أدب وفن

الحلم الأنوي المفقود والتمرد على الاخر في الادب اللبناني المعاصر/دراسة نقدية بقلم الأديب نزار الديراني

الحلم الأنوي المفقود والتمرد على الاخر
في الادب اللبناني المعاصر
الادباء (حنان رحيمي ، ناريمان علوش ، يوسف رقة ، منى مشون، ليلى الداهوك ، نسرين بلوط ، ريمون شبلي ، روبير البيطار) أنموذجا

يعتبر النص الأدبي الشريان الذي يتدفق من خلاله ما يخزنه الأديب من شظايا الألم والحنين والحب ، ويرسل عبر خيوطه المتباينة والمتشابكة رؤياه بكلمات موحية يعلو وينخفض الايقاع معها حسب الحاجة السيكولوجية لكبت الذات وحجم العواطف فتنصهر الفكرة والخيال والكلمة محدثة أشبه ما يكون بسمفونية تترافد فيها آلات كثيرة فتارة تكون محملة بالآهات والشجون وفي الأخرى تكون مفعمة بالفرح .
ذلك هو حال العديد من الأدباء اللبنانيين الذين حظيت بالتعرف عليهم من خلال حضوري للعديد من الأمسيات الثقافية واِطلاعي على نتاجاتهم ، فهم يحاورون الأنا المتألمة ويُعزوها وحيث يرشح منها في الكثير من الأحيان كلمات جريحة تشدو بموسيقى شجية وترسم لنا لوحة فنية بانورامية معبرة عن أناهم والتي هي بحد ذاتها أنا لكل منا …
ولأن العلاقة مع الآخر( إن كان شخصا أو جماعة ) ناتجة عن رد فعل دفاعي تجاه سطوة وإندفاع الآخر لذا كان من الطبيعي أن تجد نظرة هؤلاء الأدباء مخالفة لأفراد المجتمع العاديين في شدة إنفعالهم وتعاملهم مع الحدث لأن رهافة الحس لديهم هي التي فرضت عليهم هذا التماهي مع التأزمات وفقا لما تقتضيه خبرتهم الشعورية. وكانت مسايرتهم لمعاناة الأنا الحالمة وكبدهم لظلم الآخر في أحيان كثيرة جعلت من أقلامهم ترشح بنصوص مفعمة بالترنيمات الأليمة والمتفائلة في وقت آخر ….
أن ما يدفع الأديب اللبناني المعاصر للكتابة هو ذلك الحلم المفقود بسبب ما يتعرض اليه الأنسان من هزات مستمرة فيما يخص الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مما يدعوه لخلق أبطال في كتاباته تجتمع فيهم الصفات التي تؤهلهم إدراك ما ينهض عليهم الواجب للتمرد على الواقع المرير وقول الحقيقة مهما كلف الأمر من أجل الاِصلاح ومواجهة الفوضى الناتجة من جراء سيطرة وتجذر الإضطراب والفوضوية على واقعهم فيما يخص الحقوق والأعتراف بالآخر…
إن مجتمعاتنا مكتظة بأناس يفرضون أنفسهم على الآخرين بطريقة فوضوية فيشعروهم بضعفهم ولا معنى من وجودهم… مشكلتنا أننا نغير ملابسنا وربما سياراتنا وهواتفنا بإستمرار ولكننا لا نبالي كثيرا في تغيير أنفسنا نحو الأحسن . إنه مجتمع يصح عليه كما وصفه الشاعر ت س أليوت في رباعياته:
… وجوه متوترة ، يصفدها الزمن
محولة عن التحول بالتحول
مملوءة بالأوهام ، والمعاني الفارغة
يتضخم فيها ورم اللاأهتمام ، واللاتركيز
الرياح الباردة تقصف بالبشر والأوراق الممزقة
بعد أن أشتهر الروائي الروسي تولستوي بقصتيه ( الحرب والسلم، وأنا كارنينا) وهو في الخمسين من عمره بدأ يتساءل :
ما هي الحياة ؟ لماذا يجب أن أعيش ؟ لماذا يجب أن أفعل أي شئ؟
وبعد فترة أخرى عاد تولستوي لطرح الأسئلة بطريقة أخرى ليقول :
ما هو الشر ؟ ما هو الخير ؟ لماذا يعيش الإنسان ؟ ما هي الحياة ؟ وما هو الموت؟
فأبطال الأدباء الذين نحن بصددهم يتساءلون نفس الأسئلة لأنهم يرفضون هذا الواقع ، تراهم يبحثون دائما عن نظامهم الخاص كي لا يكونوا عبدا لنظام إنسان آخر … هذا ما حدا بفيلسوف مثل كيركغارد ليقول : ( إذا أردت أن تنفيني ضعني ضمن نظام ، إني لست رمزا حسابيا ، أني أنا.. )
هؤلاء جميعهم يحلمون بعالم مثالي جميل يبحثون عن الحرية والصفاء والعيش بالكرامة .
هؤلاء الكتاب يريدون دائما أن يثبتوا من خلال كتاباتهم أنهم بشر وليسوا قطعا في الآلة الكبيرة وكما تقول الروائية نسرين بلوط على لسان بطلتها ميرا وهي تخاطب عابد ص87 :
(ولكني لست لوحة تعلق على الجدار يا عابد … انا أمرأة … بأحاسيس عارمة وشرايين نابضة … ولست للفرجة ولا للعرض…)
هؤلاء جميعهم بحاجة للبحث عن طريق يعود بهم الى نفسهم لملازمة أناهم من جديد لرؤية الآخر من خلالها …
فصورة الآخر في المدونات الأدبية تتجسد بمصداقية أكبر من تلك الموجودة في المدونة العلمية، أو يمكن القول إنها تعكس الموقف الحقيقي للجماعات من الآخر؛ لأن المدونة الأدبية ليست معنية في الغالب الأعم بتجميل أفكارها ومعتقداتها بقدر عنايتها بالجمالي والفني، بخلاف المدونات العلمية الاجتماعية والفلسفية والفكرية …) التي قد تنزع نحو ذلك المنزع التجميلي متكئة على كثير من آليات التأويل كلما سنحت لها الفرصة، من أجل تعزيز الصورة الايجابية للثقافة التي تنتمي إليها، أمام الثقافات الأخرى، وأمام نفسها أيضاً.
ولأن العودة الى الوراء صعبة التحقق ومحاولة كبت الأنا الداخلي فشلاً… وحين لم يستطع الأديب أن يعبر عن ذاته بحرية راحت حيويته تبحث عن مخرج آخر يجعلها تفجر مكبوتاتها كحل لتحقيق اِنتصاراتها، وتفريغ دواخلها نحو العالم الخارجي بواسطة الكتابة والنقد…. لذا تراهم يجدون في اللغة والقلم الوسط الطبيعي للتعبير عن الذات وبهذا يتم التوليد المنهجي الذي يجعل من اللغة أداة طيعة لرضوخ المعنى بشكل يتفاعل مع الذوات. وكما تقول الشاعرة ناريمان علوش في قصيدتها (قلمي ليس له عنوان ولا هوية) من مجموعتها النصف الضائع:
كلماتي هي إحساسي
وليست مجرد سطور وأبيات شعرية
حروفي أكتبها بقطرات دمي
وأبحث عن معانٍ جديدة لحروف الأبجدية
أو كما تقول الشاعرة منى مشون في قصيدتها الثورة الأنثى من مجموعتها الشعرية التي تحمل العنوان نفسه :
أكتب بقلمي عن كل أنثى
أروي القصص المؤلمة
ألملم من قلبها أي حرقة
أو كما تقول الشاعرة ليلى الداهوك في قصيدتها ( لغة ص34) من مجموعتها الشعرية (نوافذ الصمت ):
تلك الصغيرةُ ترسمُ على أثيرِ الوقتِ
والعطرِ والصفحات …
أنها ترسمُ قلبها على الورق
أو في قصيدتها (حرفُ ضوئي ص106) :
لطالما جعلتُ قلمي سلاحاً
أصارع بضوء حبره سوادَ القلوب
… يباس العقول
أو كما يقول الكاتب يوسف رقة في المشهد السابع من مسرحيته (33 صلاة في جوف الحوت) :
(… أنني أستعد لأنجاب رواية جديدة والسبيل الوحيد لمساعدتي في ذلك هو هذا القلم ….)
في جولتي السياحية بين مجموعة من الكتب المركونة في مكتبتي لأدباء لبنانيين معاصرين لاحظت لكل منهم طقوسه الخاصة في كتابة النص ، كلٌ يحاول أن يبدع لنفسه نصا جميلاً معبراً عما يجيش في صدره من أحداث تدق به وبمن حوله ، ولأن النتاج الأدبي والفني يحاكي الواقع المفروض عليه لذا يعيش النص لديه فترة مخاض الى أن يحين فترة ولادته عند الاِكتمال فيقذف به الى خارج أناه ليرى النور ، مثلما تقذف الحمامة بيضتها لتتخلص من الفوضى التي تعيشها لأن الأنا والعلاقة مع الآخر والتي تتفاوت من أديب لآخر.. تجبر النص على الولادة .

  • فهناك من تكون شخصيته طاغية على النص فيتقمط ذاته ويعبر عن أناه بكل صدق ومن بينهم الشعراء ( ليلى الدهوك، ناريمان علوش ، منى مشون) .
  • ومجموعة ثانية تنبش في الماضي أو تنصب عدستها في وسط الشارع ومن مكان مرتفع تراقب حركة الشارع أي الأنا الجمعية لترى كيف تزدرد السمكة الكبيرة الصغيرة منها فتوثق ذلك بموضوعية وعدم أنحياز … من بينهم (القاصة حنان رحيمي ، الكاتب المسرحي يوسف رقة ، الروائية نسرين بلوط) .
  • وهناك مجموعة ثالثة ينظرون الى الآخر من خلال قبولهم بالاِختلاف بمعنى من الممكن النظر إلى الآخر على أنه كل منهما يكمل الآخر، باِعتبار علاقة الإنسان بالآخر لا تسير في اِتجاه واحد بل هي ذات اِتجاهين .
    هؤلاء يتمركزون في نقطة الجمال ليتمتعوا بأحلامهم الجميلة قبل أن تفقد رونقها فتنصهر أناهم بأنا الآخر فيخرج النص سلسا هادئا خاليا من التوتر من بينهم (الشاعر ريمون شبلي، الشاعر روبير البيطار ) .
    كلُ من هؤلاء الأدباء يعتمد على الوفرة النفسية للاِستعداد للكتابة في محصلة التجربة الذاتية في العموم ولكن في كل الأحوال يبقى الأديب مميزا بتلك الأنا وتحكمه الغرائز الموروثة والتي تمد شخصيته بالطاقة ليخلق بها روائع نصوصه إن كانت من عصارة ذاته (أناه) أو من ذوات الآخرين (الأنا الكلية) ، لأن الأديب هو جزء من المنظومة الجمعية حتى وإن تفرّد عنهم…

المجموعة الاولى يكون الفراق بمعنى ضياع النصف الآخر من الأنا هو ما يدفعهم للكتابة كونهم يعيشون في مجتمع يحتوي الكثير من التناقضات، لذا تبدأ العمليات العقلية المكبوتة والتي منعها الأنا (الشعور) من الظهور اِستنادا للاِستجابة ، فالأنا المفقودة بالنسبة اليهم هي إدراك للحقيقة الشعرية والتي تعني الحلم المفقود ، كونها من خلالها سيمتلك صاحبها بعداً إنسانياً مفعما بخصائص متعددة كالفرح والحزن والأمل و… لذا تراهم يحاولون جاهدين التمسك بلحظة التوهج الشعري كي يعطوا لصراعهم معنىً يُقرن بنوع من الحقيقة ، اذاً هم يحاولون أن يصلوا الى الموضوعية الشعرية ومن خلالها يحاولون إنتاج النص بلغة أخرى.

لهذا فهم يتصارعون داخليا من خلال مايمر به الأديب من حالات مختلفة كالحب بمفهومه العاطفي والوطني والسعادة والاستياء من الآخر الذي يسلبن منه حقوقه المشروعة .
فالشاعرة ليلى الداهوك كغيرها من الشاعرات تتحسر في مجموعتها نوافذ الصمت على نصفها الآخر الذي جاء اليها كمارد جبار متوشحا بالنور وتغريدة العصافير… ( قصيدتيها أجتياح ص14 ، صغيرة ص41) إلا أنه سرعان ما تحول الى حلم وأختفى… فتركها موجعة وكما تقول في قصيدتها (وجع ص13):
موجعةُ هذه المرآةُ
موجعةُ ومؤلمةٌ
كلما محوت دمعتي من صفحاتها
تكتبها من جديد …
فمنذ الوهلة الأولى (أي العنونة) نكتشف أن الشاعرة ليلى تحاول أن تلملم جراحاتها وذكرياتها وتتقمط الصمت والهدوء لأن الرياح التي هبت عليها كانت قاسية والشمس التي أشرقت في ربوعها كانت حارقة فتخاطب الشمس في فاتحة مجموعتها (اشراقات ص11 ):
أيتها الشمس …
هذا الشروق اليومي متعبُ جداً للعصافير ..
هذا الغيابُ القاهرُ كلُ مغيب
مرهقُ جدا للنجوم …
كيف لا تلملم جراحاتها وتتقمط صمتها وسجنها إن كانت قد جعلت من أنوثتها شمعة تذيب نفسها لاِسعاد نصفها الآخر وفي النهاية ينسحب من الحلبة بأعصاب باردة ( قصيدتها الى حبيبي ص18).
وهكذا نجد بطل الشاعرة ناريمان علوش ( أي أناها) هو الآخر يبحث عن نصفه الآخر الضائع إن كان بسبب فرط حبها له كما تقول في قصيدتها (أغار ص24) أو ربما بسبب إمرأة أخرى سرقته منها وكما تقول في قصيدتها (لم تكن تعلم ص29) أو ربما بسبب الهوة الواسعة لدى الرجل التي تدفعه للاِنتقال من واحدة الى أخرى كقولها في ( قصيدتها إعتراف ص37 ) وغير ذلك من القصائد الأخرى … منذ العنونة نكتشف ان مشكلتها تتجسد بدءً من قصيدتها الأولى (باب الشتاء ص13) بالفراق ، لأن الشتاء كان قاسيا عليها الى حد أخذ منها نصفها الآخر … ومن خوفها ورغبتها في الحفاظ على نصفها الثاني تقمطت الشاعرة عزلتها ورصدت كل الأبواب وراءها :
وهكذا …
ككل شتاء …
بخيبة …
أُطفئ موقد ذاكرتي
وأعود
الى سريري
باحثة عن باب آخر
أقفله خلفي
لأن الشاعرة تيقنت النهاية الحتمية فلا جدوى من العودة ، فتقول في قصيدتها (جزئي المفقود ص105) :
لا أنت عدت
ولا عادت لي نفسي
لذا قررت الخلاص كليا من نصفها الآخر وأنهاء تمردها من خلال محو كل ما يربطها به (راجع قصيدتها أكمِل رحيلك ص78) كي لا تعود اليه رغم أنها تعرف جيدا أنه هو قدرها.
أما الشاعرة منى مشون فمنذ الوهلة الأولى سيوقفك عنوانها (الثورة الأنثى ) لتكتشف كم كان فراق نصفها الآخر قاسيا الى درجة ساوت أو ربطت بين المرأة والثورة .. الشاعرة أحبت هي الأخرى نصفها الآخر بكل جوارحها حبا مخلصا ، أشبعت شوقها حنانا وسلاما ( قصيدتها أحببتك كما لم أحبك أبدا ص69) وكغيرها من النساء حلمت أن تكون نحلة تجوب مروج المرج لتمتص رحيق أزهار الحياة الجميلة لتعطي عسلا للآخرين (النحلة ص42).. إنتظرته طويلا وهي تحلم وتتأمل ولكن كانت النهاية ليست كما تشتهيها السفن…
ففي قصيدتها (أنا وأنت ص19) تزيح الشاعرة الستار لتكشف عن ما يشغل بالها ويدفعها للكتابة:
أقترب منك … فتبتعد …
أبتعد عنك … فتقترب …
فهل أصبحنا كالشرق والغرب …
كلما أقتربنا من ذاتنا … نبتعد ؟؟؟
ما كان يشغل بال الشاعرات ( ليلى ، منى ، ناريمان ) هو كيف تستطيع المرأة أن تقلل من عبوديتها للرجل والظروف والعادات… إنه صراعٌ كثيرٌ ما يواجه المحبين فيحسون وكأنهم في مفترق الطريق … ألم يكن دوستوفسكي محقا حين قال في روايته الأخوة كارامازوف :
( أن عبوديتنا ناجمة من العادات والآراء الخارجية عشر مرات أكثر من كونها ناجمة من فساد أو نقص في الطبيعة..)
هؤلاء جميعا يبحثون عن القيم المثلى للعلاقة بين الحبيب والحبيبة أو الزوج والزوجة ولأنهم يعرفون بأن الخطأ كامن في الطبيعة الإنسانية لذا تراهم يتمردون على العقائد الخاطئة..

إلا أن ما يدفع المجموعة الثانية للكتابة هو نوع آخر ، خارج الأنا الذاتية أي الأنا الأخرى الجمعية المتمثلة بالحيتان الكبيرة التي خلقت فوضى وعدم توازن في المجتمع والوطن لذا ترى هؤلاء الأدباء يبذلون كل ما بوسعهم لتعريتهم وخلق عوالم ذاتية تخرج من اِطار الأنا الذاتية لهؤلاء الحيتان وتذهب الى الأنا الجمعية ، وتستقطبها في مصهر الكتابة والإبداع.

فالقاصة حنان رحيمي في مجموعتها ( الأنتحاري والفول ) لم يكن دافعها للكتابة أناها بل الفوضى التي تعم الشارع فحين نصبت عدستها تراقب الشارع وجدت ما لا يتصوره الإنسان العاقل ، وجدت الإنسانية قد تقمطت الغابة فالمجتمع يتكون من طبقتين طبقة عليا تعيش بالنعيم وأخرى تجوب وتمسح الشوارع بأذيالها بحثا عن الطعام …ونستطيع أن نلخص رؤيتها بمقطع شعري للشاعر وليم بليك حيث يقول :
إلا أن الجشع تدفق
وشبع الحسد من سمن الخراف
والغضب من دم الأسود المتخثر
ونامت الدعارة مع قيثارة العذراء
أو شبعت من حبها
ففي قصتيها (مَحبرة الغربة ، عيد السماء ) تعالج القاصة حنان رحيمي مشكلة الإنشطار والفراق داخل البيت الواحد بسبب الهجرة ، كل هذا بسبب طبقة من الزعماء تسلطوا على مقاليد السلطة ليكونوا السبب في تجريد المواطن من وطنيته وأرضه كي يهاجر بعيدا تاركا والديه يتقمطون دموع الحسرات …
وفي قصتيها ( الساحرة ، زهرة الحياة ) تكشف القاصة عما تراه عدستها، يتامى ومعاقين جاء بهم القدر ليفرشوا الشارع وهم يكافحون من أجل لقمة العيش مقابل ذلك تجد الأغنياء يعيشون في بحبوحة لا يهمهم إلا المظاهر والأتاكيت و.. هؤلاء أصبحت نفوسهم بحالة اِنتفاخ فلم يروا الآخرين إلا حشرات..
وفي قصتها (التوأم واللعبة ، الأنتحاري والفول ) تسلط الكاتبة الضوء على الكذبة الكبيرة التي يكذبها رجال الدين على المساكين وهم بذلك يشوهون القيم الإنسانية من خلال التناقض بين أقوالهم وأفعالهم فأمراء الأرهاب يدفعون المساكين للإنتحار من خلال حصولهم على الجنة والحوريات..
وفي قصصها (عيد السماء ، بائع روحه ، للمنابر أيضا مجازر ) تبين الكاتبة ما آلت إليه الساحة الثقافية والسياسية في لبنان .. ففي القصة الأولى وبسبب تفشي الفساد والرشوة يضطر الفلاح لبيع أرضه والتي هي بمثابة روحه من أجل دفع ثمن دم أبنه الذي ربما سيراق دفاعا عن الوطن وفي القصة الثانية وبسبب أهمال الحكومة لهذه الشريحة المهمة والفاعلة في المجتمع يضطر الأديب بيع روحه (كتاباته) من أجل ضمان حياته وحياة عائلته.. وفي القصة الثالثة فبسبب أجتياح الوسط الثقافي زعماء من خارج المشهد يضطر الكثير من الأدباء تقمط ذاتهم والأنعكاف خارج الأضواء .. فالنتاج الأدبي والأرض كانا في السابق من المحرمات المزايدة عليهما … وهكذا في مجموعتها القصصية بائعة الأعشاب .
إنه صراع بين الخير الذي يكمن بالأرض والقلم والشر الذي يكمن بالزعامات الخاوية التي تتاجر بالوطن والإنسان … ولأن الأشرار هم الأقوى لذا يضطر الإنسان لبيع روحه لضمان مستقبل أولاده …
وهكذا الحال لدى الكاتب يوسف رقة فأبطاله في نصه المسرحي ( 33 صلاة في جوف الحوت) لا يعانون من مشكلة فقدان نصفهم الآخر بل خوفهم من فقدان الرحم التي منها ولدوا وفيها ترعرعوا .. إنها الأرض والوطن والقرية ، فالمشكلة التي يواجهها هي خوفه من الزوال من أن تسلب منه أرضه …. حيث يرسم لنا في المشهد 25 وطناً جميلاً يرشح عطراً…. إلا أن هذا الوطن يتعرض الى التشويه والدمار بسبب الحفر التي أحدثتها القنابر والصواريخ.. وكما يروي لنا في المشهد 41 على لسان الراوي :
(حفر على الطرقات … وحفر في الأرض .. حفر يسقط فيها الناس … وحفر يقفز من داخلها الناس … معادلة صعبة .. لكن هذه هي الحال ) فعلا أنها معادلة صعبة جعلت من كفي الميزان تتأرجح الى جهة ما ….
وفي المشهد 27 وعلى لسان صاحبة المكتبة يقول الكاتب يوسف بان المشكلة لا تكمن فينا بل بالآخر، بسبب الفوضى في السياسة المتمثلة بولادة مصطلحات جديدة وحيث يعلن عنها في المشهد الأول من المسرحية:
(النظام العالمي الجديد ، الشرق الأوسط الجديد ، ترويكا ، ديالكتيك ، عنصرية ، الشيطان الأكبر ، ديمقراطية ، نازية….) وغيرها من المصطلحات التي يتصارع أصحابها من أجل تحقيق مكاسب أكبر … وكان من نتائجها ما صرح به الراوي في المشهد الأول :
(الراوي : وكم من عبد أمسى وأصبح يقاسي الحرب… لا يعرف حيلة ولا يجد مهربا ….)
إذن المشكلة في الخارج أي في الآخر وكما يقول في المشهد 40 على لسان سيزيف (هذا هو عملي الذي رسمه لي المؤلف … ) .
وتحاول القاصة نسرين بلوط الكشف عن الحواجز التي تفصل بين الإنسان وأخيه الآخر بسبب التقسيم الطائفي والعرقي …
فالكاتبة في روايتها (الخطيئة ) لم تنصب كامرتها الى الشارع مثلما فعلت زميلتها حنان رحيمي لتلتقط منه مشاهدها بل حفرت كما فعل زميلها الكاتب يوسف رقة في جذوة ذاكرتها لتقوم مقام المرآة تعكس وتكشف لها حياة البشر بتوجهاتهم وتصرفاتهم … إستطاعت الروائية نسرين ان تقرأ الاِضطراب الفكري والنفسي الذي يعانيه الإنسان بصورة عامة والمرأة بصور خاصة … فالمجتمع وكما تصفه في ص28 ( الناس طبقتان … إما غني يجول البصر في أملاكه ومصالحه …. وإما كادح بسيط يتشقق جبينه من حمى الشمس اللاهبة ويفكر في قوت يومه ….) فالهوة بين هاتين الطبقتين واسعة وكما تقول في ص70 على لسان والد ميرا وهو يصف بطرس هذا الثوري الذي أشعل حربا ضد الإقطاع :
( إياك أن تذكري هذا الأسم ثانية … إنه حشرة من حشرات المجتمع السفلي يريد بأن يرتقي عالم الأسياد )
وفي ص118 تصف عمة ميرا الفلاح متي الذي بذل نفسه من أجل ميرا قائلة:
( نحن لا نطعم الفلاحين ونسقيهم ونأويهم إلا من أجل حمايتنا ورعايتنا ..)
فضلا عن قيامها وكما زميلها الكاتب يوسف بتسليط الضوء على دول تقوم بسلب حقوق الدول والمجتمعات الأخرى من أجل مصالحها وكما تقول (إغتصاب الأوطان بات مشرعا وإنتهاك الحقوق بات مجدا …)
أما فيما يخص المرأة ، فهي أسيرة صراعها اليومي الدائر بين ما يريده قلبها وروحها وما سنته وتسنه شرائع المجتمع الدينية والعشائرية (التقاليد)… فالمجتمع دائما يسمع ويصدق كلام الرجل دون المرأة وخاصة حين يتعلق الموضوع بالشرف … وهي تتساءل في ص189ما هو الشرف:
( …. هل هو نقاط الدم التي تسيل من العذراء فتحيلها إمرأة كاملة أم هو شرف الإنسانية بخيرها وشرها وإحتدامها المثير بالعالم الخارجي ؟
فبطلتها حائرة بين طوي نفسها في صومعتها المنعزلة عن العالم بسبب شرفها وما بين قبس النور الذي يتسلل نافذة قلبها لينتفض جسدها الإنساني وهو يحاول اللحاق به ناسية الحواجز التي سبق وإن سنها العرف الديني والعشائري…وهذا ما تصفه لنا الكاتبة في ص7 قائلة: (…هي تصلي دائما … تصلي للنور والظلام معا … للخطيئة والغفران … لأنها عاشت حياتين متناقضتين .. جعلا منها ملاكا وشيطانا في فترة ما….) إذا المشكلة لا تكمن بالداخل بل بالخارج الذي يجعل من الإنسان ملاكا او شيطانا…
نحن بحاجة الى خلاص ولكن من أين يأتي الخلاص أهو بالعودة الى الداخل؟
وكما تقول الروائية نسرين بلوط في روايتها الخطيئة على لسان الحوذي :
( بطرس آمن بأن العدو الأصلي للأنسان في نفسه التواقة للسيطرة وإستعباد الغير لذلك حارب الإقطاعية قبل ان يحارب العثمانيين ..)
إن كانت مشكلة الشاعرة ليلى الداهوك تكمن في الرياح العاصفة أو الشمس المحرقة ولدى الشاعرة ناريمان علوش تكمن في فصل الشتاء ولدى الشاعرة منى مشون في ثلج جبل صنين … إلا ان مشكلة الكاتب يوسف رقة تكمن في فصل الصيف بطقسه الحار وهو كناية عن حرارة الحرب التي عكرت صفاء القرية بطيورها الجميلة وهواءها النقي وعطر أرضها الخصبة … والأحلام الوردية … ومشكلة الروائية نسرين بلوط تكمن في الصراع الداخلي بين الضمير والأفعال وكما تقول على لسان بطلتها ميرا ص89 :
( أخطأت يا ميرا … أنت ملعونة …. ملعونة ) الصوت اللعين يئن ثانية من أعماقها فكيف تسكته . كيف تهرب منه والى أين ؟
ومشكلة القاصة حنان رحيمي هو هذا الكم من المأساة التي خلفتها أنظمتنا في هذه البلدان ….
وان كان أبطال الشاعرة ليلى الداهوك وناريمان علوش ومنى مشون ونسرين بلوط وحنان رحيمي .. تقمصوا سجنهم وأقفلوا أبوابهم … إلا أن أبطال يوسف رقة يحاولون دوما التمرد على السجن وهذا ما يصرح به في المشهد الثاني :
(عندما تطلق صفارة القطار ، وتغلق الأبواب أشعر وكأنني داخل قفص فولاذي…)
إنه حقا واقع مؤلم ، ألم يكن محقا ج هـ نيومان في كتابه (أعتذار) حين قال: حين نظرت الى العالم لم أستطع أن أجد أي دليل على وجود الله …
ألم يكن محقا أرنست همنغواي وهو يتساءل في قصته ( التاريخ الطبيعي للأموات) كيف يمكن لله أن ينظر بلا أكتراث الى شقاء المخلوقات الذي خلقها على صورته ومثاله ؟؟؟؟ بمعنى آخر كيف لهؤلاء الأبطال أن يرضوا بالواقع المرير الذي يتركه الآخر في نفوسنا رغم حبنا وثقتنا به؟؟؟ أسئلة كثيرة دفعت بأبطال هؤلاء الأدباء للدعوة الى التغيير .

الا أن المجموعة الثالثة تنظر الى الآخر بأكثر إيجابية لأن أناهم منسجمة الى حد كبير مع أنا الآخر لذا تتحدد هوية الآخر لديهم بصورة توافقية بدلا من أن تكون ردة الفعل ضد الآخر ونزوع حالم لتأكيد الأنا بصورة أقوى وأرحب فالمجتمع لديهم لا يخلو من العنصر الجمالي لذا لا يجدون في الآخر إلا جمالا، لذا تراهم يعكسون فكرة ج هـ نيومان فيقولون كلما سمعنا قطعة موسيقية أو شاهدنا مشهداً من مظاهر الطبيعة الخلابة يتأكد لنا إن فكرة الله تتصل بهذه الموجودات .

فأنا الشاعر ريمون شبلي في مجموعته (شرفات … وقصائد) لا تدعوه إلا للنظر الى ما هو جميل في الآخر وكأنه يريد أن يقول دعونا جميعا نتمتع بهذا الجمال الذي وهبه الله لنا وكما يقول في قصيدته (يجمعنا في النَعص ):
في النعص نحن
أم أننا في جنة ولا عَدنُ ؟
فكيف لا يرى في لبنانه جنة ان كانت كما يقول :
هنا يمرُ الله ، كل مرةٍ مُباركاً
لذا من الطبيعي أن تجد الشاعر يستخلص من الجمال والفرح فلسفته في الحياة وكما يقول في قصيدته العبور الى الغد :
تقرَعُ الأجراسُ لكم فَرَحاً
فأفرحوا …
وأملأوا الكاساتِ منىً وأطربوا
وأشربوا …
ويشاركه في الشعور نفسه الشاعر روبير بيطار في قصائد مجموعته (هكذا كان …. وبَعدُ ) شاعرنا روبير هو الآخر يجعل أناه تفتش عن البقع البيضاء والربيع والضياء .. وكما يقول في قصيدته إعلان هام ص127 :
قد غادر الزمانُ عند الساعة الأولى من الهواء وأمحى
في جيبه ليل وجُرحُ وإنتهاءُ
عمره ألف من الأعوام والهرب
وكيف لا يرى الشاعر كل الفصول ربيعا إن كان كلما يرى نصفه الآخر يفيض وجودا وتورق في عينيه البراري كما يقول في قصيدته قراءة ثانية من سفر مريم المشرقية ص169 :
بعد حين اتأبط روحي أحضُنها … أرسمُها
قليلا … ويُزهرُ أنتظاري
وتورق البراري
ويزيد قائلا :
وأنامُ … أنامُ كساقية تغفو في هدأة لِيلِيها
سَتغني للقمرِ الغافي
وسأنشد سهوة عينيها
وأغني للنسيم الحافي
هؤلاء جميعا تراهم يبحثون عن أسلوب في العيش المشترك مع الآخر الإنسان… إنهم يرفضون التمايز الطبقي الذي يجعل من أحدهم يستصغر الآخر ليسيطر على إرادته …. بمعنى اخر :

الفريق الأول يرى بأن الإنسان مرتبط بكل شئ في حياته،.. هذا الإرتباط يفسح المجال لظهور الذات المفرطة والمتمردة أحيانا وقد لا تتقبل الآخر المتسلط الذي يحاول قيد حريتها أو حريته ، فتظهر لديهم العديد من الأنا فيشتد ويتسامى لديهم النص ليصل الى ذروته مما يدفعهم للتصادم مع الآخر بسبب الطموحات الناجمة عن أزمة البحث عن الهوية المفقودة تحت سيطرة الآخر المغاير … فالمرأة كانت ومازالت في التصور غير العادل الأقل أهمية في ثنائية الآخر/ الرجل، حيث تصل كمية الاِحساس لديها الى درجة عالية من الشعور فترى المرأة الشاعرة ما لا يراه غيرها من مفاهيم الجمال المرتبط بالخيال، والذي هو الوسيلة لمعرفة الذات . ويرشدنا الفيلسوف جورج غوردييف في كتابه (الجميع وكل شئ ) بان الخيال ليس أنفعاليا فقط أو عقليا فقط وإنما هو متضمن في كل الوجود ، في الجسد والأفعال والعقل ، مرتبط بحمقه وعذابه بل أنه مرتبط بعذابه أكثر من اِرتباطه بأي شئ آخر .

إلا أن الفريق الثاني يريد من الإنسان أن يحرر نفسه من هذه الروابط أي أن تموت هذه الأنا الكثيرة لكي تولد الأنا الكبيرة وحينما تعجز هذه الأنا الكبيرة لتكون أنا واحدة يبدأ الصراع والاِنشطار لديها …

فالنص الأنوي لديهم ينفجر داخل الذات ومن ثم يخرج من الأعماق ليتحدث عن أنا الجميع..لأن الأديب والفنان هو مرآة مجتمعه ، فهو يعبر دائما من خلال نصه الأدبي او الفني عن الآخرين من حيث يدري او لا يدري لأنه أبن بيئته…

إلا أن المجموعة الثالثة يريدون أن يتمتعوا في الحياة بكل نعمها من خلال النظر الى النصف المملوء من الكأس وتجنب النظر الى النصف الفارغ منه قدر الأمكان لذا كان تفاعلهم مع الآخر بأيجابية على مقياس ومعيار أيجابي في فهم الذات والأنا الجماعية إلى الحد الذي يدفع بهم إلى الاعتقاد بأن الموقف من الآخر هو الذي يشكل الذات نفسها فتشكلت هوية الآخر لديهم بطريقة توافقية …

مما تبين نجد هناك مشكلة إسمها الحرية وهي تكمن في المحور العمودي للميزان الذي يجمع بين كفيه الأفقيين الحقوق والواجبات هذه المشكلة هي التي تحد من الإرادة عند الإنسان…
ولكن ماذا تعني الحرية لديهم ؟ هل تعني أن نفعل ما نشاء ؟ أم إنها الإرادة التي تبعث الحياة في الإنسان ليعترف إنه إنسان كغيره من البشر ؟؟؟
وكما تقول الشاعرة ليلى الداهوك في قصيدتها ( يا سيدي ص73):
أريد حريتي …
فوريدي الأيسرُ أدماهُ قفلُ زنزانتكَ الأنيق …
إلا أن الشاعرة منى مشون تذهب في قصيدتها ( سجن الحرية ص13) من مجموعتها الثورة الأنثى الى مفهوم آخر حين تقول :
مذ قيل لي : ان التأقلم مع السجن حرية
أصبحت الحرية سرابا .. والسعادة وهما …
والحب زيفا … والأمل خيالا …
فصرت أنام زيفا… وأصحو وهما ..
وأنتظر سرابا … وأحيا خيالا … فسرا
وهذا المفهوم يقترب مما هو لدى الروائية نسرين بلوط من خلال أنزواء بطلة روايتها الخطيئة بملئ إرادتها في الصومعة بعيدا عن الفوضى وكما تقول على لسان ميرا ص76:
( ما عادت مدينتي أختي الفاضلة … إن مدينتي هي صومعتي التي أخترتها لأنأى بها عن كل حدث دنيوي وأتنيَح فيها عندما يدعوني الرب اليه …)
فالكثير من الأدباء يفهمون الحرية من خلال ميلهم نحو التغيير ، بمعنى حيوية إرادتهم للاِنتفاضة على القيم الخاطئة… لذا فالحرية تعني لديهم الحياة ، فكلما زادت رغبتهم في الحياة شدة، زادت إمكانية الحصول على الحرية… ولكن السؤال الذي يتبادر الى ذهننا هو :
وهل يمكننا الحصول على عالم جميل كعالم الطفل؟؟؟ ……
هنا يأتي دور البطل صاحب الإرادة القوية للتغيير مما حذا بالشاعرة ناريمان علوش ان تقول في قصيدتها (أمرأة على قيد الحب) :
رغم ألمك…
تتجملين
رغم حزنك …
تضحكين …
رغم إنكسارك …
رغم إنهيارك ..
ما زلت في داخلك تؤمنين
ان هناك إمرأة جميلة
تختبئ في داخلك
أما الشاعرة منى مشون تراها تقول :
لم أعد أرتجف …
لم أعد أهتم
ولن أنتفض جزعا ..
في المنام
فأنا من سيتخذ القرار

وهكذا الحال لدى الفريق الثاني فمثلما كانت الإرادة لدى المجموعة الأولى قوية هكذا هي لدى الكاتب يوسف رقة فيقول في المشهد 14 :

(إنني إمرأة عنيدة ، تبحث عن النور داخل هذه الجزيرة … هي لا تستسلم إلا أمام شهوة الأقلام …)
وكذلك في المشهد 16 وعلى لسان حنان :
( لو كان ولدي أحد هؤلاء الجبناء وحاول الفرار لكنت أول من يطلق عليه الرصاص …)
اما القاصة حنان رحيمي وفي قصتها (الساحرة ) تراها تتحدى الواقع وبكل جرأة تقول :
وأردفت غاضبة : اللعنة عليكم من بشر رؤوسهم من إسمنت، كهذا الحائط
وفي مكان آخر من القصة تقول وعلى لسان الساحرة وهي تشير الى المتسولة:
( أسمال هذه الفتاة أثمن من فستانك … إن داخل ثيابها إنسان يشعر ويتألم … وداخلك حجارة ونفاق ….
وهكذا لدى الروائية نسرين بلوط التي كانت تكافح على ساحات عدة وهي تدعو للتمرد على القيم الخاطئة لذا تراها تقول على صعيد التمايز الطبقي وعلى لسان متي ص64:
( فأعذري لي هفوتي وأعذري قلبي المسكين الذي تمرد من أجلك على عادات وقوانين أبدية صارمة …)
حيث ترى الكاتبة نسرين إن المواجهة تكمن في ممارسة الحياة اليومية أسوة بالآخرين كما فعل بطرس حين أراد كسر الحاجز بينه وبين الأسياد ص49 حين خاطبه حاكم المدينة قائلا:
أنت أيها الفلاح الحشرة … كيف تتجرأ أن تقلدنا وتلبس بسطارا يماثل ما نلبسه من الأحذية ؟
رد عليه بطرس بثقة ومن غير أي خوف :
إن هذا البسطار من حر مالي ولا أحد له الحق في محاسبتي…
وهكذا كما حصل في ص183 وعلى لسان خادمة المرأة التركية حين قالت لها:
( إن المال الذي تدفعينه لي هو المال الذي سرقتموه من عرق الفلاحين وبالتالي هو مالهم هم وليس مالكم )
إلا أن الإرادة دائما تكون عاجزة عن التغيير الجذري للعادات والتقاليد والشرائع الدينية … لذا لم يستطع عابد أن يقوم بثورته مثلما فعل بطرس لأن قوة التقاليد والأعراف السماوية هي أقوى من الإقطاع والإستعمار …

إلا أن قوة الإرادة لدى المجموعة الثالثة تجلت في الإبتعاد عن ما يعكر العلاقة مع الآخر .

فثقة الشاعر ريمون شبلي العالية بوطنه وشعبه تدفعان إرادته بقوة صوب التفائل بدلا من أن يثور كما لدى المجموعتين السابقتين فيقول :
قولوا :
لن تنصر الحربُ
مهما فَتحت أبواب الجحيم
…..
لن يندحرَ الحبُ
سيظلُ الهواء النقيُ يمدُ شراييناً حرة
وخطوط الشمس تحوك خطوطاً دافئة
وهكذا نجد أن إرادة الشاعر روبير البيطار تكمن في نظرته التفاؤلية في المستقبل كما لدى زميله ريمون ، فإرادتهما تكمن في البقاء لأن الغد سيكون مشرقا لهما كقوله في قصيدته (قراءةُ أولى من سفر مريمَ المشرقية ) :
غداً على خَفَقِ البُر وقِفي الدوام
تفتقُ الزمانُ تنثُرُ السنين
تُقطفُ الأيامَ صبحاً بعد ليل
يَرِفُ وجهُها هزيماَ رابضاً في المُنتهى …
ولكن هل تستطيع الإرادة أن تعمل ما لم يكن هناك دافع لذلك؟؟؟

فالدافع لأبطال المجموعة الأولى هو الحب بمعناه العاطفي… هؤلاء الأبطال دائما يبحثون عن مخرج … وعن التكافؤ في الحب والعطاء ، أن تحبني قدر ما أحبك ان تغازلني مثلما أغازلك …

أو كما تصفه الشاعرة ليلى الداهوك في قصيدتها (حب ص25 ) :
عند كل مساءٍ
ومع أنبثاق الفجر
نجئ من البعيد
وأنا لاجلك زرعت أناشيد
وفي قصيدتها ( لن أعشق غيرك ص85 ) تقول :
كأني خلقت لأجلك
أعيش وأحيا بين عروقك
السماء تمطرني على أهدابك
والشاعرة ناريمان علوش ترى في الحب نبضات القلب التي تجعل صاحبه يرتجف وكما تقول في قصيدتها ( نبض العشق ص50) :
ماذا يسمى ذلك النبض
الذي يمارس التحليقَ في قلبي ..
تارة يهوي
وتارة يعلو
تارة ينبضُ
وتارة يغفو
أما الشاعرة منى مشون رغم انها وجدت الحب شيئا غريبا عحيبا (قصيدتها حبك ص25) إلا أنها في فترة ما علمت أن الحب هو الشوق والحنان والسلام كما تقول في (قصيدتها أحببتك كما لم أحبك أبداً ) :
في الأمس أحببتك .. كما لم أحبك أبداً …
أحببتك لأيام خلت … وأيام أتت …
في الأمس أشبعت شوقي
حنانا وسلاما …
فجميع هؤلاء الأبطال يريدون ثمنا لحبهم وإلا لكان المفهوم في نظرهم خاطئ فلا حب من طرف واحد ، وعندما يختل النظام بين كفتي الميزان يثور هؤلاء الأبطال لأشعار الجمع بوجود خلل…

أما المجموعة الثانية فهم يبحثون عن الإنسانية والعيش المشترك فجميعنا شركاء في هذا الوطن فبقدر ما تفرض علي من الواجبات عليك ان تمنحني الحقوق وحين يكون هناك خلل في كفة الميزان يثور هؤلاء الأبطال لإشعار الجمع بوجود الخلل؟؟

فبطلة الروائية نسرين بلوط تراها تثور على القيم الخاطئة ولكنها بأسلوب مغاير أي أن تفدي بنفسها تهرباً من كلام الآخرين وهذا ما عكسته الكاتبة في ص27 حين أنتحرت سعدى (عمة ميرا) فتقول :
( لم يعد بإستطاعتها أن تلمح نظرات الشماتة في أعين الناس وأن تسمع المزيد من كلام أعمامها .. فقضت على نفسها بالموت ..)
أما بطل الكاتب يوسف رقة تراه يبحث في الجذور التي تجعل الإنسان متماسكا في أرضه، وتكون المحبة في أوج عظمتها من العطاء حين تتخلى حنان عن فكرة مغادرة المكان وتصر على البحث عن أشخاص داخل المنزل يحتاجون المساعدة … كما يشير في المشهد 20 …
وبطل القاصة حنان رحيمي يريدها ثورة عارمة فهو يثور على الواقع السياسي والإجتماعي من أجل إزالة الفوارق بين البشر لذا تراها تقول :
(الفرق الوحيد بيني وبين أولاد الشارع أنني أعيش في قصر وهم يعيشون بلا سقف …ولكن الوجع واحد لا يفرق بين قصور وأرصفة …)
وتقول أيضا :
(لم يحترموا صورة الإنسانية المعذبة المتمثلة بمخلوقات كل ذنبهم إنهم فقراء)
ومن جانب آخر تحاول الكاتبة أسوة بزميليها يوسف ونسرين حث القارئ بالتشبث بالأرض لأنها مصدر الوطنية :
( فصرخ بزوجته : هل تريدينني أن أبيع كرامتي وأولادي وجدي وأبي .. ألا تدركين ما تقولين يا إمرأة ؟ ….)

اما المجموعة الثالثة تراها تبحث عن الحب والجمال والتفاؤل أي كل ما هو جميل .. فكيف لا تكون الأحلام وردية في نظر الشاعرين ريمون شبلي وروبير بيطار وهما ينظران الى الحياة بأكثر أيجابية كونها مرحلية ونظرتهما تشبه نظرة الشاعر أرنست داوسن في أعماله الشعرية وهو يقول:

ليست طويلة ، أيام الخمر والزهور
التي يضمها حلم ضبابي
أما طريقنا ، فتلوح لحظات ، ثم يطبق
عليها الحلم
فالعلاقة التي تربطهم بالآخر لا بد أن تمر عبر التفكير في الذات والعلاقات الأجتماعية والسياسية والأقتصادية التي تحكمنا فشخصية الفرد وكما يراها فرويد مكونة من ثلاثة أنظمة هي الهو ( الذات )، والأنا، والأنا الأعلى، وإن الشخصية هي حصيلة التفاعل بين هذه الأنظمة الثلاثة …
الشاعر ريمون شبلي يثق بان المستقبل سيكون مشرقا وإن تعرض لبنانه الى هزات إلا أنه دائما سينتصر وكما يقول في قصيدته ( يعبرون … ويسقطون) :
ومرت الفصولُ والسنون
وأرضنا تغلي وتستعدُ
والأفق يعبَرُ ويسوَدُ
وما يدفع الشاعر روبير بيطار للكتابة ليس الفراق ولا أزدراد السمكة الكبيرة للصغيرة منها بل هو نظرته الثاقبة التي تصور له كل شئ في الحياة هو جميل لذا تراه لا ييأس وأن يرى في الحياة بعض النقط السوداء إلا أنه يقول من أجل هذه اللوحات الجميلة سأناظل ولكن بالسلم والمحبة وكما يتساءل نفسه في قصيدته لمن ص177 :
لمَن أعنقِدُ الحروف والدنيا لمَن ؟
لكرمةٍ لا تسكرُ !
لطفلةٍ لا تكبرُ !
لمن أطرزُ النورَ لوحاتٍ لمن ؟
لمرأةٍ لا تُدَنُ ولا تموتُ ألف مرة !
لأرض لم تلم يوماً مسرة

فأبطال المجموعة الأولى يراقبون تصرفات الآخر من خلال الشعور الداخلي أو كما يقال من خلال قلوبهم فهي المرآة والعدسة التي تعكس ضعف الاخر .

أما المجموعة الثانية فتراهم ينصبون عدساتهم وسط الشارع ومن مكان مرتفع يراقبون تصرفات البشر أو يعودون الى الماضي لفرز أخطاءه.

أما المجموعة الثالثة فلا تحتاج الى مراقبة الآخر الذي أصبح جزء منه.

هذا يعني إن كانت مشكلة المجموعة الأولى هي ذاتية أنوية إلا أن مشكلة المجموعة الثانية هي الأنا الكلية أي خارجية… ومع هذا فمشكلتنا هي في مفهومنا للحب هل هو مجاني يمتد الى اللانهاية أم يكون محدد بالفعل ورد الفعل ؟ فحين تحب الآخر بأخلاص هل تقبل أن تحبه بلا مقابل .. أم ستنتظر الرد ؟؟؟ … كثيرا ما نسمع أناسا يقولون ( كان مناظلا وبطلا أستشهد من أجل مبادئه ولكن ماذا جنى من كل ذلك ؟؟؟ أو إنها / إنه أحب بصدق وأخلاص ولكن ؟؟؟
فبحكم كوننا البشري يجب أن يكون هناك دافع للحب كي نناظل من أجله ، الحبيبة / الحبيب او الوطن / القضية … فان لم يكن هناك دافع سوف لا يكون هناك إرادة.
ان مشكلة هؤلاء جميعا هي الحرية بمعنى التمرد على الـ (نعم ) الدائمة المرتبطة بإرادة الحياة أي بصريح العبارة التفكير بالتمرد على العبودية المطلقة والبحث عن الحرية المطلقة … إنه شعور بالتذمر على التفاهة والحمق والحقارة التي أنتابت … فأبطالهم يثورون حين يشعرون بالتذمر كونهم ليسُ أحرار.
وما يهمنا في الأخير أن نتساءل كيف يرى هؤلاء الأدباء نهاية النفق الذي نحن سائرون فيه ؟؟ ومن هنا يأتي دور الرؤية لدى هؤلاء الأدباء وهم يصفون لنا ما ستؤول اليه النهاية ان كانت مأساوية قاتمة ام مشرقة …

المجموعة الاولى ترى لا بد من التمرد على الواقع الذي نصب من الرجل أن يكون سيدأ على المرأة أو جعل من المرأة أسيرة للرجل أو جريان أحدهم وراء شهواته دون الأكتراث بمشاعر الآخر …

فالشاعرة ليلى الداهوك تجدها تصرح بقصيدتها ( نصفي الآخر ص31) حاجتها الى من ينتشلها من الواقع إلا أنها لم تصل بعد الى درجة التمرد ربما لأنها تعتقد ان القدر هو السبب (قصيدتها قدر ص54) وفي قصيدتها رحيل ص83 تؤكد أيضا الأنسحاب من حلبة الصراع بدلا من التمرد ، إلا أنها في قصيدتها (الليلة ص87 ) تحس وكأن هناك مشروع ثورة من نوع آخر أي الأنتقام من خلال الأستسلام :
الليلة سأشعل النار في جسدك ! …
سأطفئ كل حروف العشق بين أحظانك
….
الليلة ستتعرى أوراق الشجر
….
ويعلن العصيان في وطني
وتثور الريح !
ويبكي المطر
…. الليلة أنت السجان وأنا المسجونة
أنت القاتل وأنا المقتولة
الليلة ليلتك أفعل ما شئت
ومع هذا تظل تحبه لأنها لا تزال ترى بارقة أمل لذا تنتظر عودته من جديد كما تقول في قصيدتها ( وتبقى حبيبي ص68)
حبيبي :
كنت وما زلت
وستبقى حبيبي أبداً
أما الشاعرة ناريمان علوش فهي تدعو للثورة والتمرد بصورة علنية وكما في قصيدتها (إمرأة عذراء ص51) تقول:
حواء …
تمردي ،
أصرخي ،
أكتبي
فإن أقفلت فمك ،
ستحجبين عن رئتيك
الأوكسجين والهواء …
ورغم قناعة الشاعرة ناريمان علوش بعدم الجدوى من العودة وكما تقول في قصيدتها (جزئي المفقود ص 105) :
لا أنت عدت
ولا عادت لي نفسي
رغم تمردها إلا أنها لا تيأس بل ترى بارقة أمل في النفق المظلم كقولها في قصيدتها (رقصة حزن ص18 ):
ومن ثم أنهض
بمشروع فرح
فأمتطي حصان الأمل
وأنطلق
إلا أن الشاعرة منى مشون تبدو لي الأكثر ثورية الى درجة أنها لا تجد آية بارقة أمل إلا بالثورة من أجل الحرية وكما تقول في قصيدتها الثورة:
أبشري … أبشري … قد قامت الثورة
لقد آن الأوانُ أن تكوني حرة
فأنت بحق … الثورة الأنثى
ورغم معرفتها بقوة الآخر إلا أنها لم تتردد في ثورتها وكما تقول في قصيدتها ثورة ص41:
فكانت ثورة وعصيانا على العالمين
أتحدى بها الناس والجان واليمين
…..
فأرتطمت بجبال ثلج في صنين
وعدت أدراجي لصمتي الحزين
وهكذا في قصيدتها الجنون ص61 حيث تعتبر التحدي نوعا من الجنون وهي واثقة من الأنتصار لذا قبلت التحدي والمشاكسه أشعارا لبدء الثورة وكما تقول في قصيدتها (التحدي الصعب ص64 ) …
ولكونها لا ترى بارقة أمل في المستقبل لذا تعود الى سجنها وتغلق عليها الباب لانها فقدت الشهية والأمل في الحرية ، المستقبل لديها غامض ومتشائم وكما تقول في قصيدتها (غابتي الحزينة ص24)
أحاول الأقتراب من الأفق البعيد …
فلا أنا أصل ولا هو يقترب …
وينتهي أمري عند ضفة نهر
ومن ثم تقول :
وآخر محاولاتي أختراق السماء ..
فلا أنا تجاوزتها
ولا كسرت الزجاج …
فقررت في النهاية أن أنام
إلا أن التشاؤم باد في قصائدها ( ملاكي ص46 ، الطائر المسكين ص59، هناك ص35) حيث ترى الراحة الحقيقية تكمن في الآخرة وكما تقول في قصيدتها هناك:
هناك فقط سأقول … ما لم يكن مباح …
عندئذ فقط … سأرتاح … سأرتاح …

وهكذا الحال لدى المجموعة الثانية التي ترفض الواقع الذي يتيح للسمكة الكبيرة وهي تبتلع الصغيرة منها أو على الحواجز التي تقسم المجتمع الى أثنيات وطوائف صغيرة أو… ولكن كيف يرى ويرسم أبطال المجموعة الثانية النهاية؟؟؟

فالقاصة حنان رحيمي هي الأخرى ترى المستقبل قاتم طالما أكتسح الساحة ممن هم خارج المشهد ، فكيف يكون هناك بصيص أمل إن لم تجد بأم عينيها مفهوم المواطنة والعدالة وغياب الرقابة والخدمات … كما تقول في قصتها عيد السماء:
( أنا ومن أنا ؟ فلاح بلا أرض ، هذه أرضي أصبحت أوراقا .. هذا وطني لا يساوي أكثر من أوراق… هذا أبي أصبح أوراقا … هذا أبني الضابط أصبح أوراقا … الشعب مجرد أوراق ….)
و تنهي قصتها:
( وجد الفلاح نفسه بعيداً .. خاوي الروح من الأبناء والأرض)
وهذا ما نتلمسه ايضا في قصتها (مَحبرة الغربة ) وهي تنهي قصتها بعبارة:
( مسكينة يا جدتي … قضيت بقية عمرك تعيشين في الوهم ، تقتاتين اللوعة والحسرة ، ويقتاتك الشوق والحزن … تنتظرين الصباح عله يأتيك بخبر عن الغائب ..)
وكذا في قصتها الساحرة وعلى لسان شادي :
( سأعيش بقية عمري عالة على غيري… )
وهكذا في بقية قصصها …
وبالرغم من محاولة القاصة حنان رحيمي حث جمهورها للتمرد على هذا الواقع إلا أنها تذكره بضرورة التشبث بأرضه وجذوره فتقول :
(عندما رأيت اللوحة شعرت بان جذوري لبنانية ، لا زالت موجودة لم تقتلعها الغربة بعد …)
فالقاصة حنان رحيمي ترى المستقبل في قصتها محبرة الغربة من خلال قولها :
(توقف نظرها عند محبرة قديمة فارغة ، عادت ريشتها الجافة لتستيقظ من الماضي البعيد…)
أما الكاتبة نسرين بلوط تراها تنظر الى فكرة التمرد بأسلوب آخر وهي حائرة بين ان تجعل من نفسها هي الضحية لأسعاد الآخرين … وكما تقول في ص90 :
( لقد راودتها فكرة الأنتحار حتى تتخلص من شوقها له تماما كما حدث مع عمتها ولكنها خافت من غضب الله ..)
أو أن تأخذ بنصيحة الحوذي العم جرجيس الذي نصحها في ص199 بأن المواجهة لا تكمن في الهرب والأنزواء في الدير بل :
( فنحن من يجب أن نواجهها كما واجه المسيح الموت بأقدام ثابتة وأن نقف وجها لوجه مع آلامنا ولا نهرب منها … )
إلا أنها ترى المستقبل متشائم كما تشير في ص29 وعلى لسان والد ميرا وهو يخاطب زوجته عن مستفبل إبنته :
( – مروى أخاف أن أسلم ميرا لشاب من شبان اليوم فلا يحسن معاملتها ويهملها فتضيع تحت سوط جبروته كما ضاعت أختي سعدى من قبل …)
هذا التشائم والمصير المجهول كان السبب في لجوء بطلاتها في كثير من الأحيان إلى الهرب من سطوة الواقع فإما تنتحرن أو تنزوين في سجن دائمي مقيت ،أو أن ترجع الحياة لجسدها المنتهك لتقترب من بوابة الخيانة رغم أنها تدرك ما معنى أن تكون في عالم رجل وتدخل الى عالم رجل آخر في نظر مجتمعها….
فبطلة الروائية نسرين بلوط ترى في تعاليم المسيح الوسيلة لاِنقاذ البشرية من الظلم كونه (وكما تقول) ينأى عن القتال والبغض .. ويفتح ذراعيه للحب والمحبة، فكلما كانت بطلتها (ميرا ) ترى ما يدفع الإنسان للتمرد بالعنف تظهر صورة المسيح أمامها الذي تمرد بالحب والفداء فتقول في ص9 :
( المسيح لم يتذكر ما لحقه به أعداؤه من سوء ولم يحقد بل عم الكون بغفران مجيد … )
لذا ترى بارقة الأمل لديها يكون من خلال قول بطلتها ميرا ص41 وهي تقول :
( ولكني أومن كما قال ميشال إده بأننا يمكن أن نحول من الصخر نحتا جميلا ونصنع من الظلمة نورا نتلهى به الى أن تنتهي بالخلاص … والأستعمار لا بد له من من أن يندحر يوما ما … فلكل شئ نهاية)
ورغم ما ينتاب الكاتب يوسف رقة من لحظات تشاؤم وحيث يساوره الشك إن كانت الحياة ستعود الى مجاريها الطبيعية أم لا فيتساءل في المشهد 12 على لسان أدهم :
( هل ستبقى قلوب الناس طيبة وبيضاء كما نعرفها …. ؟؟ )
وكان الجواب سلبا حين ردت عليه حنان وقالت :
( سوف يصير الناس كلهم من اللون ذاته … ثيابهم موحدة … وجوههم مغطاة بخوذ معدنية … يسيرون بأنتظام .. خياشيم الشم في أنوفهم سوف تغلق أبوابها الى الأبد ….)
ورغم ذلك يبقى الكاتب يوسف رقة الأكثر تفاؤلا كونه يجد العديد من الشواهد التي تبشره بوجود بارقة أمل في الخلاص وكما يصرح بذلك على لسان الراوي في المشهد الرابع :
في الأفق شلالات ضوء وشمس
أمواج بحر متعرجة طين وماء
وفي المشهد العاشر وعلى لسان الراعي فيقول :
( لذلك قررت البقاء .. وسأبقى هنا على الرغم من تكوم الذباب على الجراح…)
ولكنه يريد أن يبقى الإنسان الذي خرج من الحرب منتصرا ومتسامحا وكما يقول في المشهد السابع ….
(إلا أن المشكلة تكمن لديه كيف يمكن الجمع بين القوة والتسامح في شخصية واحدة ؟ ) ويذهب الى ان الجواب يكمن في الكتب وفي الحب ..
وفي المشهد 32 يقول :
( غدا ستشرق شمس جديدة .. لا بد ان تنتهي هذه اللعبة …)
وفي المشهد 45 حين تقول سيدة المصعد :
( متى يحن موعد ولادتي ؟ متى يطل طفلي الصغير ، وينقذني مما أنا فيه..)
وكذلك في عودة أدهم الى قريته ويهتف ويقول : الأرض لنا
ما يدعوا أدباءنا بهذا القدر من التشاؤم كوننا لسنا أطفالا يتمتعون بعالماً نقياً جوه فواح بالأمل .. نحن بشر أجوف كما يصفنا الشاعر ت اس اليوت في قصيدته بروفروك :
نحن الفارغون
نحن المنخورون
يتكئ أحدنا على الآخر
ألم تكن المسيحية محقة حين شرعت وقالت :
( لا يتمتع أي أنسان بآية فضيلة تجعله سيداً على أنسان آخر…)
هناك جرحاً عميقاً أكتسبناه وراثيا وأصبح رمزا لمأساة الحرية انه الحب والأنا وأنت … نحب حتى الجنون وفي الوقت نفسه نكون مضطرين لاِشباع رغباتنا الجسدية …

أما شعراء المجموعة الثالثة لا يوجد لديهم ما يدعوهم للتمرد والاِنعكاف في السجن طالما يثقون بأنهم يستطيعوا أن يحولوا الضجر والغروب الى التفاؤل وكما يقول الشاعر روبير الخوري في قصيدته موعد مع الضجر ص123:

فأنا
مُنذُ تفَتَحتِ بوجهي تَحت زَخاتِ المطر
أُزامِلُ الصبا
وَمُطلقاً خبا
وغابة من الخروقات الندية التي تغوي القمر
تذكري الضجر
تذكري هذا الصباح موعداً لنا مع الغروب
رغم أن تساؤلاته أحيانا يشوبها اليأس لأنه أحس بوجود الشوائب إلا أنه يجيب على تساؤله فيقول هناك الكثير ما يدعوني للإخلاص :
لمَن أراسل الرياح لمَن ؟
ولمن أهدي مصابيح البال ؟
لها لهم لك ؟
لعابرِ الوجه المحال ؟
لثورةٍ تأبى القتال ؟
أما الشاعر ريمون شبلي فحين ينظر الى نهاية النفق الذي نحن سائرون فيه تراه يركز على الجزء المملوء من الكأس لذا يراه أيجابيا فيقول في قصيدته (يعبرون … ويسقطون):
مهما عصفتِ يا رياحُ
لا بدَ .. ان يستيقظَ الصباحُ
وتنطفي الجراح
وبالرغم من نظرته التفاؤلية إلا أنه متيقن بأن الحياة ليست كلها شروق وأزهار فعندما يدب الجوع في جوف الآخر يتحول الى وحش كاسر وكما يقول في قصيدته ( الطاحونة الحمراء):
كلما أستيقظ الجوع في وحشيتها
حركت طاحونتها
تزرع الجور زمجرة
والبحر سفينَ حصار
لذا ترى أناه تتحسر الى الحلم المفقود فيقول :
آه لبنان
كم أصابتكَ أحقاد الحساد
وأستباحَ ترابكَ عدوان
ولبست الحداد
إلا أن ما يراوده في مسيرة العمر هي نفس الشعور التي راودت الشاعر ييتس حين يصل الإنسان الى مرحلة من العمر وينظر الى الوراء وكما يقول ييتس :
حل عامي الخمسون ومضى
وجلست رجلا وحيدا
في محل مزدحم من محلات لندن
في يدي كتاب مفتوح ، وأمامي قدح فارغ
وهكذا الحال نجد “أنا” الشاعر ريمون شبلي تضطرب حين يسمع بإحالة زميل له على التقاعد ولكن مع هذا ترى هذه الأنا تقف شامخة وتتشبث بالنقطة الأولى للاِنطلاقة ويقبل بمسيرة العمر وكما يقول في قصيدته (عند مصب الأربعين ص78) :
تُبَرعَمُ الطفولة
تصفَرُ بَعدُ قامة العمرُ …
زيارة عابرةُ
وبعدها الطريقُ تستمر
إن ما يقلقه ليس فقدانه للوظيفة بل خوفه على مستقبل التعليم في لبنان .. يخاف أن لا يستمر وكما كان في عهده لذا تراه يتساءل :
ومن يُطيق
تربيةً قد رست خطوطَها مصالحُ الأنا
إنه يعرف أن الزمن يعبرُ بسرعة وكل هذا يراه طبيعيا فيتقبل الحياة من دون ثورة أو تذمر أو نعت … كقوله في قصيدته (أربعة نحبهم ص157):
يا للزمن ! يمرُ مارداُ بسيفٍ غادرٍ ،
يرسمُ في عبورهِ
ألف سؤال وسؤال …
تمضي خطاه مسرعةُ
تدوسُ كلَ زهرةٍ ، وجمرةٍ ، وقطرةٍ
وسأختتم بحثي بمقولة للفيلسوف سورين كيركيغارد في كتابه (طريقة التتابع المركزي ) فيقول كيركيغارد:
( كان الآلهة ضجرين ، ولهذا خلقوا الأنسان ، وكان آدم ضجرا لانه كان وحيدا ولهذا خلقت حواء … ثم شعر آدم بالضجر هو وحواء وقابيل وهابيل ، وأزداد سكان العالم ، فصار الناس يضجرون ضجرا أجتماعيا ، وشعروا بأن عليهم أن يمنعوا أنفسهم فبنوا برجا عاليا ليصلوا بواسطته السماء ، وكانت هذه الفكرة ذاتها تزداد إثارة لضجرهم كلما أزداد البرج أرتفاعا ، حتى أرعبهم أن يروا أن الضجر صار صاحب اليد الطولى في العالم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى