة. إذا استمرّت الحضارة الإنسانية بهذه البشاعة، فإن الحياة ستنتهي، لذلك لا بدّ من وجود نموذج آخر من الحضارة ـــ تحاول الكونفوشيوسية وغيرها تجسيده ـــ يقوم على محور أساسي، وهو الآخر سواء كان إنساناً أو طبيعة.
يعلن المفكّرون الصينيون، اليوم، استقلالهم عن النماذج الغربية، ورفضهم استيراد نظريات بالجملة من الخارج، في مقابل الالتزام بتجارب الصين التاريخية، لابتكار فكرة جديدة للحداثة. على أن تكون مستمدّة من منابع متنوعة، منها: مفاهيم السوق الليبرالية بما فيها الحرية والحقوق، التجربة الشيوعية في تحقيق العدالة والمساواة، الثقافة الكونفوشيوسية.
هذه التقاليد الثلاثة غير متناقضة بالنسبة إليهم، ويمكن التوفيق بانسجام في ما بينها، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي يسعى فيها الصينيون إلى الجمع بين الخبرة الغربية والهوية القومية. فقد سعى المصلحون الكونفوشيوسيون، في القرن الـ19، إلى دعم النظام الإمبراطوري، باستخدام «المعرفة العملية» الغربية عند يونغ (yong) للحفاظ على «الجوهر» الصيني تي (ti).
بعدما حرّر المثقّفون الصينيون أنفسهم من الماركسية التقليدية، يحرّرون أنفسهم اليوم من إعجابهم الأعمى بالرأسمالية الغربية. ويعملون من أجل صياغة رؤية جديدة للعولمة تُمكّن الفكر الصيني الجديد من تقديم الكونفوشيوسية كنموذج لتغيير النظام العالمي وتغيير الغرب نفسه.

  • كاتب وناشر لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى