السيد جمال الدين الأفغاني: قراءة في الفكر السياسي الإسلامي (2)
الدكتور وجيه فانوس
يحدد الأفغاني مفهوما جديدا، بالنسبة إلى زمنه، للعمل السياسي الحزبي؛ ومن المعروف أن بعض الأحزاب السياسية كانت قد بدأت تنشط ضمن صراعات داخلية معينة في الكيان الإسلامي العام. ومن هنا يقول أن الأحزاب ليست لتتعارض فيما بينها وتتنازع، بقدر ما يجب أن تكون وجودا مُحَرِّضَاً للوحدة وممارسةً تَسُدُ من ثغرات الفرقة والتشتت اللذان يمكن للأمة أن تعانيهما. ولذا، فإن السيد جمال الدِّين الأفغاني يرى أن من واجب الأحزاب السِّياسية ومصالح الجماعات الحاكمة أن تتضامن فيما بينها لخدمة الإسلام.
إن مما يوضِّح آلية عمل هذا الفعل السياسي ما يذكره السيِّد جمال الدِّين الأفغاني في أحد مقالاته في «العروة الوثقى» حول مفهوم وحدة الجماعات الإسلامية المنتشرة في أرجاء الأرض. فهو يرى «من أدرنة إلى بيشاور دولا إسلامية متصلة الأراضي، متحدة العقيدة، يجمعهم القرآن، لا ينقص عددهم عن خمسين مليونا، وهم ممتازون بين أجيال الناس بالشجاعة والبسالة»؛ ثم يتساءل قائلاً «أليس لهم أن يتفقوا على الذب والإقدام كما اتفق عليه سائر الأمم؟». والإتفاق الذي يتحدَّث عنه الأفغاني، هاهنا، ليس اتفاقا تمليه المصالح الآنية أو الرؤى السياسية المرحليَّة؛ بل هو إتفاق يوجبه الشَّرع الإسلامي، وتتطلبه أصول ممارسة الوحدة بين المسلمين.
يقول الأفغاني إن هذا الإتفاق أما هذا الذي يتوقعه من القوم فليس «ببدع منهم، فالاتفاق من أصول دينهم» (الأفغاني: 28)، ولا يقف السيِّد عند هذا الحد من الحض على الإتفاق بين المسلمين، بغض النظر عمّا يمكن أن يكون المسلمون أنفسهم قد تحدروا منه من عصبيات أو جنسيات، بل يذهب إلى القول بأن هذا الإتفاق يقود إلى تحقيق أمرين أساسيين في الحياة الإسلامية. الأمر الأول، ووفاقا إلى ما يذهب إليه السيد، أمر معرفي يكشف عن أحكام الله؛ أما الأمر الثاني فهو، وكما يذكر الأفغاني، من باب الوجوب الديني الذي لا بد للمسلم من الأخذ به. وعلى هذا، يقول السيد في مبحث له نشر في «العروة الوثقى» حول «الوحدة والسيادة»: «بلغت مكانة الاتفاق في الشريعة الإسلامية أسمى درجة في الرعاية الدينية حتى جعل إجماع الأمة واتفاقها على أمر من الأمور كاشفا عن حكم الله وما في علمه، وأوجب الشرع الأخذ به على عموم المسلمين، وعد جحوده مروقا من الدين وانسلاخا عن الإيمان» (الأفغاني: 32).
إن الوفاق الذي يدعو إليه الأفغاني يتجاوز، ههنا، محدوديَّة مبدأ المصالحة بين الخصوم؛ ويتجاوز مبدأ تقارب المصالح والأغراض الآنية أو المرحلية. الوفاق السياسي بين المسلمين بنظر السيِّد جمال الدِّين الأفغاني هو فعل تحقيق للوجود الإسلامي برمته؛ بل هو الإحساس الإسلامي بوجود الأمة الإسلامية، وضرورة عيش آمالها وآلامها وتحقيق طموحاتها ومبادئها. وكأن الوفاق الذي يدعو إليه السيِّد جمال الدِّين الأفغاني هو اندماج للبوتقة الفردية الضيقة التي يعيش فيها الفرد خصوصيات وجوده، بالكيان الجمعي للأمة؛ بل بكل ما في هذا الكيان من شمولية وامتداد عبر الزمان والمكان والأشخاص.
يدعو السيد جمال الدِّين الأفغاني، عبر تأكيده على ضرورة الوفاق وأهميتة بين الجماعة، إلى توحُّدٍ إيجابي بين الفردية والجمعية في الحياة الإسلامية. ولعل مصداق هذا، ما جاء في كلام للسيد في مقال نُشِر له في «العروة الوثقى» حول «الوحدة والسيادة» يقول فيه إن «الوفاق تواصل وتقارب يحدثه إحساس كل فرد من أفراد الأمة بمنافعها ومضارها، وشعور جميع الآحاد في جميع الطبقات بما تكسبه من مجد وسلطان. .. وهذا الاحساس هو ما يبعث كل واحد على الفكر في أحوال أمته فيجعل جزءا من زمنه للبحث فيما يرجع إليها بالشرف والسؤدد وما يدفع عنها طوارق الشر والغيلة، ولا يكون همّه بالفكر في هذا أقل من همّه بالنظر في أحواله الخاصة، ثم لا يكون نظرا عقيما حائرا بين جدران المخيلة، دائرا على أطراف الألسنة، بل يكون استبصاراً تتبعه عزيمةٌ يصدرُ عنها عمل» (الأفغاني: 30-31).
عندما يأتي المجال للكلام عن القيادة التي يجب أن تتولى تنفيذ هذه السياسة للوحدة الإسلامية، فإن الأفغاني يقدّم دراسة للواقع المعيش في زمنه؛ ثم يسعى إلى عرض ما يراه حلولا ناجعة من ضمن هذا الواقع. يرى الأفغاني، أن تعدد القيادات ضمن العالم الإسلامي هو عامل سلبي في وجه تحقق شروط الوحدة. وهو يرى أن «تعدد الملكة عليهم (المسلمون) كتعدد الرؤساء في قبيلة واحدة والسلاطين في جنس واحد، مع تباين الأغراض وتعارض الغايات، فشغلوا أفكار الكافة بمظاهرة كل خصم على خصمه، وألهوا العامة بتهيئة وسائل المغالبة وقهر بعضهم لبعض، فأدّت هذه المغالبات، وهي أشبه شيء بالمنازعات الداخلية، إلى الذهول عمَّا نالوا من العلوم والصنائع، فضلا عن التقصير في طلب ما لم ينالوا منها، والإعسار دون الترقي في عواليها» (الأفغاني: 26-27).أدَّى تعدد القيادات الذي كان يعيشه العالم الإسلامي زمن الأفغاني، بنظر السيد، إلى شغل الناس بما ليس من حقيقة أهدافهم. ولذا، فهو يرى أن اهتمام الناس بالتحزب مع قيادة ضد أخرى، حوَّل انتباه القوم عن الأهم في الممارسة السياسية، أي القوة. فالقوة، المادية، كما المعرفية، أساس لتحقيق الغلبة؛ والغلبة، بحد ذاتها، أساس لا بد منه لتحقيق عبر القائد الواحد، بقدر ما يشترطها عبر تحقيق وحدة القيادة. ويرى السيِّد جمال الدِّين الأفغاني أن القيادة وحدة القيادة تكون بجعل القرآن الكريم سلطانا يخضع جميع القادة لتعاليمه ويسيرون في سياساتهم بهديه؛ وبذا يتكتل القادة المسلمون ضمن رؤية استراتيجية واحدة هي رؤية القرآن الكريم، ويكون، كما يقول السيد، «وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع الوحدة.البارز في كلام الأفغاني، ههنا، حديثه عن الدور الذي يلعبه الإنقسام السياسي في إلهاء القوم عن زيادة التحصيل العلمي والمعرفي. وتتضح الأهمية التي يوليها السيِّد جمال الدِّين الأفغاني للعلم في تحقيق الوحدة الإسلامية عندما يحدد العدو الذي يواجه المسلمين ووحدتهم. ويقول السيِّد جمال الدِّين الأفغاني في هذا المجال إن «الاستعمار، بمعناه الصحيح ومبناه الصريح، هو تسلط دول وشعوب أقوياء علماء، على شعوب ضعيفة جهلاء، ولا يخرج عامل الغلب والقهر عمَّا ذكرناه فيما سبق وهو «القوة والعلم» يحكمان ويتحكمان «بالضعف والجهل» (الأفغاني:27). ولذا، فلما كان الجهل العلمي والمعرفي هو الباب الذي يفتحه أهل الأمة للإستعمار كي يدخل منه إلى رحابهم ويتحكَّم، عبره، بمصائرهم؛ فإن السعي إلى العلم وتأمين وسائل تحقيق هذا السعي، من الأمور اللازمة للخلاص من ربقة الاستعمار، ومن ثمَّ، تحقيق الغلبة والوحدة الإسلاميتين.يدرك الأفغاني تمام الإدراك أن تحقيق قيادة واحدة للمسلمين في زمنه ليس، ربما بسبب من ضعف المسلمين أنفسهم وشدة تغلغل الاستعمار في مجالات عيشهم، بالأمر السهل أو حتى الأمر الممكن. ومن هنا، فإن الأفغاني لا يشترط تحقيق الوحدة، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه» (الأفغاني:29). وهنا يشير السيِّد جمال الدِّين الأفغاني إلى دور أساس يمكن للعلماء القيام به في هذا المجال. إنه يرى أن العلماء يشكّلون أحد أهم ضمانات تحقيق المعرفة والوفاق والغلبة والوحدة؛ فيقول «لو تُرِكَ المسلمون وأنفسهم بما هم عليه من العقائد، مع رعاية العلماء العاملين منهم، لتعارفت أرواحهم، وائتلفت آحادهم» (الأفغاني: 27).
مكتبة:
< الأفغاني. جمال الدِّين، الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق الدكتور محمد عمارة، الجزء الثاني، الكتابات السياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1981.——————-
رئيس المركز الثقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية