دلالات الوجه في حوار الصورة و تجسيد الرؤية / جولة في المعرض الشخصي للفنانة نباهيد الهيسى

دلالات الوجه في حوار الصورة و تجسيد الرؤية / جولة في المعرض الشخصي للفنانة نباهيد الهيسى
نزار حنا الديراني
جولتي في المعرض الفني التشكيلي للزميل الفنان غسان فتوحي والفنانة نباهيد ايشو الهيسى المقام في قاعة مكتبة كريكبرن – ملبورن / أستراليا حيث تجد فيض من الألوان والخطوط تتحدث كلغة تعبيرية تحمل رؤية انسانية تختزل مسيرة الفنان من خلال لمسته الفنية والتي تطغي على فضاء الصورة وهي تنبض بالحياة وتعكس معاناة الأنسان ، حيث ركز الزميل غسان في العديد من صوره على الحياة اليومية التي يعيشها الانسان الكادح إن كان في المدينة أو الريف أما الفنانة نباهيد كانت تستحضر الماضي أو تحاكي الخيال في لوحاتها .
من خلال جولتي هذه لفت انتباهي الى ما تعكسه معالم الوجه ونظرات العين ودلالاتهمت في اللوحة، ولأني كتبت عن ما كانت تجسده لي ملامح الوجه في لوحات زميلي الفنان غسان فتوحي في مقالين سابقين الذي يرسم الوجه بتقنية عالية ، لذا سأركز اليوم على لوحات الفنانة نباهيد الهيسى .
في أكثر من مقال كتبت عن انعكاسات الصورة في الشعر والرسم فكلاهما يتداخلان ويعضدان أحدهما الآخر ، ففي كلاهما تحتل الصورة مكانة واسعة في فضائهما كونها من نتاجات الأنا لكل منهما ، حيث تحاول الصورة الانفلات من الباطن والمتجلية في أعماق الذات ، لذا حين نتأمل الصورة في كل فن منهما سنجد ان دور الفنان والشاعر تكمن في تحميل هذه الصورة بعناصر قادرة على تجسيد الأنا للمشاهد / القارئ مما يطرح حواراً بين الذي يجسد الصورة والمتلقي ، إلا أن الشعر دائماً ينحو بإتجاه الذهنية والوجدانية أما الفن التشكيلي فنتلمسه وهو ينحو بإتجاه الحسية … لذا فالصورة الشعرية تكون مادتها الكلمات / أصوات أما الصورة التشكيلية فمادتها هي الخطوط والألوان واحيانا ( في النحت) المادة الصلبة. جميعهم يصورون الواقع من خلال نظرتهم الى الحياة .
في هذا المعرض سأركز على اللمحة التي تدفع بالمتلقي للوقوف والتأمل أمام الصورة من خلال تلك الشخصية التي تحتل فضاءً واسعاً في اللوحة بعد أن شحنتها الفنانة بالأيقاع لتصبح وسيطا جماليا تدخل في حوار تدريجي مع المشاهد.
فلو توقفنا أمام هذه الصورة وتأملناها من خلال تأمل تلك المرأة التي أخذت مساحة كبيرة من اللوحة لأهميتها وهي مرتدية زيها الملكي وصامتة ، انها تقف على أطلال آثار نينوى بجدارياتها الشامخة ، حيث تشير نظرتها التأملية والتي يشوبها الصمت الى الحزن العميق الذي انتابها من خلال ما آل بها الزمن … لقد كانت الفنانة موفقة في الجمع ما بين صورة الوجه الصامت وهدوء الألوان لتقول لنا هناك نقص حاصل في الطبيعة لغياب عنصر مهم وهو الفاعل ( الامبراطورية الأشورية )، لذا تراها ركزت على صورة الثور المجنح والملكة التي تقف حائرة وهي تتأسف للغياب الحاصل للنحات الذي جسد قوة امبراطوريته من خلال هذه الجدارية مما دفع الفنانة للتعويض عن ذلك النقص من خلال تصوير الملكة كأجمل ما يكون بالاعتماد على الخيال التي جسدته من خلال النظرة التأملية للمرأة كي تحاكي الواقع وتخاطب المشاهد من خلال تحريك مشاعره ولكن ليس تصويراً مرآوياً كون الطبيعة في نظرها ناقصة .
وهكذا في لوحتها الثانية والتي جمعت فيها الأمومة (العطاء) والبراءة (الطفولة).
في هذه اللوحة تحاول الفنانة نباهيد تجسيد مشاعرها من خلال فرشاتها وألوانها الهادئة – بإستثناء قطعة القماش الداكنة والتي تحتضن الآلة الموسيقية وكأنها تريد أن تعزف لنا لحن الحب والأمومة ، فنظرات الأم تجاه هذين الملاكين توحي بالتفكير والتمعن بالمستقبل .
ولكون الوجه في دراستي هذه أداة الحوار والواجهة التي أطل من خلالها لقراءة رؤياها لذا حاولت التركيز عليه لدلالاته وأهميته في تجسيد الرؤيا ، فعلامات الوجه ونظرة العين هي التي تنطق بلغة صامته وتحاور الذات وتعكس حواراتها لدى المتلقي من أجل تبادل المشاعر .
هذا الوجه الجميل في اللوحة يدعونا للتأمل فهو يوحي للخوف من الواقع المؤلم الذي ينتظر الطفولة .
في هذه اللوحة لعب الخيال دوره في الحوار مع الذات من خلال فرشاتها وألوانها .


وفي لوحتها الثالثة نتلمس ما توحي اليه نظرة المرأة وحوارها مع الشموع من خلال تأملها . فصورة الوجه ونظرات العين توحي الى التساؤل عن المستقبل والذي تراه في الصورة المعكوسة والتي أعطتها اللون الأسود ، فوجهها الإنساني المشرقي والمائل الى الأسفل قليلا يوحي الى الخشوع والرجاء فهما بوابة الروح، ونظرة عينيها هو المعبر والجسر الذي من خلاله يمكننا الوصول إلى رؤياها، والوقوف على ماتموج به من أحاسيس متباينة تتأرجح بين الآمال والهموم.
ففن الرسم هو الوجه الاخر للفنان عندما يقفت عاجزاً عن تغيير الواقع الذي يعيش فيه، فهو ومن خلال لوحته يبكي ويرقص، نعم يرقص حين يراقص اللون بفرشاته مما يسمح للوحة أن تتحول إلى انعكاس لشخصه .
وفي اللوحة الرابعة نجد هناك انسجاما كبيرا وتعبيرا من خلال الدمج بين الشيخ الهرم الذي يمثل أحد آباء كنيسة المشرق والكتاب (مخطوطة) من جهة ومن جهة أخرى خلفية الصورة التي تعكس لنا الطبيعة بمغارتها المنحوتة في الجبل والطبيعة الجبلية فاسقطت الضوء على ألوانها الداكنة لتترك لنا فسحة من الأمل للارتقاء الى السماء ، فهي من خلال ألوانها وعلامة الوجه الصامتة والمتاملة توحي الى المتلقي بطبيعة الحياة القاسية والتي كان يعيشها آبائنا وهم ينزوون في أماكن بعيدة لعصر ما بمخيلتهم وطبعها على الورق كي يستفيد منها الأجيال اللاحقة.
هذه اللوحة تحمل أبعاداً جمالية وفلسفية ترتبط بهموم الراهب / الأديب الذي كان محور اهتمام الفنانة في هذه اللوحة لذا أفرزت له مساحة كبيرة من فضاء اللوحة وكما في لوحاتها السابقة ، والتي تعبر بمعادلتها بين الشكل والمضمون من خلال قوة الفكر وعمق المعنى .
وهكذا في بقية لوحاتها والتي كانت وكما لدى زميلها الفنان غسان تحتل الصورة مساحة كبيرة من فضاء اللوحة وكلاهما استطاعا بكل جدارة أن تقدما إنجازاً تشكيليا ثرياً من خلال ريشتهما ومجموعة ألوان أصباغهما ورصدهما بعين ذكية للعناصر التي تشكل البعد الجمالي والرؤية الشديدة الإلتصاق بمستقبل الانسان متمنيا لهما مسيرة فنية مشرقة .
*شاعر ناقد و مترجم