بعد كورونا : كيف نعمل كيف نتوظف ؟
بعد كورونا : كيف نعمل كيف نتوظف ؟
الكاتب توفيق شومان
وفقا لما يسجله التاريخ ، أن الإنقلاب الأول الذي خلفته جائحة الطاعون في أثينا القديمة على طبيعية العيش والحياة ، تمثل في تعميم الطب ، فبعدما كان الأخير محصورا بالتلقين ويرثه الأبناء عن الآباء ، غدا مع أبي الطب ابيقراط ، مفتوحا للعموم وقائما على الكتابة والتعليم .
وما يشبه ذاك الإنقلاب التاريخي وتلك الجائحة ، جرت وقائعه مع الطاعون الأسود الذي فتك بثلث سكان أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي ، إذ فتحت الجائحة تلك ، أبواب التفكير على أنماط جديدة من النظر إلى عالم الطبيعة والوجود والعلاقات بين البشر ، مما مهد الطريق لما يُعرف بعصر الأنوار الأوروبي وبروز عشرات الفلاسفة والمفكرين الذين أعادوا صياغة الوعي العام ، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.
ولا يبدو أن جائحة كورونا التي تجتاح العالم منذ بداية السنة الجارية ، بصدد الوصول إلى نقطة ختامها ، من دون أن تترك آثارها الإنقلابية على أشكال متعددة من الحياة المعاصرة ، وفي طليعتها العمل عن بُعد والتعليم عن بُعد والوظيفة المنزلية وتأثيرات كل ذلك على عقود العمل والبيئة الإجتماعية ونمط العيش في المدن الكبرى .
قبل جائحة كورونا ، كان جدال العمل عن بُعد ، يأخذ حيزا ضيقا لدى الشركات الكبرى والقطاع الخاص ، فالإلتزام اليومي بساعات العمل في مراكز الشركات والقطاعات المختلفة ، شكل قاعدة أساسية للتوظيف الفردي والجماعي ، وهذا كان يتطلب كما هو معروف ، انتقال الموظفين من منازلهم إلى قطاعات أعمالهم وفقا لمواقيت زمنية دقيقة ، ذهابا وإيابا .
أما بعد اجتياح جائحة كورونا العالم بشرقه وغربه وجنوبه وشماله ، فقد اتسعت دائرة الجدال حول ضرورة أو عدم ضرورة حضور الموظفين إلى مراكز أعمالهم ، وفي ظل التحول الكبير في طرق العمل ووسائله ، وانتقالها من اليدوي إلى التقني ، غدا الجدال شبه مستقر حول إنتاجية العمل وليس دوامية العمل ، أي الذهاب من شكل العمل إلى مضمون العمل ، وبهذا المعنى يكون العالم في طريقه نحو إعادة تعريف العمل على قاعدة الإنتاج ، وهذه القاعدة لا تأخذ بالإعتبار ثقل الزمن ولا شكله ولا نمطيته ، بل ثقل الإنتاج ونوعيته .
إعادة التعريف الجديدة للعمل ، تقتضي بطبيعة الحال ، التركيز على العمل المنزلي وليس العمل المكتبي ، وهذه التعريف بدوره ، قد تدفع أكثر الشركات والقطاعات إلى التخلي عن مراكزها الكبرى والإكتفاء بمراكز إدارية وسطى أو أقل من وسطى ، ومن خلال هذه المراكز تتم إدارة الأعمال الوطنية في البلد الواحد أو الأعمال العابرة للوطنية والمتعددة الجنسيات .
ما ينطبق على إدارات الأعمال ، تتم مناقشته في إدارات التعليم أيضا ، خصوصا الجامعي منه ، فيما الثانوي وما تحت فله حديث آخر ، ودائرة الجدال حول التعليم الجامعي ، تنطلق من ركيزة تقول ان التعليم التقني أصبح مادة أساسية للطلاب منذ سنواتهم الدراسية الأولى ، وحين وصولهم إلى نهائيات التعليم الثانوي ، يكونون قد تحصلوا على إشباع في تعلم التقانة الحديثة العالية ، وهذا يؤهلهم لتلقي التعليم عن بُعد ، قد يكون من بينها الربط التقني بين المركز الجامعي ومنازل الطلاب الجامعيين ، وهو أسلوب بدأت تجاربه تلقى أصداء معقولة في بعض الجامعات الأميركية والإسكندينافية .
ما تأثير كل ذلك على أنماط الحياة ؟
الأمر الأساسي الذي يكاد الإتفاق يجتمع حوله ، يرتبط بالعمل والتعليم عن بُعد ، ومن شأن ذلك أن يؤدي عمليا إلى التالي:
ـ انخفاض وتيرة الإزدحام في المدن خصوصا في ساعات الصباح والمساء ، أي ساعات الحضور إلى العمل والتعلم وساعات الخروج منهما .
ـ الحؤول دون مزيد من الهجرات الداخلية إلى المدن ، بل يمكن القول إن هجرات معاكسة من المدن نحو الأطراف ، قد تشهدها المرحلة المقبلة كلما اتسعت دوائر التوظيف عن بُعد والتعليم عن بُعد.
ـ التأثير الإيجابي على البيئة ، فحين تتركز نسبة كبرى من الأعمال في التوظيف المنزلي ، فهذ يعني أن آلاف بل عشرات ومئات آلاف الآليات والسيارات لن تتحرك يوميا ، والنتيجة الآيلة إلى ذلك : بيئة أنظف وصحة أفضل .
ولكن ، وحيال تلك العوامل الإيجابية المفترضة ، يبرز سؤال ختامي يتعلق بعقود العمل وارتباطها بالمكتسبات الحقوقية والصحية والمعاشية للموظفين المنزليين ، وهل تخضع هذه العقود لقواعد التعاقد الوظيفي القائم على المكتسبات والضمانات الإنسانية والإجتماعية ، أم أنها تتجرد من تلك الحقوق التي ناضلت البشرية قرونا طويلة من أجل الوصول إليها ؟
ذاك هو السؤال الصعب .
*نقلا عن صحيفة ” التنمية ” ـ الجزائر ـ العدد الأول ـ 26 ـ 7 ـ 2020
…………………………………………………………………..