أدب وفن

فلسفة النوابت/ فتحي المسكيني اليومي والعمومي: ( الهُم) مقابل ال ( نحن)

فلسفة النوابت
فتحي المسكيني
اليومي والعمومي: ( الهُم) مقابل ال ( نحن)

حكمت حسن البنية/ شاعرة و ناقدة

كل تمسّك بفكر ينتمي إلى ماض قديم يؤدي إلى تجميد الزمن أو تحجيم المعنى، طالما الوقت يمر يجب علينا التحديث.( الفلسفة مثلا كانت قبل أرسطو والذي انتصب متنه الفلسفي أفقا أساسيا لأي ضرب من التلقي للتراث السابق عليه ، إنما كانت قد اقترنت الفلسفة ب محبة الحكمة، رب محبة للحكمة لم تنقلب إلى عبارة ممجوجة ، إلا من فرط الاحتكام إلى ذلك الأفق الذي أفلح التلقيد الميتافيزيقي في فرضه سماء وحيدة للتحديق إلى إمكان التفلسف به). ص٨
ويرجع د. فتحي الفضل إلى الفيلسوف ( هايدغر) الذي حطم التراث الميتافيزيقي حتى يتسنى البصر بلا ميتافيزيقيا . إنمهمة د. فتحي هنا التكشيف عن الامكان الأخص للفلسفة لدى اليونان أنفسهم، ولكنةليس استكمالا للمقصد الميتافيزيقي كما فعل (هيغل )، بل استئنافا لما طمسه ذلك المقصد الميتافيزيقي. وقام حائلا دونه. ص٩
وما المراد من الكتب إن لم تكن فتح آفاق التفكير؟! يقول فتحي المسكيني : (إن هذا الكتاب بلا ضمانات ، إنه يفتح في كل مرة إمكانية للتفكير لا يزعم أنه يأتي عليها…) ص١٢ . (ولنعط مثالا: لقد كان من عادة العرب فهم -الايتوس- بوصفه حالة للنفس مستترة العادة، ولكل امرىء من دهره ما تعودا، المتنبي). هايدغر نبه إلى معنى هذا المفهوم من حيث هو (موضع للسكن، المنفتح في مُقامه). ص١٣
وفي تقديمه لاستشكال مبحثه الذي يقدمه ب أفقين يشرف أحدهما على الآخر، يصرح د. فتحي: (ان الحداثه لا تزال لدينا انفعالا لم نقو على ترتيب الأفق الروحي الوجيه لتملكه وتدبره. و يرجع إلى الأديب اللبناني جبران خليل جبران لسبب( أن الأدباء هم المؤهلون أكثر من غيرهم لتأصيله على النحو الذي من شأنهم. والطريق يرسمه المؤلف ب رسم خارطة العقل العربي مما يمكن من الانخراط في تأويل حاسم لأشكاليته). ص١٤
وفي الفصل الأول يطرح المؤلف تساؤلا ل( هايدغر) عن فلسفة( هيغل) بما يضعها في خانة الضوء الكاشف،( هل ما أبصره هيغل من فلسفة انطلق من المركز الجذري لها؟) ص١٨. وهنا أستذكر في كتاب الانسان الخطاء ل بول ريكور، ان الدين لم يرجع إلى ما قبل الفاهمية البشرية في نشأته.فيصبح التساؤل الصارخ هنا: لم يتم اغفال ما هو أساسي وبدئي في قول الدين وقول الفلسفة؟!ويتساءل المؤلف د. فتحي: (ماذا يعني فكر الاختلاف اذا كان عاجزا عن إنتاج الحقيقة التي تجعل بشريتنا محتملة وممكنة؟)ويفسر هيغل (ان الاختلاف ليس لافتعال عداوات ، بل لتخصيب امكانيات الفعل وتعديدها.وحتى لا يكون الفكر عبودية مقلوبة ، لا بد من تأسيسه على حرية الفكر).ص١٩وأقول:
أن نفكر …أن نعرف.
نحتاج لملء فراغ دائم عندما نفكر، بينما المعرفة تملأ وتتجمد حيث تتوازى الحافتان الاولى والأخيرة لوعاء محدود ، العقل مهنة مرنة وليس مكان يَحد أو يُحد. ماذا يعني قول ( كانط) (اننا نصرف أوهام العقل حول قدراته في الحقول التي لا يقوى على الأقامة فيها بلا أخطاء . ما الفاصل بين أن نعرف فيلسوفا وبين أن نفكر معه؟) ص٢٢. الفاصل برأيي ( أنا) ( كل ذات) لا يمكن أن تمر الفلسفة عبر ذات مفكرة من دون أن تنتج فكرا مغايرا ما، الذات معمل للأفكار وليست معطى كامل خالص المضمون، الذات طريقة لحياة الفكر وليست طريقا.ويعود د. فتحي للقول: (الفلسفة تصنع لحمها التاريخي من اللاتفكير).ص٢٣.
ومن ذات المنطلق يذكر د. فتحي وفي معرض دراسته ل ( هيغل) (أن امتلاء الفكر هو الذي يقتل هذا الفكر من الداخل، لأنه يحرمه من الممكن فيه دفعة واحدة).ص٢٨ ، مما يشير إلى أننا نستطيع نقض فكر هيغل بفكر هيغل نفسه ، أي نقد ما كان من فكر هيغل ب التفكير الحالي من ضمن الهيغلية ذاتها .ما جعل د. فتحي يصرح( بأن هيغل قد جعل من فلسفته مختبرا للحداثة).
ويعطي د. فتحي مثالا على الكليانية التي نعيشها كعولمة، ويقول إننا هيغليين ( بتوحش) وأكثر ما نحتاجه من التفكير الضدي لدى هيغل هو أخذ’مسار شكل المقاومة المفهومية الفلسفية، وبعبارته كفيلسوف مبدع يقول المسكيني:( أن تقاوم معناه أن تفكر من دون ذاكرة جاهزة ،أي دون نظام للخطاب يجعل تفكيرك ممكنا، وبالتالي محدد سلفا).ص٣٠. ويكمل( ان تقنية المقاومة الوحيدة الممكنة اليوم لمن يفكر إنما هي إحداث الثقوب وبناء الفراغ داخل الفكر الذي يحيط بنا من كل جهة. إن ثقوبا ما داخل فكرة بنية ( الغرب) هي التي تجعل تفكيرنا ممكنا ، في ذاكرته وجسمه السياسي و تقنيته) . ص ٣١. (وهذه المقاومة تعني أيضا التضحية بجزء أساسي من ذاكرتنا الحالية، أي التراث).
ومن ثم أعطى د. فتحي تجربة طريفة في تفكيك ميتافيزيقيا الاسم العربي الاسلامي،( اسم عبد الله) فأول علاقة مع الاله في لاوعينا تتم سلفا من داخل الاسم ، لذا لم لا يكون اسمه ( سيد الشياطين؟)ص٣٨ .هنا الاسم عزيز عند العربي لا يستبدله لأنه ( أعطاني إياه والدي) أي ميراث، ويكمل المسكيني : (بين الاله والشيطان يقبع الاسم ، لكنه يعاني من فجوة ميتافيزيقية واحدة هي غياب المسمى نفسه) . ص٣٩ وحال الاسم كحال المهنة، ( نظم الشعر والفكر وكتابة النثر) هي مجال لا ينفع في الحياة كما جرى تلقينه لنا من خلال التراث!هنا الفكر يصبح قدر نفسه ليصبح فكرا غير محدود أو تقليدي. جبران في هذا الاطار وفي حفار القبور ، ( ان دور الفكر أن يبطل انتاج الأجوبة المهزومة عن أسئلة ماتت)،ص٣٩
ويصل د. فتحي إلى تعريف العقل، ويطرح مبدأ التعاقل الذي نتبناه كمجتمع ، ويلفت نظرنا ان هايدغر قال عنه إنه لا أحد، ورغم ذلك فهو قد فكر بدلا عنا سلفا، وسمى مبادئه ( انضواء في العقل السليم) ولكن من هو هذا اللاحد؟ إنه ( هُم) .ص٥٣
في ماهية العمومي يطرح د. فتحي الاشكالية التالية: (كيف تكون سلطة عمومية ما، سلطة مفكرة أو قادرة على أن تقيم مع الفكر علاقة مشروعة ، لا شرعية فقط ، خالية من كل منع أو نهي أو تحريم؟)
ويربط المؤسسات الثلاث المدرسة والملة والدولة برابط وثيق في استنتاجه هذا ص ٦٣.( فأن العقل بما هو آلة درس قد يصبح أداة الدولة لتحويل المدرسة إلى جهاز قاصر غير قادر على تحمل عقلانية الدرس إلى الآخر . إنه نزاع حول حرمة الدرس وأجهزة التحريم التي ينصبها العقل السياسي على حدود المدرسة). لا أشعر خلال قراءتي لهذه الجملة من هذا الكتاب سوى بالطعم المر، إذ يقول الفيلسوف فتحي فيه: (هناك مواجهة بين العقل بما هو تقنية سلطة، والعقل بما هو آلة تخييل ). فهو نزاع أداتي في جوهره ، ولم يصبح بعد فعلا تواصليا.٦٣. وأسأل نفسي قبل القارىء: كيف يمكن القبول بأن يبقى العقل أداة سلطة؟ من الذي أدخل في مجال تفكيرنا مقولة كهذه؟ ولصالح من؟ بالتأكيد ليست لصالحنا كأفراد أصليين في هذا العالم، بل لم لا يكون العقل معطى لممارسة التخييل وتوسيعه؟ أي قدرات يصل لها العقل حينها؟ وما الذي وراء العقل؟
ونعود مع د. فتحي إلى السؤال: (ما هو العقل؟ وليس ما هو العقل العربي؟)، فيقول:( ليس العقل العربي سوى خارطة مشاكل وأدوات تفكير وإمكانيات حياة، ناتجة عن موقعنا ضمن جغرافية العالم الحالي. ويختم بأن لا ننسى أن العقل الغربي هو أيضا تسمية جغرافية فحسب).ص٦٥.
يستهل د. فتحي القسم الثاني بالسؤال:( هل أصبحت الفلسفة الأسلامية اليوم قادرة على طرح مشاكلنا ؟ لسبب ١-انها منقطعة عن الفلسفة من ديكارت حتى اليوم.٢-أنها تشتغل بعلوم ما عادت قادرة على تفسير العالم الحالي.حسبنا أن نسأل معه : متى يتصير وجودها الحالي صناعة فلسفية لأنتاج الإنسان الذي لا تقوى الدولة على إتلاف عقله بأجهزة التنوير العنيف؟) ص٦٨
ويأتينا( ابن باجة بالفيلسوف ك ( متوحد) ضمن عموم لافلسفي.وابن رشد يدعو الفيلسوف إلى الأقامة على حدود أمة ما ، يعاشر معقولها ولا معقولها، بحثا عن إمكانية استعمال عمومي لهذا العقل الذي تتوجس منه كل ملة، وهذا يعني أن الفيلسوف إنما هو غالبا وبمقتضى وضعه العمومي لافيلسوف ، ص١١١ فصديق الحقيقة ليس صديقا لأحد.لذا كان ابن رشد قاض للملة ولافيلسوفا في الوقت نفسه، فاللافلسفي هو تؤام الفلسفي السري والمقلوب) ص١١٥
وخلاصة القول( أن مهمة تحديد قوام فلسفي واضح لهذه ال( نحن) هو المطلب العسر في هذا الطور من البحث. والمعاني الفلسفية لا ملة لها، بل تملك حرية جذرية أمام نفسها، ما وراء’اللغات والأقوام والأديان والدول. ص١٢٧ . والفلاسفة يقول د. فتحي عم يتساءلون؟ لم تصبح علاقتنا بالكتابة علاقة مشروعة، فنحن لا نكتب بل نحبر، أي نحتمي بسلطة المطبعة ، بسلطة المدينة على الكلام .لكن المكتوب لا يفكر إلا بقدره الخاص، والحال اننا نقبع خارج أقدارنا).ص١٢٨ . وبما أن من يفكر يكتنفه ليل من الامكانيات ،( فإنه من هذه الجهة المظلمة تنفتح للعلماء تجربة حاسمة ، وللشعراء أفق قصيدة جذرية) ما،ويضيف د. فتحي:( الشعر اليوم مغامرة جذرية ، يكون إمكان الشعر فيه داخليا، فالشعر في جوهره فن جذري لنقل المعاني ، مثل الدولة أو الدين).
و ستبقى الفلسفة عناية بالامكان ، فرح أصلي بنفسها وأصل لنفسها.

حكمت حسن البنية ٣-٨-٢٠٢٠

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى