العربُ وغيرُ العربِ والفِكرُ العربيّ بينَهما
الكاتب علي حسين كَنعان.
- ماذا نقصدُ بالفِكرِ العربيّ؟
أوّلُ ما يتبادرُ إلى أذهانِنا حينما نقرأ عبارةً منْ قبيلِ “الفكر العربيّ” هوَ خلاصةُ ما فكّرَ بهِ وأنتجَهُ العربُ في منطقةٍ ما منْ نظريّاتٍ وتحليلاتٍ ومناهجَ. ولكنْ يبدو أنّ الأمورَ تحتاجُ هنا إلى توغّلٍ في المعنى أكثرَ منَ التّسليمِ بما اعتدْنا على قراءِتِهِ هنا أوْ هناكَ. أوّلًا، لا بدّ منَ الإشارةِ إلى أنّ الشّخصَ العربيّ ليسَ فقطِ الشّخصَ المولودَ في بلدٍ تُسمّى بأنّها عربيّةٌ. وكذلكَ الأمرُ بالنّسبةِ للمفكّرِ العربيّ، أيْ أنّ هذا المفكّرَ لا يمكنُ أنْ يُعتبرَ “عربيًّا” لمجرّدِ أنّهُ مولودٌ في لبنانَ أوْ مِصْرَ، ولا لأنّهُ يخرجُ لنا مؤلّفاتِهِ باللّغةِ العربيّةِ.
لا بدّ منَ الاعترافِ هنا أنّ كلمةَ “عربَ” قدْ مُزجتْ منْ حيثُ المعنى بالجغرافيا واللّغةِ، في حينِ أنّها تعبّرُ عنِ عِرقِ شعبٍ ما، ينتمي إلى مرحلةٍ تاريخيّةٍ ما، وسكنَ مكانًا ما، لهُ حدودُهُ المعروفةُ، وهوَ شِبهُ الجزيرةِ العربيّةِ ومنطقةُ اليمنِ حتّى حدودِ العراقِ. أمّا في عالمِنا المعاصرِ، فإنّ كلمةَ عربيّ أصبحتْ تعني الشّخصَ المولودَ في رقعةٍ جغرافيّةٍ ممتدّةٍ منْ غربِ آسيا حتّى شمالِ أفريقيا، وتمّ اعتبارُ كلّ هذهِ الدّولِ الواقعةِ بينَ هاتيْنِ النّقطتيْنِ عربيّةً، لمجرّدِ أنّها تعلّمُ العربيّةَ في مدارسِها، أوْ لأنّ اللّسانَ العربيّ قدْ مازجَ لسانَها الأصليّ النّاطقَ بغيرِ العربيّةِ. ويبقى التّساؤلُ الأكبرُ هنا هوَ التّالي: هلْ سُمّيتْ هذهِ الدّولُ عربيّةً لأنّها اعتبرتْ لغةَ الضّادِ لغةً رسميّةً لها باعتبارِها أطلقتْ على نفسِها اسمَ الأمّةِ العربيّةِ[1] (حوراني، 1968)، أوْ أنّ صفةَ “العربيّة” قدْ جاءتْ نتيجةَ انتشارِ الإسلامِ فيها؟
وهنا ينبغي لنا أنْ نسألَ سؤالًا آخرَ ليسَ أقلّ شأنًا منَ السّؤالِ الأوّلِ: هلِ الإسلامُ ينتمي للعربِ، أيْ أصحابِ هذا العِرقِ الّذينَ نزلَ الإسلامُ حيثُ كانوا يسكنونَ، أمْ أنّ الإسلامَ دينٌ كونيٌّ؟
وإذا اعتبرْنا الإسلامَ دينًا عالميّا، فكيفَ لنا أنْ نوافقَ منْ يزعمونَ أنّ الإسلامَ يأخذُ طابعًا عربيّا، لمجرّدِ أنّ القرآنَ نزلَ باللّغةِ العربيّةِ؟ وسؤالٌ ثالثٌ يطرحُ نفسَهُ: هلِ اللّغةُ العربيّةُ في تمامِ بلاغِها وبيانِها الّذي أتى القرآنُ بهِ، تخصُّ عربَ المنطقةِ العربيّةِ الأصليّةِ وأهلَ تلكَ المنطقةِ، أيِ العربَ الأصليّينَ، أمْ أنّها لغةٌ تفرضُ نفسَها بغيرِ عِرقٍ لأنّها تعبّرُ عنْ إعجازِ اللّسانِ الإنسانيّ، أيْ أنّ منطقَها القويمَ ومعجمَها الّذي ليسَ كمثلِهِ معجمٌ في أيّةِ لغةٍ أخرى، يثبتُ أنّها لغةُ الإنسانيّةِ الأفضلُ، كدليلٍ آخرَ على أحقّيتِها في أنْ تكونَ لغةَ القرآنِ، الّذي هوَ في هذهِ الحالةِ كتابُ الإسلامِ، الدّينُ العابرُ للقارّاتِ والشّعوبِ والمُهدى للعالمين؟ وهنا نتذكّرُ الآيةَ التّالية: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[2].
كلُّ هذهِ التّساؤلاتِ دفعتْني لأشكّكَ بأنْ نسمّي نتاجَ كلّ مفكّرٍ وُلدَ في هذهِ المنطقةِ فِكرًا عربيًّا، وجعلتْني أشكّكُ حتّى في أنّ ما يُسمّى “القوميّةَ العربيّة”، إذْ يعبّرُ هذا المصطلحُ عنْ مشروعٍ سياسيّ جماهيريّ أكثرَ منْ تعبيرِهِ عنْ فكرةٍ تتسلّحُ بمنطقٍ يثبتُها ويعلّلُ مفهومَها[3] (مساد، 2019).
- كيفَ كانتِ الأمورُ قبلَ الإسلامِ؟
قبلَ أنْ يمتدّ الإسلامُ خارجًا منْ حدودِ المنطقةِ العربيّةِ الأصليّةِ، أيْ شبهِ الجزيرةِ العربيّةِ بقُطبيْها مكّةَ والمدينة، وما تبقّى منَ المناطقِ الصّحراويّةِ المأهولةِ بقبائلِ العربِ والأعرابِ المتنقّلينَ، أوْ حضرِهمُ السّاكنين في المدنِ الّتي تجمعُ أجزاءَ الصّحراءِ ببعضِها البعض، كانتْ دولُ الشّرقِ الأوسطِ وشمال أفريقيا مأهولةً بشعوبٍ ناطقةٍ لغيرِ اللّغةِ العربيّةِ، كاللّغةِ السّريانيّةِ والرّومانيّةِ والعِبريّةِ والآراميّةِ وغيرِها منَ اللّغاتِ الأطول عمرًا وتجذّرًا في التّاريخ منَ اللّغةِ العربيّة.[4] (ماذا كانَ يتحدّث العربُ قبلَ الإسلام؟، 2017)
وكانَ دخولُ الإسلامِ إلى دولِ هذهِ المنطقةِ قدِ اتّخذَ الطّابعَ الاستعماريّ منذُ البدايةِ، إذْ أنّ الإسلامَ لمْ ينتشرْ في منطقةِ العربِ بالسّيفِ وحدَهُ كيْ ينتشرَ في غيرِها بالسّيفِ وحدَهُ. وقدْ أشارَ التّاريخُ الإسلاميُّ المعروفُ إلى تلكَ الفتوحاتِ الّتي أخضعَ فيها القادةُ العربُ المسلمونَ، شعوبًا بكاملِها لسلطتِهمْ تحتَ مسمّى اعتناقِ الإسلامِ. وكانتْ شعوبُ تلكَ المنطقةِ في تلكَ الأيّامِ قدْ نضجتْ أثناءَ دورانِها في فلكِ لغاتِها وعاداتِها المتأصّلةِ فيها. لمْ يكنْ أهلِ هذهِ الدّولِ منَ النّاطقينَ بالضّادِ، ولا منَ النّاظمينَ للشّعرِ العربيّ، وإنّما كانوا أهلَ حضارةٍ أخرى عِلمًا أنّ العربَ الأصليّين لا حضارةَ لهمْ كما هوَ واضحٌ منْ خلالِ الرّؤيةِ البانوراميّةِ لحالةِ العالمِ الحضاريّ في ذلكَ الزّمنِ.
ما نستخلصُهُ هنا هوَ أنّ اللّغةَ العربيّةَ، لمْ تنتقلْ عبرَ الإسلامِ إلى تلكَ الدّولِ لتزاحمَ لغاتِ أهلِها الأصليّةِ، وإنّما انتقلتْ عبرَ العربِ المستعمرينَ الّذينَ وبعدَ احتلالِهمْ لها ومكوثِهمْ فيها، أرادوا أنْ يقيموا لهمْ ممالكَ كيْ يثبّتوا وجودَهمْ، وهذا ما أدّى إلى تمازجِ اللّغةِ العربيّةِ بلغاتِ أهلِ تلكَ الدّولِ، فنتجَ عنْ ذلكَ، أنّ شعوبَ هذهِ الدّولِ وأجيالَها اليوم ما زالوا ينطقونَ إلى يومِنا هذا بمزيج يتكوّنُ دائمًا منَ اللّغةِ العربيّةِ كطرفٍ أوّل، ومنْ لغاتٍ أخرى كطرفٍ ثانٍ، أيِ اللّغاتِ الّتي كانتْ محكيّةً ومكتوبةً في تلكَ الدّولِ قبلَ خضوع شعوبِها للمستعمرينَ العربِ الّذينَ لمْ يفرضوا سوى سيوفِهمْ في تلكَ المعادلةِ لا قواعدَ الإسلامِ الحقيقيّة[5] (الجدي، 2020).
فالإسلامُ الّذي هوَ الدّينُ الّذي نشرَهُ محمّد، وهوَ رجلٌ منْ قبيلةٍ عربيّةٍ شهيرةٍ اسمُها قريش[6] (حوراني، 1968)، ينصُّ في كتابِهِ المقدّسِ، على أنّ الدّينَ لا يُمكنُ أنْ يُعتنقَ بالإكراهِ ولا بالقوّةِ، بلْ بالإرادةِ الشّخصيّةِ لمنْ تُعرضُ عليهِ أفكارُ ومحتوياتُ الرّسالةِ الإسلاميّةِ الّتي كانَ محمّد أبرزَ وجوهِها لمّا بدأتْ رحلةُ الإسلامِ في مكّة.
- كيفَ تكوّنَ ما يُسمّى العالمَ العربيّ؟
معَ وجودِ اللّغةِ العربيّةِ في المنطقةِ الممتدّةِ منَ الخليجِ العربيّ حتّى بلادِ المغربِ، ومعَ توالي سلطانِ حكّامِ الدّولةِ الإسلاميّةِ لعهودٍ متتاليةٍ، ترسّختِ اللّغةُ العربيّةُ أكثرَ فأكثرَ في حياةِ شعوبِ المناطقِ غيرِ العربيّة.
ولكنّ هذهِ المناطقَ، وبحكمِ كونِها تقعُ في منتصفِ العالمِ بينَ الشّرقِ والغربِ، فقدْ بقيتْ ملتقى الشّعوبِ والنّقطةَ الّتي تمرُّ بها أبرزُ حركاتِ التّجارةِ في العالمِ. ولكنّ اللّغةَ العربيّةَ لمْ تصبح اللّغةَ المسيطرةَ في هذهِ المنطقةِ، لأنّها شهدتْ تشتّتًا جديدًا في استعمالِها على الألسنةِ الّتي كانتْ ما تزالُ تتكلّمُ لغاتِها الأصليّة، فتشوّهَ شكلُ اللّغةِ العربيّةِ على ألسنةِ هؤلاءِ، بما يشبهُ إلى حدّ ما، التّشوّهَ القديمَ الّذي شهدتْهُ هذهِ اللّغةُ على ألسنةِ العربِ أنفسِهمْ قبلَ أنْ يصلحَ القرآنُ قواعدَ اللّغةِ العربيّة. ومنَ الأمثلةِ البارزة على ذلك، ما يمكنُ أنْ يُفهم منْ تشابهٍ كبيرٍ بينَ اللّغةِ العربيّةِ والسّريانيّةِ منْ حيث المعاني والمفردات المستعملة[7].
ويثبتُ هذا النّجاحُ المؤقّتُ تاريخيّا للّغةِ العربيّةِ باعتبارِها لغةً يُتكلّمُ بها حسبَ قواعدِها الصّحيحة، والّذي أتبعَهُ فشلٌ لكونِ الشّعوبِ بدأتْ تكوّنُ لنفسِها مزيجًا منْ هذهِ اللّغةِ واللّغاتِ الأخرى المتأصّلةِ في تلكَ المناطقِ، أنّ اللّغةَ العربيّةَ لا تخصُّ شعبًا معيّنًا دونَ آخر، وأنّ نجاحَ التّكلّمِ بها باستمرارٍ لا يقلُّ صعوبةً عنْ صعوبةِ إنشاءِ حضارةٍ بكاملِ معالمِها. وقدْ ذهبتْ شعوبُ هذه المنطقةِ إلى أنْ تدرّسَ اللّغاتِ الغربيّةَ المشتقّةَ عنِ اللّاتينيّةِ في مدارسِها في عصرِنا الحديثِ إلى جانبِ اللّغةِ العربيّة، ما جعلَ أهلَ هذهِ المنطقةِ جميعًا يفتقدونَ هويّةً لغويّةً واحدةً لأنّهمْ منْ جهةٍ يتكلّمونَ مزيجًا محيّرًا منَ اللّغةِ العربيّةِ واللّغاتِ الأخرى كما في لبنانَ حيثُ يتكلّمُ اللّبنانيّونَ اللّغةَ السّريانيّةَ بقواعدِها والعربيّةَ بمصطلحاتِها.[8] (شومان، 2018)
ولمّا كانَ أهلُ هذهِ المنطقةِ خلاصةَ تزاوج شعوبٍ كثيرةٍ فقدْ تمازجتْ على الأثرِ أيضًا أعراقُهم وأصولُهم فنتجَ عنْ ذلكَ ضياعُ العِرقِ العربيّ الأصليّ في هذهِ المنطقةِ، وبقيَ أبناءُ وحفدةُ القبائلِ العربيّةِ الأصليّةِ في أماكنِهمُ اليومَ في منطقةِ الخليجِ. ويكفي أنْ ننظرَ بعينِ العقلِ إلى ما بينَ أهلِ الخليجِ العربيّ وبينَ أهلِ غربِ آسيا أوْ شمال أفريقيا منْ فروقاتٍ في اللّسانِ واللّونِ والعاداتِ لنعرفَ أنّ المنطقةَ الممتدّةَ منَ الخليجِ إلى المغربِ ليستْ عربيّةً إلّا لأنّ دولَها أعلنتِ العربيّةَ لغةً رسميّةً لشعوبِها، فيما هذهِ الشّعوبُ لا تتكلّمُ العربيّةَ أساسًا بشكلٍ صحيحٍ ونقيّ مئةً في المئةِ.
يمكنُ أنْ أستشهدَ هنا بمثلٍ عايشتُهُ شخصيّا في بلادِ روسيا البيضاء، حيثُ أعلنتِ الدّولةُ البيلاروسيّةُ عنْ كونِ اللّغةِ الرّوسيّةِ لغةً رسميّةً لشعبِها، فيما شعبُها ما زالَ يتكلّمُ مزيجًا منَ اللّغتيْنِ الرّوسيّةِ والبيلاروسيّة. وإذا كانَ الرّوسُ أساسًا شعبَ روسيا، فشعبُ بيلاروسيا، أيْ روسيا البيضاء، هوَ مزيجٌ منَ الرّوسِ والبولنديين والألمانِ واللّيتوانيّينَ والأوكرانيّينَ، أيْ أنّهمْ خلاصةُ التّزاوجِ بينَ أهلِ روسيا البيضاء والدّولِ المجاورةِ لها، حيثُ يمرُّ أهلُ تلكَ الدّولِ فيها عبورًا إلى روسيا أوْ منطقةِ الشّرقِ الأوسطِ، كحالةٍ شبيهةٍ بالتّزاوجِ الحاصلِ بينَ الشّعوبِ في منطقةِ الشّرقِ الأوسطِ نتيجةً لما ذكرْناهُ عنِ الدّورِ الهامّ والاستراتيجيّ لدولِ هذهِ المنطقةِ في التّجارةِ العالميّةِ والعلاقاتِ الدّوليّةِ.
- ما هيَ مشكلةُ المنطقةِ الوُسطى في العالمِ؟
بعدَ أنْ أثبتْنا بمراقبةٍ بسيطةٍ وواعيةٍ أنّ شعوبَ المنطقةِ الوُسطى، وسأعني منَ الآنَ فصاعدًا بهذهِ المنطقةِ دولَ غربِ آسيا وصولًا إلى المغربِ في شمالِ أفريقيا، ليسوا عربًا بالمعنى الحقيقيّ للكلمةِ، وأنّ العربيّةَ قدِ انتقلتْ إليهمْ نتيجةَ الاستعمارِ فقطْ، وأنّ استمراريّةَ اللّغةِ العربيّةِ معهمْ كانتْ لسببٍ واحدٍ وهوَ أنّ معظمَ هذهِ الشّعوبِ ظلّتْ تعتنقُ الإسلامَ الّذي يُقرأ كتابُهُ المقدّسُ باللّغةِ العربيّةِ بشكلٍ أساسيٍّ، حيثُ أنّ البيانَ القرآنيّ لا يحقّقُ معناه الأفضل إلّا حينَ يُقدّمُ في قالبِ اللّغةِ العربيّةِ، اتّضحَتْ لنا أبرزُ مشاكلِ هذهِ الشّعوبِ، ونلخّصُ هذهِ المشكلةَ على الشّكلِ التّالي:
أوّلًا، إنّ شعوبَ هذهِ المنطقةِ قدْ جعلوا الإسلامَ فوقَ دولِهمْ وأصلِهمْ بحجّةِ أنّهمْ عربٌ، وأنّ الإسلامَ نزلَ على رجلٍ عربيٍّ هوَ محمّد، فأساؤوا فهمَ الإسلامِ في الصّميمِ، إذْ أنّ الإسلامَ نزلَ على لسانٍ عربيٍّ لأنّ أهلَ المنطقةِ الّتي نزلَ بها كانوا عربًا ما يحتّمُ حصولَ ذلكَ كيْ يتمّكنَ محمّدٌ منَ التّواصلِ معَ قومهِ، وأساؤوا فهمَ أنفسِهمْ لأنّهمْ لا ينتمونَ تاريخيًّا عنْ طريقِ النّسبِ إلى القبائلِ العربيّةِ، ولا يتكلّمونَ أصلًا اللّغةَ العربيّةَ بينَهمْ بطلاقةٍ، بلْ يتكلّمونَها بطلاقةٍ في حالاتٍ مثلَ العملِ الأكاديميّ أوِ الإعلاميّ أوِ التّشريعيّ، أيْ يستخدمونَ الفصحى في المطبعةِ فقطْ ليسَ في منازلِهم، فكيفَ يعلنونَ أنّهمْ يتكلّمونَ اللّغةَ العربيّةَ وهمْ فقطْ يكتبونَها، كما أنّ دولًا كثيرةً في هذهِ المنطقةِ تكتبُ المادّةَ العلميّةَ باللّغاتِ الإنكليزيّةِ والفرنسيّةِ، وتتركُ اللّغةَ العربيّةَ للآدابِ فقطْ أوِ العلومِ الإنسانيّة، كما في لبنانَ مثلًا؟
ثانيًا، إنّ شعوبَ هذهِ المنطقةِ تدّعي التّآزرَ ضمنَ حدودِ “عالمٍ عربيٍّ موحّدٍ”، ولكنّ ما يجمعُ أهلَ مناطقِ هذهِ الدّولِ ليسَ القوميّةَ العربيّةَ أوِ الأصلَ العربيّ، بلْ ما يجمعهمْ حقيقةً هوَ الانتماءُ الدّينيُّ للإسلامِ أوِ المسيحيّة، وبالتّحديدِ، الانتماء الطّائفيّ.
فأهلُ الجنوبِ اللّبنانيّ مثلًا تربطُهمْ علاقاتٌ روحيّةٌ وفكريّةٌ معَ أهلِ العراقِ أوْ إيرانَ لأنّ هذهِ الأطرافَ تتشاركُ الانتماءَ للطّائفةِ الشّيعيّةِ الإسلاميّة، وقدْ ذكرَ الشّيخ مرتضى مطهّري الدّورَ البارزَ لأئمّةِ جبل عامل الشّيعة التّاريخيّ في إنشاءِ الحوزة العلميّة الشّيعيّة في أصفهان،[9] (حميّة، 2016) ما يدلُّ على تجذّر العلاقة بينَ الشّيعة في لبنان وإيران منذُ ذلكَ العهد. أمّا أهلُ السّنّةِ في لبنانَ فينتمونَ دينيّا إلى المدارسِ الدّينيّةِ في مصرَ كالأزهرِ أوْ في السّعوديّة. وكذلكَ الأمرُ بالنّسبةِ للعلاقاتِ الفكريّةِ والرّوحيّةِ بينَ مسيحيّي لبنانَ ومسيحيّي أوروبّا. وهذا ما يدلُّ على أنّ ما يُسمّى العالمَ العربيّ، هوَ مجموعةٌ منَ الشّعوبِ على شكلِ جماعاتٍ، وكلّ جماعةٍ تتكلّمُ لهجةً هيَ في الحقيقةِ مزيجٌ منَ اللّغةِ العربيّةِ ولغاتٍ أخرى، بحيثُ يمكنُ للّغويّينَ الكشفَ عنْ أسرارِ هذا المزيج، كما أنّ لكلّ جماعةٍ ارتباطًا بجماعاتٍ أخرى قدْ تفصلُ بينَهمُ الجغرافيا ولكنّ ما يجمعهم هوَ الفِكرُ الدّينيّ، أوْ لنقلْ بوضوحٍ، الفكر السّياسيّ، لأنّ الإسلامَ والمسيحيّة دينان عالميّانِ لهما معتنقونَ في كلّ الدّولِ ومنْ كلّ الأعراقِ واللّغاتِ والتّوجّهاتِ.
فإذا كانَ الدّينُ في غيرِ دولِ هذهِ المنطقةِ الوسطى خلاصًا روحيّا للأفرادِ، فهوَ بينَ شعوبِ وظهراني أهلِ هذهِ المنطقةِ طقسٌ اجتماعيٌّ أوْ فرضٌ شعبيٌّ، أوِ ارتباطٌ سياسيٌّ محضٌ.
- منْ همُ المفكّرونَ العربُ حقيقةً في هذهِ الحالةِ؟
يبرزُ هنا سؤالٌ جديدٌ وهامٌّ: هلْ أنّ أهلَ دولِ المنطقةِ الوُسطى عربٌ، وهلْ يمكنُ أنْ نسمّيَ فكرَهمْ فِكرًا عربيًّا؟ يمكنُ أنْ نجيبَ عنْ مثلِ هذا السّؤالِ باستعراضِ النّقاطِ التّاليةِ:
أوّلًا، إنّ هؤلاءِ المفكّرينَ معظمهم كانوا أبناءِ دولِ هذهِ المنطقةِ الّتي يسري عليها تحليلُنا في هذهِ المقالة، أيْ أنّهمْ ليسوا عربًا بالمعنى الحقيقيّ. وهذا يعني أنّ كونَهمْ كتبوا فِكرَهمْ باللّغةِ العربيّة، ليسَ دليلًا كافيًا لإثباتِ هويّتِهمُ العربيّة. والهويّةُ ليستْ كلمةً ذات معنًى قويٍّ ومحدّدٍ ككلمةِ “عِرقٍ”.
ثانيًا، لقدْ سعى هؤلاءِ المفكّرونَ إلى تحليلِ ما يُسمّى بالعقلِ العربيّ، ولكنْ تِبعًا للوصفِ الّذي وصفْنا بهِ تطوّرَ تاريخ شعوبِ المنطقةِ الوسطى وتقلّب أحوالِها، فلا يمكنُ الكلامُ بتاتًا عنْ شيءٍ اسمهُ “العقل العربيّ”. يمكنُ الكلامُ عِوَضًا عنْ ذلكَ عنْ مجموعةِ عقولٍ طائفيّةٍ وسياسيّةٍ مفتقدةٍ للهويّةِ اللّغويّةِ، تعاني في صُلبِ مشاكلِها منْ أزماتٍ اقتصاديّةٍ سببُها التّقصير الهائل الأثرِ للحكّامِ والرّؤساءِ الّذينَ توالى حكمُهمْ في هذهِ المنطقةِ. كما أنّ خلْطًا كبيرًا كانَ يحصلُ في نتاج هؤلاءِ المفكّرينَ بينَ دراسةِ العقلِ العربيّ بوصفِهمْ لهُ تحتَ هذا المُسمّى، وبينَ تركيزِهمْ على العلومِ الإسلاميّةِ في طرحِهمْ لقضايا شعوبِ هذهِ المنطقةِ.
ثالثًا، منَ الواضح أنّ مجموعةً منْ أهمّ هؤلاءِ المفكّرينَ قدْ ركّزتْ على استيرادِ أبرزَ ما أنتجتْهُ الحضارةُ الغربيّةُ منْ نتاجاتٍ في الفلسفةِ وعلمِ القانونِ وعلمِ الاجتماعِ لإصلاحِ الخللِ الحاصلِ في هذهِ الشّعوبِ، وكانَ عليهمْ في المقابلِ أنْ يفهموا أنّ استنساخَ تجاربِ الأممِ الأخرى ليسَ سوى هروبٍ منَ المشكلةِ الرّئيسيّةِ إلى مشاكل فرعيّةٍ. فقدِ اختلفَ هؤلاءِ المفكّرونَ حولَ ما إذا كانتِ العلمانيّةُ هيَ الحلّ لمشكلةِ شعوبِ هذهِ المنطقةِ، أوِ الإصلاح الدّينيّ، ولمْ ينتبهوا إلى أنّ هذهِ الشّعوبَ تعاني في الحقيقةِ منْ ضياعٍ على مستوى الهويّةِ والتّاريخِ، المرتبطِ أساسًا بالاستعمالِ الصّحيحِ اللّغةِ.
*
قائمةُ المراجعِ والمصادرِ
القرآنُ الكريم، سورةُ يوسف، الآية 2
أحمد الجدي. (12 شباط, 2020). لماذا ينتقدُ مفكّرونَ إسلاميّونَ الفتوحاتِ الإسلاميّةَ؟ تم الاسترداد من رصيف22: https://raseef22.net/article/1077157-
ألبرت حوراني. (1968). الفكرُ العربيّ في عصر النّهضة. بيروت: دار النّهار للنّشر.
توفيق شومان. (30 أكتوبر, 2018). السّريانيّة في اللّهجةِ اللّبنانيّة. تم الاسترداد من شبكة أخبارِ دمشق: https://www.dnn-sy.net
جبران مساد. (19 حزيران, 2019). ماذا أنجبَ لنا رحمُ القوميّة العربيّة. تم الاسترداد من الجزيرة: https://www.aljazeera.net/blogs/2019/9/16
فراس حميّة. (27 حزيران, 2016). هلْ أصبحَ شيعةُ لبنانَ تابعينَ لإيران؟ تم الاسترداد من رصيف22: https://raseef22.net/article/47552
ماذا كانَ يتحدّث العربُ قبلَ الإسلام؟ (16 آذار, 2017). تم الاسترداد من عمون: https://www.ammonnews.net/article/305423
*
[1] حوراني، ألبرت، الفكرُ العربيّ في عصرِ النّهضة، الدّولةُ الإسلاميّة، ص. 11
[2] سورةُ يوسف، الآية 2
[3] مساد، جبران، ماذا أنجبَ لنا رحمُ القوميّة العربيّة؟، موقع الجزيرة، تاريخ النّشر:19-6-2019، أدخل إلى الرّابط التّالي: https://www.aljazeera.net/blogs/2019/9/16/%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A3%D9%86%D8%AC%D8%A8-%D9%84%D9%86%D8%A7-%D8%B1%D8%AD%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9
[4] موقعُ عمون، ماذا كانَ يتحدّثُ العربُ قبلَ الإسلام؟ أدخلْ إلى الرّابط التّالي: https://www.ammonnews.net/article/305423
[5] الجدي، أحمد، لماذا ينتقدُ مفكّرونَ مسلمونَ الفتوحاتِ الإسلاميّةَ، موقع رصيف22، أدخل إلى الرّابط التّالي: https://raseef22.net/article/1077157-%D8%A3%D9%86-%D8%AA%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D8%A3%D8%B1%D8%B6-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%89-%D9%8A%D8%B9%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%AF-%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9
[6] حوراني، ألبرت، الدّولةُ الإسلاميّة، الفكرُ العربيّ في عصرِ النّهضة، ص.11
[7] كلماتٌ سريانيّةٌ في اللّغةِ العربيّة، أدخل إلى الرّابط التّالي: https://baytdz.com/%D9%83%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%B3%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/
[8] شومان، توفيق، السّريانيّة في اللّهجة اللّبنانيّة، موقعُ شبكة أخبار دمشق، أدخل إلى الرّابط التّالي: https://www.dnn-sy.net/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%AC-%D9%85/
[9] حميّة، فراس، هلْ أصبحَ شيعةُ لبنان تابعين للعراق؟، موقع رصيف22، أدخل إلى الرّابط التّالي: https://raseef22.net/article/47552-%D9%87%D9%84-%D8%A3%D8%B5%D8%A8%D8%AD-%D8%B4%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D9%86-%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D8%9F