أدب وفن

“بلال شرارة ..في ذكرى رحيله/ بقلم المخرج و الكاتب أحمد هاتف

كتب الشاعر و المخرج وكاتب السيناريو العراقي أبو الحسن أحمد هاتف ابو الحسن احمد

بلال شرارة ..في ذكرى رحيله
……..
لعلي أشرب من يد العصفور قطرة ماء

……
أولا …..

لتكتبَ بلال شرارة ينبغي أن تكون ضوءًا .. وينبغي أن تتحلى بصبر كرسي وحنكة ريح .. ولابأس ان تتصف بما يملكه الماء من قدرة على اختراق الزوايا المبهمة .. فأنت أمام ” هوميروس آخر ” .. تكفل برواية حرب الحكمة والضجر .. لأنه ولد قرب حكايات .. وقصائد وتربى على إيقاع يقرأ كف الهدوء .. وسكون الغصن ..
اعترف ان من الصعب أن اقف بثبات أمام هذا السارد للسر .. الوافر في صنع الوقت لطلاء الجملة .. المديد في شحن الفكرة بهوس المعاني ..
نعم هو الرجل الذي ادرك كيف يكون سطحا في ضيعة .. وطريقا متعرجا .. وشجرة حبق .. ونافذة .. لكنه شجرة تين لايمكننا قراءة عمرها لأن الأفياء ماتزال تتلاعب بين يديها .. هو اذن خمرة أيام وعتق حنجرة .. ونقاوة ظل .. وتمدد معنى .. لذا هو الجهة الخامسة للشعر اللبناني .. ازعم ذلك من غرقي في استرداد المتفلت من معناه في قراءاتي المتعددة .. فهو ساطع ومبهم .. ناءٍ وقريب .. ملتبس وفاضح .. عريق ومتحضر .. بدوي وفرنجي .. لا أدري كيف يمكننا الإمساك به .. فهو يعترف ” اعترف اني اوغلتُ في صحارى الفراغ حيث لاشيء ” … اللاشيء هنا معنى أكثر عمقا من كل شيء .. لأن الخلاص ليس رحيما ، لابد للحكمة أن تقرأ وتدقق .. وتتأنى .. وتأول .. وهذه بالضبط هي مسافة النص لدى بلال شرارة .. محاولة لقراءة كف اللحظة .. التوازن الدقيق في تفكيك سر اللحظة الهاربة .. وتدقيق تأويلاتها الملتبسة .. هي بالضبط محاولة لتصوير اشعاعي لصدر اللحظة ..محاولة كشف مالحة ومؤلمة لرجل مشى على حبل المعرفة والحياة وصولا لمرحلة متقدمة .. وهنا يحاول شرارة أن يمتحن رؤاه .. أن يضع الأسئلة الكبرى لوجود اللحظة .. يريد ربما أن يصل الى ” قناعة أنه حي “
يريد أن يمتحن ثراء الحياة التي صارعها .. وتبادل معها الحب والسخرية
( انا لا أريد ان أنتبه الى اضطراب المعنى .. والى هذا الهواء المالس الشديد البرودة ) .. هو أذن العابر فوق المعرف للحياة .. او العابر للمعنى الظاهري للحياة بأتجاه الحياة الجوهرية التي تُقسمنا الى اضداد احيانا .. تصنع من أنانا أنوات متعددة .. لذا يقول ( أنا لا أزال منقسما على ذاتي ، أنا وأنا .. أنا ينام قليلا .. أنا مستيقظ كثيرا .. أنا يعيش في الاحلام … أنا يسكنه كابوس ويرخيه آخر .. انا يعشق بياضها ) .. هو الساكن في كل طبقات الملح في الحياة والسؤال .. لذا هو المتفوق في قراءة السر الماثل في السطوح المتعددة للحظة .. لذا يأتي بلال شرارة بما ليس للشعر به طاقة ..يأتي بصوت الفلسفة المنفتحة على حكمة وطفولة .. لذا فهو ليس مجرد حكاء بصوت الهواجس .. بل أعمق من ذاك بكثير واشد ثراء .. نحن لسنا إزاء نمط من الشعر .. بل نحن إزاء الشعر بتجسده الحي .. المعرفة ، التجربة ، التحسس المثالي للماحول ، الغزارة في امتصاص الواقع ، القدرة على صنع الارتداد الى صورة ..
لكن بلال شراره لايرى حتى هذا .. كأنه لايدين بالعرفان لوفرته الصاخبة .. كانه لايرى فداحة مايصنعه من أغراق لحقول الأسئلة في اذهاننا .. انه حزين لأن ماكان يريد الوثوب اليه اعلى كثيرا من سقف مانراه نحن
( أعترف قبل عام من الآن كان وجداني أصفى ، لغتي أكثر حنانا وتحنانا .. الآن هناك مايضغط على صدري ، يجعل تعبيراتي خشبية ، وفيها الكثير من العقد )…
كيف لشاعر أن يتخطى العالي الذي صنعه بهذه السهولة ؟ .. ليقف مشيرا الى عجزه الذي لم نرٌه .. اذن اننا امام ظاهرة شعرية لافتة .. تستحق التأني .. الدراسة .. التحليل .. فمن الصعب اليوم أن نضع اكاليلا على قامة بأرتفاع قامة بلال شرارة
…… ثانيا

يقول بلال شرارة ( كلانا لايصل ، لا أنا الى موعد الساعة ، ولاعقاربها الى الوقت ) .. الوقت اذن هو وهم الساعة .. تلك التي أخترعت لنشعر بأقترابنا من النهايات .. تلك التي تمنعنا من التجوال الحر في ازقة ارواحنا .. لكن شرارة يعتقد ( ليس العالم هو المكان والتاريخ ) لأن العالم هنا يتغير .. الأدراك العميق يجعله اكثر اتساعا واشد ضيقا .. هو هنا وكما في نصوصه الأخيرة حرا ..متجردا من ميراث النص .. نازعا تركات اللغة .. طليقا كما رقصة مجانين .. الوقت ، التاريخ ، الغد ، الأمس .. لاشيء بنكهة مانقوله ونراه ..فهذه التراكيب لم تعد الى ثوبها العادي لدى الشاعر.. ( أترك للأمور أن تمضي بي ولا آخذها ) هل هو الإتساق مع الفطرة ، ام الفهم العميق للجريان ، ام محاولة إحياء ماتهدم من صلات مع الطبيعة ؟
الوقت هنا كل مايعنيه ، هو طيفي الرؤية ، متعدد ، متناقض ، متواتر ، مهزوز وثابت .. عميق ومنتظم وفوضوي ، ف المشيئة بلا إيقاع لأن الإيقاع هنا هو غير المنتقى ، بل الحيوي الطبيعي المفاجئ ربما .. يدلل على هذا المعنى ذاك الأنفتاح على التشيؤ الفريد لدى بلال ( أنا ، الدجاجات ، الأشجار ، الهواء الحبيس في آنية الطقس ، الاحلام المعلقة في سقف الغرفة التي لاتدري أين تذهب في هذا اللاوقت ) ولبلال نظرة فريدة لهذا الزمان والمكان
( اذن ليس العالم هو المكان والتاريخ ، وليس الجغرافيا ولاعملية حسابية مضنية ، وليس تركيبا لغويا وليس حتى جملة مفيدة )
لكن بلال شرارة لايضع محددا لرؤيته للزمان والمكان ..لأنهما اختراعه الأخير .. فرحه المشوب بخوف واسئلة وتأمل ..
( اودُ الآن ان لا أشرق كشمس ، ان لا أقوم الى اليوم التالي وكذلك ان لا أبقى في الأمس ) .. هو اذن اختار زمنه الشخصي زمن سكونه الداخلي .. لبس قناعات شجرة وصار يرى العالم بعين الجريان .. لذا لم يعد يتآلف مع المصنوع من الوقت ..لكنه يضيء جانبا من السر دون ان يرينا المشهد ..انه فقط يشير الى الجهة ( سأذهب وحدي الى الوادي ولن ادعوكم لمزاحمتي على فرح المكان بعودة الغائب )
هذا الفرح المحفوف بهواجسنا .. يبدو طاغ لدى بلال .. كأنه وقع على السر ..كأنه اكتشف كوثره الخاص وفراديسه .. وربما وجه مهديه الخاص وتبعه الى السر .. هذا السر الذي يظل قلقا من اجله دائما .. كإنما هو ” جسر أرقه ” الذي يقف عليه دائما وهو يسعى لتفكيك الأطواق المتعددة عنه .. ان بلال في نصوصه الأخيرة مسكون بالتجرد”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى