في الذّكرىَ المائوية “لمعركة أنوال الخالدة ” الفصل – الثالث والعشرون- من – رواية “تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون”

في الذّكرىَ المائوية “لمعركة أنوال الخالدة ” 1921- 2021 الفصل – الثالث والعشرون- من – رواية “تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون“
( سيرة بطل مُجاهد شهيد معركة “أنوال” الماجدة)
الدكتور محمّد محمّد خطّابي
“..كانت العادة عند أهل الرّيف أنه غالباً ما تفصل بين فترة الخطوبة وموعد حفلة الزفاف مدّة زمنية غير طويلة ، وفى حالة الفتىَ (مُوح) لم تمرّ سوى بضعة أيام قليلة حتى تمّ الإعلان العلني عن حفل العُرس، كان كلّ شيء مُعدّاً لإتمام هذا الزّواج المبارك بين عائلتين كريمتين عريقتيْ الحَسب والنسَب في أجدير،وتمّ الاتفاق بين الأسرتين على اختيار يوم الجمعة ليكون يوم نهاية حفل الزّفاف، اعتقاداً منهم ببركة هذا اليوم لما له من دلالات، وأبعاد، ورموز دينية عميقة عندهم .
وقبل يوميْن من انطلاق احتفالات الزّفاف تمّ حمل الهدايا للعروس رفقة ذبيحة العُرس،بعد تزيينها وتخضيب قوائمها بالحنّاء، قادها شقيق (مُوح ) الأصغر حمّوش نحو بيت العروس وقد رافقه خلال هذه ” الدّفعة ” أفراد من أالعائلة وبعض الأقارب والأصدقاء والجيران المقرّبين.
في نفس ذلك اليوم السّابق لحفل الزفاف تمّت إقامة بعض الطقوس والتقاليد التي تجري في كلّ بيت في مثل هذه المناسبات مثل الحنّاء ، وتزيين الأطباق والأواني بالشّموع وسواها من مظاهر الزّينة التي تتّسم في الغالب بالبساطة ولا تصل أبداً حدّ البذخ والمبالغة .
في نفس هذا اليوم كذلك أقيم حفل الحنّاء الخاص بالعريس، بحضورأقربائه وأصدقائه وأفراد من عائلته، والجيران، وقامت شقيقته فظمة بوضع الحنّاء على أصبعه الأصغر، وتمّ ترديد الأدعية التي تقال في مثل هذه المناسبات لطلب رضى الله تعالى، وبسط بركته ونِعمه على هذا الزّواج السّعيد .
عندما بدأ الليل يهبط على قرية أجدير الآمنة، وطفق القمر الفضّي يتسلّل مُطلاًّ بين السّحب الداكنة ،في هذه الليلة المُقمرة انطلقت حناجر النساء تصدح بالغناء بأغاني (رالا بويا) تعبيراً عن الفرح ،وارتجلت الصّبايا الحِسان في غنائهنّ قطعاً رائعة من ” إزران” وهي أبيات شعرية غنائية تقليدية متوارثة يتمّ شدوُها على وقع هدير الدفوف (آجُون) ،وغالباً ما كانت هذه الاغاني وليدة السّاعة اذ تُغنّىَ بطريقة ارتجالية عفوية تتخللها أنغام صوتية وموسيقية رخيمة تتردّد صداها في نواحي القرية في سكون الليل الهادئ الصّحو الجميل ، وتمّ خلال هذا الحفل البهيج جمع الهدايا وبعض الهبات من المبالغ المالية وترديد أغاني خاصّة من (إزران) تشجّع الحاضرين على الإسهام بسخاء في ما يُسمّى ” رغرامث” .
في الجانب الآخر من القرية على يمين بيت (مُوح) كانت تصل أصوات الموسيقىَ والغناء ودقّات الدفوف حيث أقيم حفل آخرمشابه فى بيت العرُوس، في تلك الهنيهة سرح الفتى (مُوح) بفكره، وتخيّل أنّ خطيبته التي ستصبح في يوم الغد زوجته، لابدّ أنها تجلس في وقار في كامل زينتها، وهي ترتدي ثوباً أبيض ناصعاً عملاً بالتقاليد والعادات المتّبعة في مثل هذه المناسبة السعيدة ، وهي تتزيّن بالحِليّ الفضيّة البهيّة التي أهداها لها خطيبُها قبل أيام ،والتي اقتنتها للعروس والدته رفقة ابنتيْها فظمة ومنوش من سوق الإثنين الخاص بالنساء ( رثنيْن نتمغارين) قبل أيّامٍ خلت، واختتمت الاحتفالات في منزليْ العروس والعريس بإقامة وليمتيْن لجميع المدعوييّن والحاضرين، والجيران الأقربين ولسائر أفراد الأسرتيْن .
في اليوم الثالث الذي صادف يوم الجمعة نُقلت العروس إلى بيت زوجها، وقد زُّينتْ بأبهىَ وأجمل الحليّ التقليدية، وهي في طريقها الى بيت زوجها رافقها والدها إلى خارج البيت، حيث كان شقيق العريس أحمد يمسك بلجام فرسٍ مُسوّم رشيق. قام الأب بمساعدة ابنته العروس على امتطاء الفرس وانطلقت نحو منزلها الجديد رفقة موكب مهيب تتردّد خلاله أهازيج وأغاني وأمداح خاصّة بهذه المناسبة .
عند وصول موكب العرُوس، كانت والدة مُوح “ميمونة أزرقان” تنتظر عروس ابنها ،استقبلتها بفرحةٍ عارمة وبصيّاح الزّغاريد الصّادحة، وبرمي خليط من حبّات من السكّر، والحلويات على الموكب المرافق لها، ثم قامت العرُوس بدورها برمي حُفنات من الحلوىَ والفواكه الجافّة، خلف ظهرها ليلتقطها بعض الحضور الذين رافقوها في هذا الموكب على وقع نغمات وضربات الدفّ البندير(آجون) وزغاريد النساء التي كانت تصدح في الآفاق ،وحسب التقليد المُتّبع، والإعتقادالسّائد في هذه الحفلات فإنّ كلَّ مَنْ حصل على قطعٍ من السكّر أو الحلوىَ التي قذفتها العروس على الحاضرين قد تفتح له أبواب الزّواج قريباً ، وتم ّ رفع الأكف بالأدعية الصّالحة لهذا الزّواج الذي جمع بين العائلتين وبين الزوجين معاً على وقع نغمات وأغاني فرق غنائية تعلوها وتتخللها بين الوقت والآخر زغاريد النساء ونغمات المزامير، والبنادير،والدفوف، مع إطلاق طلقات البنادق من فوهات الأسلحة النارية التي كان يحملها بعض الحاضرين على أكتافهم في الهواء الطلق .
كان العريس الذي يُطلق عليه في هذه المناسبة (مُوراي) (مولاي) جالساً داخل المنزل على أريكة وثيرة، وكانت تجلس على يمينه ويساره صبيّتان صغيرتان تحملان شمعتين ،كان (مُوح) يرتدي جلباباً أبيض ناصعاً، وسلهاماً أنيقاً ، بعد أن ضرب على حائط بيته بيده اليُمنى المُخضّبة بالحنّاء التي وضعتها له أخته منّوش قبل أيام كما يقتضي التقليد المُتّبع في احتفالات الأعراس. دخلت العروس منزل زوجها واضعة قدَمَها اليمنىَ على عتبة البيت تيمّناً واستبشاراً بالخير، وكانت تملأ هذه الأجواء البهيجة أهازيج وأغاني “رالا بويا” الأمازيغية العذبة التي لا تفارق أصداؤها ذاكرة الحضور .غداً سيشرق فجر يوم جديد في حياة (مُوح) نسّي أحمد إلى جانب زوجته منّوش أبقوي، وسيخطوان معاً أولى خطواتهما المشتركة في رحلة العُمر بهذا الصُّقع النائي من العالم الذي يخبّئ لهما فيه القدر الكثير من المفاجآت .. (يتبع) .
