منتديات

“الحلقة الرَّابعة” من: [رؤيةٌ إلى التَّعامل مع “الآخَرِ” و”المُخْتَلِفِ” وِفاقاً للمفهوم القرآني]

الدكتور وجيه فانوس


“الحلقة الرَّابعة” من:
[رؤيةٌ إلى التَّعامل مع “الآخَرِ” و”المُخْتَلِفِ” وِفاقاً للمفهوم القرآني]<سلسلةٌ تسعى إلى تبيان مناهج من التفاعل الحضاري الإنساني في النَّصِّ القرآني>

(من ملامح التَّعامل الإسلامي مع مفهومي الآخر والمختلف في القرنين التَّاسع عشر والعشرين)

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

لا يمكن القول إن المسلمين تمكَّنوا في القرنين التَّاسع عشر والعشرين الميلاديين من تطبيق المنهج القرآني في التَّعامل مع الآخَرِيَّة والاختلاف. واقع الحال، لقد اقتصر الأمر على التَّعامل مع الآخر والمختلف، في هذه الحقبة، على كثير من ردَّات الفعل المنطلقة من المحافظة الذَّات، عبر تمسُّك بشكليَّات التُّراث ومحاربة أي وافد، أو عبر الاندهاش أو الانبهار بالوافد الجديد واعتباره حبل نَجاةٍ للوصول إلى رحاب المعاصرة، بعيداً عن أي تبصُّر لحقيقة الانتماء الوجودي الحضاري للأنسان وحقِّه الطَّبيعي والعضوي في الآخريَّة والاختلاف كما نصَّ عليهما المنهج القرآني.

شهد القرنان التَّاسع عشر والعشرين نجاح الغرب في فرض منظوماته الحضاريَّة، بمستوياتها المختلفة، وذلك لأسباب عديدة ومتنوِّعة، منها ما هو علمي معرفي ومنها ما هو عسكري وسياسي واقتصادي؛ حتَّى باتت منظومات الغرب الحضَّاريَّة بمثابة أمرٍ واقعٍ لا بدَّ لأي مجموعة إنسانيَّة معاصرة لهذين القرنين، أو لأي فرد معاصر لهما، من اتِّخاذ موقفاً محدَّدا منها. وهكذا وجد الانسان المعاصر نفسه، في القرنين التَّاسع عشر والعشرين، وخاصَّةً في القرن العشرين، أمام أساسيَّة تحديد موقف قابل أو رافض أو متصالح مع كثير من مقولات المنظومات الفكريَّة للغرب، بل بات هذا الموقف من أهم العناصر التي بإمكانها تظهير وجود هذا الإنسان وتحديد كثير من ملامح هويَّته. وهكذا شكَّلَ الغربُ، كما يذكر هيغل، مرجعيَّة حضاريَّة أساسيَّة لم يكن من السَّهلِ الفكاك من أسرها؛ فأصبحت المنظومات الحضاريَّة الغربيَّة وجوداً يُشبه فخَّاً يكتسح الفكر الإنساني بصورة عامَّة، مسيطراً عليه ومحدِّداً لكثير من توجُّهاته ومنطق تفكيره.

وقعت المنظومة الفكريَّة الإسلاميَّة، من جهتها، في فخ هذه القوالب الفكريَّة، وخاصَّة لجهة بنيتها المنطقيَّة والآليَّات الذهنيَّة التي تتَّبِعُها هذه البِنى في تشكُّلِ موادها وفي التَّعبير عن هذا التَّشكُّل. وقام معظم الخطاب الإسلامي تجاه الغرب، خلال القرنين التَّاسع عشر والعشرين، على ركائز من أبرزها الرَّفض الكُلِّي، أو المساعي التَّوفيقيَّة، أو القبول المطلق، أو مساءلة كلٍّ من المنظومتين الفكريتين الإسلاميَّة منهما كما الغربيَّة.

وواقع الحال، فإنَّ الرَّفض الكُلِّي، الذي نتجت عنه المعارضة المطلقة للغرب والممانعة الجذريَّة لنتاجاته ونتائجها على حدٍّ سواء، لم يؤمِّن للوجود الإنساني الإسلامي أي قدرة إيجابيَّة على المعاصرة وعيش تجربة الآخَرِيَّة والاختلاف. ظل كثيرون إمَّا متقوقعين في شرنقة وجود قديم ورثوه، لكنَّه لم يعد قادراً على تأمين حقيقة آخريتهم واختلافهم؛ فوصلوا إلى كثير من حالات الانغلاق الحضاري التي كادت تُهدِّد حيويَّة الوجود بحد ذاتها. لم يستطع الرَّفض الكُلِّي هذا الوقوف في وجه المنطق العلمي والموضوعي للمنظومة الفكريَّة الغربيَّة، كما لم يتمكَّن من تقديم بدائل عمليَّة لكثير من مساحات الفعل السياسي وتوجيه الفاعليَّات الاقتصاديَّة والقوَّة العسكريَّة، ناهيك بالمنجزات العلميَّة والمعرفيَّة التي خدمت الوجود الإسلامي في هذه المرحلة على أصعدةٍ عدَّةٍ، من الأمثلة البارزة عليها ميادين العلوم الطَّبيعيَّة والرياضيَّة وبشكل خاص ما تعلَّق منها بمجالات الطب والهندسة وسواها.

أمَّا الاتِّجاه التَّوفيقيّ، فانحصر في كوَّة شديدة الضِّيق والحزم؛ إذ وَقَعَ أسير سعيٍّ تمحوَر حول ما سُمِّيَ بإصلاح الممكن من مجالات المنظومة الفكريَّة الإسلاميَّة، وفاقاً لمنطق المنظومة الفكريَّة الغربيَّة؛ ورافَقَ هذا مُزاوجة لبعض هذا الإصلاح بجلببة بعض ما يمكن جلببته من أمور المنظومة الفكريَّة الغربيَّة برداء ذي وشي إسلامي أو صبغة إسلاميَّة. وبالفعل، فقد شهد هذا الاتِّجاه نشاطاً واسعاً في مجالات التَّثقيف اٌسلامي، وخاصَّة إبَّان عقود القرن العشرين، فبرزت تسميات ذات دلالة متقلقلةٍ في فاعليَّتِها الحضاريَّةِ الإنسانيَّة، مثل “الاشتراكيَّة الإسلاميَّة” أو “أسلمة الحداثة”. ويشير كثير من الأبحاث التي درست هذا الاتِّجاه التَّوفيقي، إلى أن جُلَّ توجُّه من خاضوا غماره انحصر في البحث عن إجابات إسلاميَّة أو ذات طابع إسلامي، لموضوعات وقضايا وإشكالات نبعت من قلب معاينة الغرب لمنظومته الفكريَّة. ومن تحصيل الحاصل أنَّ مثل هذا المسعى التَّوفيقي، لم يكن توفيقيَّاً فعلاً قدر ما كان إسقاطيَّاً أو تلفيقيَّاً إن لم يكن ترقيعيَّاً انفعاليَّاً، غير قادر على بناء وجود حقيقي للإنسان المسلم والإلمام بحقيقة عيشه لمعاصرة الآخَرِيَّة والاختلاف.

وإذا ما كان ثمَّة نظرٌ في مساعي القبول المُطلق للمنظومة الفكريَّة الغربيَّة، من قبل ناس التَّجربةِ الإسلاميَّة، فإن الأمر لم يقد إلاَّ إلى الاستغناء عن مقوِّمات أساسيَّة للهُويَّة الحضاريَّة الإنسانيَّة الإسلاميَّة. وقد كان لمثل هذا القبول أن يوقع، من مارسه، في غربة لا عن هُويته الإنسانيَّة الإسلاميَّة وحسب، بل عن حقيقة العيش في عمق المنظومة الفكريَّة الغربيَّة، لعدم تمكنِّ هذا القبول من النَّاحية الإنسانيَّة الوجوديَّة من تمثُّل معطيات المنظومة الفكريَّة الغربيَّةِ على كثير من الأصعدة الفرديَّة والمجتمعيَّة ذاتياً وموضوعيَّا.

وتأتي تجربة مُساءلة المنظومة الفكريَّة الإسلاميَّة والمنظومة الفكريَّة الغربيَّة لِتُشَكِّلَ عامل غربة جديد، وتزيد من بلبلة التَّفاعل الإنساني الحضاري عبر الآخريَّة أو الاختلاف بِلَّة وفوضى عارمة. لقد قامت هذه المُساءلات، في أغلب مجالاتها، على أسس مساءلات الحداثة وما بعد الحداثة التي شهدها العالم الغربي في القرن العشرين، وخاصَّة في العقود الأخيرة منه، وتحديداً من خلال استلهام مساءلات مفكرين غربيين أمثال اشبنجلر وماركوز وفوكو وهيدغر. ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن تساؤلات هؤلاء تقف ابنة “شرعيَّة” لتجربة العيش والتفاعل ضمن المنظومة الفكريَّة الغربيَّة، في حين إن تساؤلات ناس الإسلام للمنظومتين تأتي من باب التَّماهي مع التَّساؤلات الغربيَّة أكثر منها من باب الانطلاق من معاناة هؤلاء المسلمين لتجربة العيش ضمن ملامح كثيرة من المنظومتين معا. إنها مُساءلات “إسقاطيَّة” أكثر منها مساءلات حقيقيَّة واقعيَّة ترتبط ارتباطا عضويَّاً بحقيقة التَّجربة. والخطير في هذه المُساءلات أنَّها، بتبنيها المُساءلةَ الغربيَّة، باتت متبنيَّة إجابة هي منتوج هذا المُساءلة، ابنة المنظومة الفكريَّة الغربيَّة، غير مُراعيَةٍ لواقع حقيقة التَّجربة الإسلاميَّة المعاصرة في السَّعي إلى رفضٍ أو توافقٍ ما مع المنظومتين، والتي على سؤالها أن يكون إبناً لها وحدها وليس لسواها.

يمكن القول، عبر هذا الاستعراض لهذه المناهج من التَّعامل الإسلامي مع مفهومي الآخر والمختلف في القرنين التَّاسع عشر والعشرين، إنَّ ناس الإسلام لم يتَّبعوا المنهج القرآني في كثير من مجالات عيش هذه المرحلة. لقد وقعوا ضمن منهج إمَّا يلغي الآخر والمختلف إلغاءً كليَّاً أو إنَّهُ يُلغي الذَّات مقابل وجود لها عبر من هو آخر أو مختلف، وهذا مسلك لايُقرُّه المنهج القرآني الذي يدعو إلى احترام الذات في تعاملها مع كل ما هو آخر أو مختلف، واحترام كل ما هو آخر أو مختلف ضمن هذا التَّعامُل. ومن جهة أخرى، فإن ناس الإسلام هؤلاء وقعوا في حبالِ منهجٍ تلفيقي قادهم إمَّا إلى خداعٍ للذات أو نفاق لآخرين، في حين إن المنهج القرآني لا يقر مثل هذه الأمور في التَّعامل مع الآخر أو المختلف على الإطلاق. ولقد قادت هذه الممارسات جميعها إلى ضياع بوصلة ناس المسلمين، في هذه الحقبة، في التَّعرُّف على ما هو آخر أو مختلف من جهة، وعلى من هو عدوٌ من جهة أخرى. ولعلَّ في هذا المتحصَّلِ الأخير ما يضيء كثيراً من إشارات عدم النَّجاح أوالتعثُّر الذي لاقاه هؤلاء النَّاس في التَّعامل مع الآخريَّة والاختلاف على حدٍّ سواء، ليس على المستوى السياسي أو الاقتصادي العالمي وحسب، بل حتَّى على مستوى التَّعامل مع المسلمين الآخرين. ولعلَّ في هذا ما قد يُفَسِّر انتشار موجات تخوين بعض هؤلاء النَّاس لبعضهم الآخر، واتِّهام كل من يمكن أن يشكِّل اختلافاً بالعمالة والتآمر وسوى ذلك من الصِّفات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى