منتديات

الإمبراطورية الأمريكية.. القوة الأعظم تتراجع !

الدكتور طارق عبود

يقول جان جاك روسو: “إذا كانت إسبارطة وروما قد زالتا، فأيّ دولة يمكن أن تأمل الاستمرار إلى الأبد؟”. وفي حوار مع الرئيس الصيني، يقول زبيغنيو بريجنسكي إنّ أميركا “تتراجع وأنتم تتقدمون”، فيردّ الرئيس الصيني: “أرجوكم لا تتراجعوا بسرعة”!

شكّل تراجع القوة الأميركية، و”القلق على مستقبل المكانة الأميركية في بنية النظام الدولي”، هاجسًا أرّق عقول النخبة الأميركية من المفكرين الاستراتيجيين منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا.

سقوط الاتحاد السوفيتي عزّز نزعة الزهو الأميركي، كما تبدّت في كتاب “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما، إلا أنّ المفكّر بول كينيدي كان في طليعة من كشف في كتابه “صعود القوى العظمى وهبوطها” عن أنّ وصول الولايات المتحدة إلى نقطة “التمدد الزائد” للامبراطورية، هو سبب الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية البنيوية التي تفاقمت في الولايات المتحدة في العقود الماضية، لتبدأ بعدها رحلة التراجع.

ثمة نقاش محتدم حالياً عن مآلات الإمبراطورية الأميركية، ونفوذها وقوّتها، وهل ما زالت هي القوة المهيمنة على النظام الدولي، أم أنها في طور التراجع، وبالتالي فقدان هيبتها وكلمتها وشبابها؟

تتوزع النظريات والآراء حول نفوذ الولايات المتحدة وحضورها على مروحة واسعة من الآراء، ولكنّ اتجاهين بارزين يسيطران على النقاش، والكثير من الآراء – أصدقاء أميركا وأعداؤها – ينزلق نحو الذاتية والتمني على حساب التحليل الواقعي الموضوعي. فأين أصبحت الامبراطورية الأميركية بعد مرحلتي باراك أوباما ودونالد ترامب، ومع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض؟ وهل هناك تراجع فعلي، أم مجرد تمنيات؟

قبل الشروع في تشريح آراء المنظرّين للتفوق الأميركي، لا بدّ من التعريج على ما أورده جورج فريدمان في كتابه “العشرية القادمة” الصادر في العام 2011. قال فريدمان إنّ الولايات المتحدة وجدت نفسها تصارع في عالمٍ معقّد بسبب “التوسع  الزائد” غير المخطط  له؛ حيث امتدت مصالحها وقواتها في معظم أرجاء العالم، فتبدّت الأزمة عندها في كيفية التوفيق بين جانبين. فهي أرادت الحفاظ على البعد القيمي في علاقاتها الدولية، من خلال المنظور المثالي المتجسّد في “القيم والمبادئ”، وهو الأنسب لنظام الجمهورية، وبين المنظور الواقعي المتمثّل في “القوة والمصالح”، وهو “الآلية الأنسب للإمبراطورية”.

الولايات المتحدة القوة الأعظم

يعتمد المدافعون عن استمرار التفوق الأميركي، وفي مقدمهم أستاذ العلوم السياسية الأميركي جوزيف ناي على سردية عدم وجود اختلاف بين الباحثين على أن الولايات المتحدة ما زالت تتصدر النظام الدولي، ويتكئ في ذلك على أنها ما زالت الطرف الأقوى والأكبر في امتلاك عناصر القوتين الناعمة والخشنة. إذ إنّ لديها أكبر اقتصاد عالمي، وأكبر قوة عسكرية في العالم، وميزانيتها العسكرية تساوي تقريبًا مجموع أكبر عشر ميزانيات عسكرية من الدول التي تليها في الترتيب، وعملتها هي الدولار، وهي العملة العالمية التي تستحوذ على نحو (62) في المئة من المبالغ والاحتياطات في البنوك المركزية في العالم، وأنّ الجامعات الأميركية  تشغل نحو نصف قائمة الجامعات المائة الأفضل في العالم. كما أن أكبر الشركات العالمية هي شركات أميركية، مع التنبّه إلى الهيمنة الأميركية على شركات البرمجة الالكترونية والتواصل الاجتماعي (مايكروسوفت، آبل، غوغل، فايسبوك، انستغرام، تويتر، واتساب إلخ..)  وأن هناك (46) رئيس حكومة في العالم هم من خريجي الجامعات الأميركية، وهناك حوالي (750) ألف طالب أجنبي يأتون للدراسة في الولايات المتحدة سنوياً.

خلال القرن الممتد من 1910 إلى 2010 تغيّر توزيع القوى خمس مرات، وسيؤدي ذلك مستقبلًا إلى إعادة النظر في إجراءات التصويت في المنظمات الدولية مثل مجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد

ويورد جوزيف ناي في كتابه “مستقبل القوة” أن القوة الأقرب لمنافسة أميركا، وهي الصين، تعاني مشكلات عديدة تمنعها من التفوق على الولايات المتحدة وهي: ديموغرافية (سياسة الطفل الواحد)، فقر الريف، احتمال تلكؤ النمو الاقتصادي، إفتقاد النظام السياسي الصيني للشرعية، تفوّق الولايات المتحدة على الصين في السينما والجامعات والبحث العلمي، معدل دخل الفرد سيبقى لصالح أميركا حتى ما بعد العام 2050. وأخيرًا سيكون الإنفاق الدفاعي الصيني في عام 2025 مساويًا لـ 25% من الإنفاق الدفاعي الأميركي الحالي.

ولكنّ جوزيف ناي نفسه يعترف في النهاية، أنّ الصين لن تتساوى في مجمل القوة مع الولايات المتحدة؛ لكنها قد تشكل تحدّيًا مهمًا لها، ويشير إلى أنّ معضلة الولايات المتحدة هي في مشكلاتها الداخلية الثقافية والاقتصادية والمؤسسية؛ فهناك ضعف في المستوى التعليمي المدرسي، ولا تزال الفروق الطبقية طبقًا للمقياس الجيني عالية، إضافة إلى فقر الأطفال، وتراجع معدلات الإدخار، ومشكلة احتمال إغلاق باب الهجرة.

ويختم ناي قائلًا إنّ أزمة أميركا لا تكمن في تزايد مظاهر التراجع لديها، وإنما في قدرة القوى الدولية الصاعدة، وخصوصاً الصين، على تقليص الفجوة معها والتقدم بخطى ثابتة نحو “نقطة حرجة” مستقبلية يمكن أن يتجاوزوا فيها المنافس الأميركي، وهذا التجاوز قد يأخذ شكلاً اقتصاديًا، وشكلًا علميًا وتكنولوجيًا، قد يتبعه لاحقًا الشكل العسكري.

هل الصين مترددة في القيادة؟

يسهم مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي في كتابه “رؤية استراتيجية“، في هذا الجدل الاستراتيجي، حول بنية النظام الدولي القادم، والقوى المركزية فيه، وحول دور الولايات المتحدة في عالم يتغيّر ولو ببطء، وذلك من خلال ملامح ليست خفيّة للعالم عبر مدى زمني قصير ومتوسط (2025 وما بعدها).

يقول بريجنسكي إنّ الولايات المتحدة “لن تتمتع بالمكانة الدولية نفسها، ولن تبقى متفردة بالزعامة خلال الفترة المشار إليها، نظرًا إلى التوزع الجيوسياسي الذي يصيب مؤشرات القوة المختلفة. فإذا كان المدى الجغرافي للغرب قد تقلّص (بفعل انكماش الظاهرة الاستعمارية) فإن تمدّده الجيوسياسي والاقتصادي تواصل. وما يؤشر على توزع القوة، هو تحويل مجموعة الثمانية إلى مجموعة العشرين، أي أن المشاركين في صنع الاتجاهات الكبرى تزايدوا، وهو ما يجعل القدرة على الوصول إلى قرارات دولية، أكثر تعقيدًا. إضافة إلى أنّ إعادة توزيع القوة يسير بوتيرة أسرع مما عرّفته النظم الدولية التاريخية، فخلال القرن الممتد من 1910 إلى 2010 تغيّر توزيع القوى خمس مرات، وسيؤدي ذلك مستقبلًا إلى إعادة النظر في إجراءات التصويت في المنظمات الدولية مثل مجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد.

وإذا كانت الصين هي القوة الأكثر سرعةً في الصعود، فإنها لن تتمكن من تحمل أعباء القيادة – بل هي ليست متعجلة لذلك-، وهو ما سيجعل بنية النظام الدولي وتفاعلاته أقرب إلى النمط “الفوضوي” الذي يتعزز بالتنافس في آسيا بين القوى المركزية، وعلاقات العداء بينها (الهند والصين وباكستان) من ناحية و(اليابان والصين وكوريا) من ناحية أخرى، إضافة الى عدم تماسك الاتحاد الأوروبي (خروج بريطانيا منه مؤخرًا) وتخليه عن أعباء الحفاظ على “موقع الغرب” في النظام الدولي وتركه على كاهل الولايات المتحدة وحدها.

ريتشارد هاس: كلّ ما فعلته إدارة دونالد ترامب في السياسة الخارجية سيؤدّي إلى تراجع ملحوظ في نفوذ الولايات المتحدة لمصلحة الصين وإيران وروسيا

أميركا تتراجع

عندما نتكلم على نظرية التراجع، لا بدّ من الاستشهاد بدراسة للدكتور وليد عبد الحي استعرض فيها آراء ما يعرف بتيار “التراجع الأميركي” على مدى العقود الأربعة الماضية، وهو تيار يرى أن الولايات المتحدة تسير في مسار متراجع هابط. ولمعرفة تعقيد الواقع الدولي اليوم، والمنافسة الحامية بين الولايات المتحدة والصين، وضع  عبد الحي جدولًا من عشرين مؤشرًا استراتيجيًا يتعلق بقياس القوة، معتمدًا على دراسة أكاديمية أميركية، تشمل الولايات المتحدة والصين خلال السنتين 2018-2019، وأحيانًا الأخذ بمعدلات المؤشر لسنة 2020.

وقد كشف الجدول أن الولايات المتحدة تتفوق في عشر مؤشرات، بينما تتفوق الصين في المؤشرات العشرة الأخرى. وأن مجموع نقاط التفوق الأميركي هو (19) نقطة بينما مجموع نقاط التفوق الصيني هو (16) نقطة، وأن توزيع نسبة القوة لكلا الطرفين يشير إلى أن نصيب القوة الأميركية هو (54.3%) بينما نصيب القوة الصينية هو(45.7%) أي أنّ الولايات المتحدة ما زالت في المقدمة.

ومثّلت دراسة مجلس المخابرات الوطني الأميركي (NIC)  أحد التنبؤات المعزّزة لفكرة تحوّل النظام الدولي إلى التعددية القطبية، وهي تتحدث عن ظهور قوى كبرى جديدة، ومواصلة العولمة الاقتصادية، وانتقال الثروة من الغرب إلى الشرق، وتنامي كيانات ما دون الدولة، وما فوقها، كما إتجاه العالم نحو قدر أقل من الفجوة بين الأقاليم والدول في النظام الدولي القادم، والذي حدده التقرير بالعام 2025.

مشكلة الرأسمالية ونهاية العصر الأميركي

بدوره، يقارب رئيس “مجلس العلاقات الخارجية”، ريتشارد هاس العالم الجديد في مقالة نشرها موقع “فورين أفيرز” مطلع هذه السنة، فيقول إن عالم ما بعد أميركا “لن يكون محدّدًا بأولوية الولايات المتحدة. هو عالمٌ بدأت ملامحه تظهر في وقتٍ أقرب ممّا كان متوقعًا، ليس بسبب الصعود الحتمي للآخرين، ولكن بسبب ما فعلته الولايات المتحدة لنفسها. وأنّ كلّ ما فعلته إدارة دونالد ترامب في السياسة الخارجية سيؤدّي إلى تراجع ملحوظ في نفوذ الولايات المتحدة لمصلحة الصين وإيران وروسيا”.

في كتابه المعنون “نهاية العصر الأميركي، يقول تشارلز كابشن، الباحث المتخصّص في الجغرافيا السياسيّة، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون، بحتمية سقوط الإمبراطوريات الكبرى، ذلك أنه يستحيل بقاء أي إمبراطورية على قمّة الهرم للأبد. لقد كانت روما إمبراطورية عظمى، وقد سيطرت على مساحة جغرافية شاسعة (امتدّت من ثلاثمائة الى أربعمائة عام، وهي حقبة طويلة مقارنة بإمبراطوريات أخرى اختفت خلال مدة أقلّ بكثير) أما أحد الأسباب التي تجعل من لحظة تربّع أميركا على قمّة الهرم العالمي قصيرة، فيكمن في أن التاريخ يسير اليوم بسرعة أكبر بكثير من السابق.

خاتمة

سيبقى هذا النقاش مشتعلًا بين الفريقين، إلى أمد غير قصير، في انتظار حدث مبدّل كبير يشكّل انزياحًا في واقع النظام الدولي الجديد. وقد يكون ما حصل في ختام سنوات ولاية ترامب، وتحديداً في حادثة اقتحام الكابيتول هيل، أوضح مؤشر إلى عمق الأزمة الأميركية الداخلية التي قد تتسبب في تراجع القوة الأميركية وتقدّم غيرها، ما يضعنا أمام فرضية نظام دولي متعدد الأقطاب، ولكن شكله وماهيته ما زالا غامضين إلى حين الوصول إلى تلك اللحظة التاريخية. ولكن من المؤكّد أنّ أميركا التي عرفناها منذ سقوط جدار برلين لن تبقى كما كانت منذ ثلاثة عقود حتى الآن.

*أستاذ جامعي و باحث في السياسات الدولية /لبنان

*نقلا عن موقع 180post.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى