11 أيلول اللبناني، النظام اللبناني والتدمير الذاتي.*
د.طارق عبود-أستاذ جامعي-كاتب وباحث
11 أيلول اللبناني، النظام اللبناني والتدمير الذاتي.
———-
لقد دمّر انفجار المرفأ نصف بيروت، وكاد يدمّر الأمل الباقي في بناء دولة ووطنٍ يعيش فيه اللبنانيون كباقي الأمم. فهل دمّر عصف الانفجار هذا النظام أيضًا؟ أم أنه لا زال قويًا وعنيدًا ومتماسكًا وحاجةً محليةً ودولية؟ أسئلة مفصلية مطروحة بجدّية كبيرة بعد الزلزال الذي حصل عصر الرابع من آب في العام 2020.
–التدمير الخلّاق
….
التدمير الخلّاق، هو مفهوم في علم الاقتصاد، عرّفه عالم الاقتصاد السياسي ”جوزيف شومبيتر”، بعملية الطفرة الصناعية التي تُحدِث ثورة مستمرة في البنية الاقتصادية من الداخل، من خلال تدمير البنية القديمة مع خلق بنية أخرى جديدة، بطريقة مستمرة.
هذه الفرضية عُرِفتْ منذ عقودٍ عديدة بنظرية ”التدمير المبتكِر”، وقد لوحظ تطابق تلك الفرضية مع الثورات الصناعية الثلاث خلال القرون الماضية، ولعل ذلك كان المدخل الأساسي لدراسة الوضع اللبناني في الوقت الراهن وتحليله، وهو ما يشير إلى أنّ النظام اللبناني عمل منذ ما بعد الطائف على مراكمة عوامل التدمير الذاتي، حتى وصل إلى مرحلة لا يستطيع فيها ترميم نفسه، فأصبحت الحاجة إلى تدميره كليًا حاجةً، لإعادة بناء نظام حداثي مختلف عمّا عرفه لبنان منذ تأسيسه منذ مئة عام.
لا شك ان الواقعين السياسي والاقتصادي في لبنان اليوم، هما تعبير حقيقي عن سياقات فكرية وتاريخية واجتماعية وسياسية، وبالتالي إقتصادية، سلكها الكيان اللبناني، وأفضت إلى كارثة سياسية واقتصادية وحضارية كبيرة، وتوزّع على محاور دولية أنتجت ( حربًا أهلية دامت خمس عشرة سنة، ومن ثم اتفق من تقاتلوا في الحرب الأهلية على نظام سياسي جديد في مدينة الطائف، أنتج الكارثة التي نعيشها اليوم).
ومن المؤسف أن سمعة لبنان، ومنذ أن صار له اسم على الخارطة السياسية، هي سمعة الارتماء في أحضان الحماية و(الوصاية والتبعية)، لا سمعة الكفاح من أجل الاستقلال الحقيقي،كما يقول رياض نجيب الريّس في كتابه ”لبنان، تاريخ مسكوت عنه”.
ومفهوم التغيير السياسي يتسم بنوع من الشمولية والاتساع، ولفظ التغيّر السياسي لغةً، يشير إلى التحوّل، أو النقل من مكان إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى، ويقصد به أيضًا مجمل التحولات التي تتعرض لها البنى السياسية في مجتمع ما، بحيث يعاد توزيع السلطة والنفوذ داخل الدولة نفسها أو دول عديدة.
فمعضلة الفساد السياسي إذًا، لم تكن مقتصرة على ما نراه حاليًا، على الطبقة السياسية الاقتصادية الحالية، بلْ إنّ جذور الأزمة السياسية والاقتصادية هي من عمر دولة لبنان الكبير، حيث تميّز هذا النظام بالتماهي المطلق مع مبدأ تقديس المال لشراء الذمم، وجعل الاقتصاد اللبناني أسيرًا لأهواء كارتيلات سياسية طائفية وعائلية وقَبَلية ومصرفية ضيّقة، أفرزت بطبيعة الحال تشريعات وقوانين هي أبعد ما تكون عن تشريعات وقوانين تؤسس لبنية دولة حديثة قابلة للحياة والاستمرار بشكل طبيعي، وليست ولّادة مشاكل وأزمات متتالية، وإنجاز أسس الأزدهار بأشكاله وأبعاده المؤسساتية كافّة.
-نظرية البكتيريا
تشكّل نظرية البكتيريا شاهدًا مهمًا على الحالة اللبنانية، استشهد بها مرة الكاتب ”محمد نزّال”. تنهض النظرية على نوعين من البكتيريا، واحدة ذكية والأخرى غبية.
البكتيريا الذّكية تقتاتُ من الجسد، ولكنها تُبقيه حيًّا، ولو كان منهكًا ومريضًا، لأنّ في موته حتمية موتها ونهايتها. أدّت الحكومات اللبنانية المتعاقبة ومعها سلطة المصارف ومؤسسات الدولة العميقة في لبنان دور البكتيريا الغبية، التي تنهش الجسد بتوحّش غبيّ حتى الموت، فيكون موتها الحتمي بعد موته ونهايته.
لقد سلك النظام اللبناني مسار التدمير الذاتي، والعدمية والفوضى، غير مكترث بأي محاسبة أو مراجعة لسياساته الاقتصادية أو الإدارية، معتمدًا على عوامل عديدة، منها الدعم الخارجي المطلق بعدما رسَتْ التسوية الأميركية السورية السعودية بعد العام 1990، على حماية عرّابي الطائف، إضافة إلى تحكّم زعماء الطوائف بمجموعاتهم الطائفية، توظيفًا وعصبيةً وقمعًا، وتهميشًا ورشوةً.
وتمتّعت الطبقتان السياسية والاقتصادية بغطاء مستميت من مرجعيات دينية، فشلت وانتهت، بعدما اتفق الجميع على انهيار لبنان وإفلاسه، وتجويع شعبه وإهانته، وإصرارهم على استعباد اللبنانيين وتطويعهم.
هذه الطبقة ومن يدور في فلكها من مستفيدين (وهم ليسوا قلّة)، ومن يؤمّن الحماية لها طائفيًا وداخليًا وخارجيًا تلفظ أنفاسها الأخيرة. وكل محاولات الإنقاذ لن تفيد في إحياء هذا الجسدٍ الميّت.
_الحدث الزلزال، والجمهورية الثالثة
النقاش في تغيير النظام في لبنان ليس جديدًا، والسبب الرئيس كان إخفاق الطبقة السياسية بعد الطائف في تقديم صورة ولو متواضعة عن إمكانية استمرارية هذه الصيغة، لعيوب بنيوية فيه تارة، وعدم موافقة غير مكوّن سياسي على ما حمله الاتفاق في طياته، كلٌّ اعترض عليه من زاوية خاصة، إضافةً إلى استغلال عرّابي الطائف لتحقيق مكاسب سياسية وطائفية تسمح لهم في الاستمرار في الحكم، ضاربين بعرض الحائط أيّ اعتراض من اللبنانيين غير المستفيدين من مقدِّمي الخدمات الطائفية، في الوظائف والمحاصصة والإدارة العامة.
ما حصل عصر الثلاثاء الأسود كان زلزالًا أعلن سقوط الدولة- النظام-الأنموذج-الماخور، ووصل دويّ سقوطه إلى أرجاء المعمورة.
ولكن قد تشكّل”كارثة المرفأ”، فرصةً للولايات المتحدة لتخفيف الضغط عن لبنان، عبر منح الفرنسيين دورًا في إعادة صياغة المشهد اللبناني بريشةٍ فرنسية يشكّل السلّم الذي تنزل عنه الإدارة الأميركية، بعدما ثبُت للجميع أنّ الحصار الخانق، وممارسة الضغط الأقصى لم يأتِ بنتائج مهمة، وربما فشل في تحقيق أهدافه، مع اقتراب الانتخابات الأميركية. وقد يكون إسراع الرئيس الفرنسي زيارته إلى لبنان، وكسر العزلة الدولية عن الحكومة والعهد، له أهداف عديدة، أحدها قطع الطريق على الصينيين في الدرجة الأولى خشية العبور من النكبة من أجل إعادة إعمار المرفأ، وما تهدّم من أبنية، والدخول إلى لبنان من الباب الكبير ،إضافة إلى استغلال ماكرون الحدث للضغط بإتجاه فك الحصار عن لبنان، أو التخفيف منه بالحد الأدنى، ما يسمح بأخذ الاقتصاد اللبناني نفسًا يبقيه على قيد الحياة، لأنّ الانهيار الكامل ليس في مصلحة فرنسا لأسباب عديدة، وهو ما قاله ماكرون للرئيس دونالد ترامب في المكالمة الهاتفية، إنّ سياسة الضغط الأميركية قد يستفيد منها حزب الله، وبالتالي لا يتعيّن علينا ترك لبنان لمصيره.
وأنّ لبنان هو موطئ القدم الأخير شرق المتوسط للمستعمِرة الفرنسية القديمة، إن لم نقل في منطقة الشرق الأوسط كلها، وما الصراع الدائر في ليبيا، إلا أحد تجليات شد الحبال بين القوى الدولية والإقليمية وبسط نفوذها في المنطقة.
أوحت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مترافقة مع الانفجار الكبير، أنها إعلان نهاية النظام والطائف كعقد اجتماعي مطوّر عن نظام العام 1943، فشلت الطبقة السياسية في تطبيقه على مدى ثلاثين سنة.
فأن يقول الرئيس ماكرون أننا أمام تغيير في النظام السياسي، فهذا ليس كلامًا عابرًا. وما سمعه الرؤساء الثلاثة، ورؤساء الكتل النيابية من تأنيب ومضبطة اتهام واضحة وصريحة بالفشل، شكّل صدمة مروّعة لعرّابي هذا النظام ومفسديه. لن يستطيع الفرنسيون ولا غيرهم بعد اليوم تغطية موبقات الطبقة السياسية كما فعلوا على مدى ثلاثين سنة، لذلك، فإنّ النقاش في تغيير النظام أو تعديله بشكل جوهري، سيكون حديث الشهور المقبلة، لأنّ هذا النظام -على قوّته- قد انتهى، ولكنّ الأمور لن تحصل دفعة واحدة. لذا على اللبنانيين الشروع في إعمال ماكينات العصف الفكري للوصول إلى صياغة عقد اجتماعي جديد مختلف عن الصيغة الطائفية ذاتية التدمير، يكون المواطن اللبناني هو مركزه وأساسه، بعيدًا من الطائفة والمذهب والملّة والقبيلة..