أدب وفن

حَبُّوبة حَدَّاد رائدة في الكتابة عن قضايا المرأة العربية

تحيَّة إلى عطاءاتها لمناسبة مرور 124 سنة على ولادتها (الحلقة الثانية)

الدكتور وجيه فانوس

انتقلت «حبوبة» من «باريس: إلى الولايات المتَّحدة الأميركية؛ حيث اجتمعت بجبران خليل جبران؛ وقد كتبت عن لقائها بجبران مقالاً نشر في الصفحة العاشرة من مجلة «المعرض»، لميشال زكُّور، يوم الأحد، الواقع فيه 3 أيار سنة 1931. تذكر «حبوبة حدّاد» أنها قدَّمت، في «بوسطن» مع «جبران» محاضرة واحدة؛ وتروي أنها سألته قبيل المحاضرة: «أوأنت جبران؟ فوضع يده على كتفي وقال مازحاً: إنّى لي أن أصدقك الخبر وأنا أعزل من المعاول وبقايا القبور كما ترين. ثم أخذني بتؤدة الى كرسي موضوع الى جانبه، فجلست مأخوذة برصانة تلك الشخصية التي أسبغت عليها الثقافة اللاتينية السامية أبهى حللها، وبإشراق ذلك الوجه المستطيل الذي أفرغت في تكوينه وتقاطيعه آيات النبوغ السماوي، وكيف أن تلك العيون التي خلتها بالأمس مقرحة مجدبة تتدفق بأنوار الحكمة والمعرفة». وتروي «حبوبة حداد»، أيضاً، أنَّ جبران سأل «النساء المتحمسات الموهوبات»، «لماذا تقتلن مواهبكن السامية بالسياسة والصحافة والتجارة؟»، وأجاب: «ارجعن الى غريزتكن الطبيعية واكتبن في النهار سطراً واحداً من شعوركن وعواطفكن، فلا تمرّ السنة إلا ويتجمع عند الواحدة منكن 365 سطراً خالداً». وقد ظلَّت «حبوبة حداد» على تواصل أدبي وفكري إلى حين وفاته سنة 1932.
لم تطل إقامة «حبوبة حدَّاد» كثيراً، بين «فرنسا» و«الولايات المتَّحدة الأميركيَّة»؛ إذ ما لبثت أن عادت إلى لبنان، أواخر العقد الثاني من القرن العشرين؛ وكان البلد قد صار تحت سلطة حكم الانتداب الفرنسي. استقرَّت «حبوبة» في «بيروت»، وتابعت، طيلة سنوات تسع، إصدار مجلتها «الحياة الجديدة». ولقد تبوَّأت المجلة مكانة رفيعة عند أهل الأدب وناس الثقافة، كما حقَّقت انتشاراً واسعاً بين أبناء الوطن؛ ويبدو أنَّ صفحات المجلة غدت منبراً لمقالات تنادي بمناهضة السلطة المنتدبة وتطالب بالحقوق الوطنيَّة للبنانيين؛ لم يكن هذا الأمر ببعيد عن مسيرة المجلَّة السَّابقة، يوم كانت تصدر خارج لبنان؛ ولعلَّ هذا الانتشار كان السَّبب الأساس الذي دفع بالسلطات الحكوميَّة، عهدذاك، من إصدار قرارها بإقفال المجلة ومنع صدورها.
ما أن صدر القرار بإقفال «الحياة الجديدة»، حتَّى جعلت «حبوبة حدَّاد» من منزلها، في «بيروت»، صالوناً أدبيَّاً؛ تابعت عبر نشاطاته، المسيرة الوطنية والأدبية والثقافية العامَّة للمجلَّة. و«الصالون» كلمة من أصل لغوي لاتيني «salon»، تعني المكان الذي يستقبل فيه أهل البيت زوارهم. والصالون الأدبي هو ملتقى لأدباء وفنانين وأهل معرفة وثقافة. ولم تكن ظاهرة «الصالونات» أو المجالس «الأدبية»، التي تنشؤها سيدات، بجديدة على الثقافة العربيَّة على الإطلاق، ولا على الزمن الذي أنشأت فيه «حبوبة حدادة» صالونها الأدبي في مطلع ثلاثينات القرن العشرين. ويذكر الباحثون مجلس السيِّدة سُكينة بنت الحسين، في «المدينة المنوَّرة» في العصر الأموي؛ وقد ضمَّ نخب من شعراء مجتمعها، يتبارون في حضرتها بما ينظمونه ويتقبلون أحكامها على هذا المنظوم. كما يذكر التاريخ الثقافي العربي مجلس ولاَّدة بنت المستكفي في الأندلس، وكانت شاعرة لها مجلس في قرطبة يؤمّه الأعيان مع صفوة الأدباء. وقد عرفت فرنسا، لاحقاً، الصالون الأدبي في القرن السابع عشر وكثرت الصالونات في القرن التالي له، واكتسبت طابعا عالميا، وكان يقوم عليها سيدات اتَّصفن بالذكاء والألمعية والثقافة والجمال، والحس الاجتماعي الرهيف. وشهد العالم العربي أوَّل «صالون أدبي» في القاهرة، حيث كان صالون الأميرة نازلي فاضل بنت الأمير مصطفى فاضل (1853 – 1914)؛ ويقال إن كبار المصريين والأوروبيين، ومنهم الإمام محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ومحمد المويلحي وآخرون، كانوا من روَّاد هذا الصالون. وقد شهدت مدينة «حلب»، في بلاد الشام، مولد «صالون ماريانا المراش» (1849-1919)؛ ولعلها أول أديبة سورية برزت في مجالات الأدب والشعر والصحافة في مطلع القرن العشرين، كما كانت تجمع بين الثقافتين العربية والفرنسية. ولا يمكن، والحال كذلك، إلاَّ ذكر أكثر الصالونات الأدبية العربية شهرة في القرن العشرين، وهو «صالون مي زيادة» (1886-1941)، التي كانت أديبة لامعة تجيد الفرنسية والإنكليزية والألمانية؛ وكانت تعقد جلسات صالونها في منزلها في القاهرة، حيث يحجُّ إليها كبار أهل الفكر والأدب والسياسة والصحافة العرب في زمانها، ومنهم عباس محمود العقاد وخليل مطران وأنطون الجميل ومصطفى لطفي المنفلوطي وأمين الريحاني ولطفي السيد. وكانت «جوليا طعمة دمشقية»، وتعتبر من أبرز رواد التربية والاجتماع والصحافة في لبنان، قد سبقت «حبوبة حداد»، سنة 1917، إلى تأسيس صالون أدبي لها.
كان صالون «حبوبة حداد»، ينعقد في منزل مؤسسته، ويجمع في لقاءاته كباراً، من لبنان والعالم العربي، من مختلف الانتماءات الدينية والسياسية والاجتماعية، ورواداً في مجالات الأدب والفكر. لقد كان كان مجلساً مختلطاً، يضم إلى رحابه الأدباء كما الأديبات، في تبادل النقاشات وعرض الأفكار والآراء. استمر هذا «الصالون» من سنة 1948 إلى السنة التي توفيت فيها مؤسسته، سنة 1957. من أبرز المشاركين في هذا المجلس، عهدذاك، رامز سركيس، مدير جريدة «لسان الحال»، وسلمى الصايغ، «مؤسسة الجمعيات العديدة ورئيسة تحرير مجلة صوت المرأة»، وجبران التويني، «الوزير صاحب جريدة النهار»، والأميرة نجلا أبي اللمع، «الصحافية والكاتبة ومنشئة مجلة الفجر»، وأمين نخلة، «الأديب والمحامي»، أمين الريحاني «فيلسوف الفريكة»، وجوليا طعمة دمشقية، «المربية والأديبة»، وحبيب باش السعد، «الرئيس السابق لمجلس الإدارة اللبناني ورئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق»، وطانيوس عبده، «الكاتب المسرحي»، وميشال زكور، «الوزير وصاحب مجلة المعرض»، وداود بركات، «صاحب الأهرام»، وإلياس أبو شبكة «الشاعر الكبير»، وأحمد شوقي، «أمير الشعراء»، وصبحي بركات، «رئيس الدولة السورية الأسبق»، وجميل مردم بيك، «الوزير السوري الأسبق ومؤسس جمعية العربية الفتاة».
أضافت «حبوبة حداد» إلى المكتبة العربية كتابين؛ أولهما «نفثات الأفكار»، وثانيهما «دموع الفجر ويضم كل منهما مجموعة من مقالات مؤلفته؛ في موضوعات وطنية واجتماعية وثقافية؛ ولها، أيضاً، كتاب يعرض لبعض عادات ناس بيروت وتقاليدهم؛ فضلاً عن قصص أطفال وأعمال أخرى لم تنشر.
يطيب لي اليوم، وفي الذكرى السنوية الرابعة والعشرين بعد المائة الأولى، لبزوغ شمس «حبوبة حدَّاد»، أن أحيي ما قدَّمته لي، ولأبناء جيلي، وللبنان، وللثقافة العربيَّة من غنى؛ والأمل، الأمل الكبير، أن يكون الاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والعشرين بعد المائة الأولى لولادتها، مناسبة لاحتفال وطني ثقافي جامع حول نتاجها وأعمالها، وكشف كثير من كنوز عطاياها التي ما انفكَّت قابعة ضمن مكتبة تسجيلات «إذاعة لبنان»، أو في بطون بعض الصحف، أو في صناديق عائلتها.
«حبوبة حدَّاد»، وألف عبق شوق معطاء لفكرك وعطائك وصوتك الذي حفر في وجودي حضورا له لا ينتسى.
********
مراجع الدِّراسة:
{ إميلي فارس إبراهيم، أديبات لبنانيات، دار الريحاني، بيروت، 1961.
{ جورج مخايل كلاَّس، الحركة الفكرية النسوية في عصر النهضة، دار الجيل للنشر والطبع والتوزيع، بيروت، 1996.
{ ناديا الجردي نويهض، نساء من بلادي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1986.
{ نجيب العيني، صحافيات لبنانيات رائدات وأديبات مبدعات، مؤسسة نوفل، بيروت، 2007.
{ يوسف أسعد داغر، مصادر الدراسة الأدبية، مكتبة لبنان ناشرون، 2000. 
————–
* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي

*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى