تأمّلاتٌ بلاغيّةٌ في قصيدةِ (أميرِ الفضاءِ) للشّاعرِ حسن عليّ شرارة
قراءة وتحليل: د. إبراهيم العزنكي
أميرُ الفضاءِ
خَفَقَــتْ جَنَاحَـاهُ فَخَفَّ وَطَارَا/فَـوْقَ الأَثِيرِ يُوَاكِـبُ الأَقْمَـارَا/ وَمَضَى بِآفَـاقِ الْفَضَـاءِ مُـحَلِّقًا/يَتَلَمَّـسُ الأَخْبَارَ وَالأَسْـرَارَا/
كَالنّجمِ مَوْطِنُهُ الصَّدَارَةُ في الْعُلَى/أَوْ كَالكَوَاكِبِ رَوعَـةً وَفَخَارَا/ فَإِذا عَلا رَكِـبَ الرِّيَـاحَ مَطِيَّـةً/وَإِذَا دَنَا تَخِذَ الشَّوامِخَ دَارَا/
كَالسَّهْمِ يَسْتَبِقُ الغَزَالَ إِذَا عَدَا/وَإِذَا مَضَى فِي الْجَوِّ لَيْسَ يُجَارَى/ إن جَاعَ، يوما فالطُّيورُ طَعَامُهُ/وَإِذَا تَكَرَّمَ يُطْعِمُ الأَطْيَارَا/
وَالزَّاحِفَاتُ إِذا لَمَحْنَ خَيَالَـهُ/وَهْمًا تَرَاهَـا خِيْفَةً تَتَوَارَى/ هُوَ لا يَرَى تَحْتَ السَّمَاءِ طَرِيدَةً/إِلاَّ تَرَاهُ كَالزُّؤَامِ أَغَارَا/
يَنْقَضُّ دَوْمًا كَالْمُـحَارِبِ واثقًا/فَوْقَ الْمُطَهَّمِ لا يُثِيرُ غُبَارَا/ مَا حَطَّ فِــــــــي كَنَفِ الأعالي رَحْلَهُ/إِلاَّ وَرَاحَ يُـجَدِّدُ الأَسْفَارَا/
د.حسن علي شرارة
سأفصحُ عن رؤى هذهِ التّأمّلاتِ انطلاقًا من دورِ البلاغةِ في المُقارباتِ النّقديةِ. مُلتزمًا دِلالتَها وواقعَها، حيثُ لم تكنْ قواعدَ وقوالبَ ومصطلحاتٍ أثقلتْ كاهلَها، بل انحرفتْ بها عن مكنوناتِ نكهتِها، وإشراقاتِ جماليّاتِها، يوم كانتْ آلةً مِطواعةً نكشفُ بها عن مَظانِّ الجمالِ في التّعبيرِ عن موضوعاتٍ ومفاهيمَ ومشاعرَ ومقاصدَ وتطلّعاتٍ؛ علّنا نقعُ على بعضِ أسرارِ العلاقاتِ بينَ ذلكَ كلِّهِ، أو في الكلامِ عنهُ، أو نطمعُ في أن تُبديَ لنا بعضًا من بدائعِ علاقاتِ أصواتِ الحروفِ، وفي نسيجِ الكلماتِ، وعن شيءٍ من روائعِ نظمِها في جُملٍ وعِباراتٍ. وما ذلكَ إلّا لنعيَ أبعادَ تضافرِ عناصرِ الكلامِ قبل نُطقِه، وفي بناءِ صورتِه، فندركَ مدى انسجامِ الموضوعِ، والفكرةِ، والمفهومِ، والواقعِ، معنويًّا كانَ أو ماديًّا أو اجتماعيًّا، وسياسيًّا أو اقتصاديًّا، مرتبطةً في الظّرفين المُتفرّدينِ عنيتُ الزّمانَ والمكانَ، أو مُتفلتةً منهما. سابحةً محلّقةً في آفاقِ الخيالِ المُبدعِ، أو يُبقي عليها الأديبُ أو الشّاعرُ مُتّصلةً بخيطِ المستقبلِ؛ يستشرفُ بباصرةٍ ثاقبةٍ تُوقِدُها بصيرةٌ واعيةً سماتِها وخصائصَها، أو يرسمُها هوَ كيفَ يشاءُ، وكيفَ يريدُنا أن نراها ونَعيَها.. فنعيشُ نشوةَ صاحبِها، وحزنَه، وقلقَه، وتألّقَهِ.
تلكَ هيَ البلاغةُ الّتي ندعو إلى مُصالحتِها والدّخولِ تحتَ عباءَتِها، والاستظلالِ بقُبّةِ جماليّاتِها، ونَكهاتِها ونُكاتِها، واعتمادِها سبيلًا نقديًّا يُوصلكَ إلى حيثُ يُبهرُك، ويبقى مُمتدًّا أمامَ ناظريكَ بلْ أمامَ مُخيّلتِكَ، ولا ندَّعي أنّنا على صِراطها، ويكفينا أن نحاولَ تلمّسَها..
ودعوتُنا هذهِ لا تحملُ ضيرًا على ما شاعَ من مدارسَ نقديَّةٍ وانتشرَ من: بِنويًّةٍ، ونفسيًّةٍ، وواقعيَّةٍ، ورومانسيَّةٍ، وتاريخيَّةٍ، واجتماعيَّةٍ، وأسلوبيَّةٍ، وإشاريَّةٍ… لكنّنا نرغبُ أن نُوجِّهَ عنايتَك لعلّكَ تتواصلُ معَ روّادِ هذا الصِّراطِ وأعلامِه عليه من: الجُرجاني، إلى ابنِ أبي عتيقٍ، إلى عبدِ الملكِ بن مروانَ.
آملًا أن ترى أثَر ما تقرأُ منِ شعرٍ أو نثرِ في نفسِكَ، وتستشعرَ تأثيرَهُ في قلبِك، وتدركَ معانيَهُ وأبعادَهُ بعقلِك، تشاركُ قائلَهُ إحساسَهُ وحالتَهُ، ثمَّ تنطلقُ إلى خصيصةٍ لكَ في ذلكَ، من حيثُ تقديرُكَ دقَّةَ المعنى، ورشاقةَ اللّفظةِ، ولطفَ العِبارةِ، وسهولةَ التّناولِ، وحُسنَ التّخلصِ، وبراعةَ الانتقالِ، بل التّنقّلَ بينَ أغراضِ الشّاعرِ أو الأديبِ معَ حِفاظِهِ على تماسكِ أجزائِهِ، ووحدةِ موضوعِهِ، مُتتبّعًا تناثرَ جمالاتِهِ، وتفوّحَ أريجِهِ، وتطايرَ عَرفِهِ. وفوقَ ذلكَ كلِّه أن تهديَكَ البلاغةُ إلى مبعثِ الذّوقِ، ومظانِّ الجمالِ، وروعةِ الأفكارِ؛ فترتاحُ قواكَ كلُّها: عقلُك ونفسُك وقلبُك… ولكَ أن تقدّمَ وتؤخّرَ فيها بما يَتناسبُ معَ النّصّ، ومعَ حالتِك إبّانَ تواصلِك معَهُ.. ولا ضيرَ أن تنقدَ ما تقرأُ في ضوءِ قِيمِكَ، أو تضربَ عنها الصَّفحَ مُقدّرًا الصُّورَ وطّرائقَّ التَّعبيرِ فحسب.
وإلى توظيفِ ما قدّمتُ لكَ في مقاربةِ قصيدةِ (أميرُ الفضاءِ).
موضوعُ القصيدةِ: وصفُ عُقابٍ. وقد درجَ مُؤلّفو كتبِ اللّغةِ العربيّةِ المدرسيّةِ على إعطاءِ هُوِيَّةٍ للنّصِّ انطلاقًا ممّا أسمَوهُ نمطَ الكتابةِ مُستندينَ في ذلكَ إلى نوعِ النَّصِّ وموضوعِهِ. فعلى هذا النّصِّ وأضرابِه يُطلقونَ مُصطلحَ: (نصٌّ وصفيٌّ موضوعيٌّ). حيثُ يَزعمونَ أن ليسَ للشّاعرِ حضورٌ فيهِ. ودليلُهمُ الشّكليُّ غيابُ ضميرِ المُتكلّمِ. وكنّا قدْ أبدَيْنا تحفّظَنا وأكثرَ من مرّةٍ على تلكَ المُصطلحاتِ، وتلكَ المعاييرِ في مقاربةِ النّصوصِ، وخاصّةً الشّعريّةَ منها. وفي هذا المقامِ أقولُ: إذا كانَ حسن شرارة غائبًا في هذهِ القصيدةِ فلا ترونَهُ إلَا في صيغةِ المتكلّم، فهذا يعني اضمحلالَ النّصِّ وتلاشيَهُ. فما الحروفُ والكلماتُ بأبعادِ دِلالاتِها إلّا تطلعاتُ الشّاعرِ ورؤاهُ، وأفكارُه، وقيمُه.
وهل يبوحُ بأسرارِ الجمالِ إلّا الجميلُ؟ وهل ينكرُ الشرَّ إلّا مْن يفيضُ الخيرُ من جنباتِهِ؟إذًا لنقلْ إنَّ موضوعَ قصيدتِنا الّشاعرُ وهوَ يصفُ، بل يمدحُ جارحًا مُتفرّدًا ويُشاركُهُ صفاتِه.
والقصيدةُ نُظمت على تفعيلاتِ البحرِ الكاملِ وهوَ منْ بحورِ الشّعرِ العربيِّ الصّافيةِ، وهوَ يتألّفُ من تَكرارِ تفعيلةٍ واحدةٍ في كلِّ البحرِ، وقد سُمِّيَ بهذا الاسمِ لاجتماعِ ثلاثينَ حركةً فيهِ، وهوَ ما لم يكنْ لغيرِه من البحورِ، فسُمِّيَ بالكاملِ لِكَمال حركاتِهِ. وضابطُ البحرِ الكاملِ هوَ:
كَمُل الجمالُ منَ البحورِ الكاملُ مُتَفَاعِلُن مُتَفاعلن مُتَفَاعِلُ
وعلى الرّغمِ من أنَّ البحرَ الكاملَ يتألّفُ من تَكرارِ تفعيلةٍ واحدةٍ، إلَّا أنَّ هذهِ التّفعيلةَ تقبلُ الكثيرَ منَ التّغييراتِ والزّحافاتِ والعِللَ، ومنَ الزّحافاتِ الّتي تجوزُ في حشوِ الكاملِ ما يأتي:
الإضمارُ: وهو تسكينُ الحرفِ الثّاني المُتحرّكِ، حيثُ إنَّ تفعيلةَ “مُتَفَاعِلُن” تصبحُ “مُتْفاعلن”، وهو زحافٌ حَسَنٌ.
القطعُ: وهوَ علّةٌ منَ العِللِ الّتي تصيبُ ضَرْبَ البحرِ الكاملِ، أيْ التّفعيلةَ الأخيرةَ منَ البيتِ، والّتي يلتزمُ بها الشَّاعرُ في كلِّ القصيدةِ، وهيَ حذفُ آخرِ الوتدِ المجموعِ وتسكينُ ما قبلَه، يعني “مُتَفَاعلن” تصبحُ “مُتَفَاعلْ”. جديرٌ بالذّكرِ أنَّ البحرَ الكاملَ من أكثرِ البحورِ الشّعريّةِ استعمالًا في القديمِ والحديثِ، يستخدمُهُ الشُّعراءُ لسلاستِهِ وسهولةِ قراءتِه وجمالِ إيقاعِهِ.
خَفَقَتْ جَنَاحَاهُ فَخَفَّ وَطَارَا فَوْقَ الأَثِيرِ يُوَاكِبُ الأَقْمَارَا
استهلَّ الشَّاعرُ قصيدتَهُ بجملةٍ فِعليَّةٍ في فعلِها (خَ فَ قَ) من الحركةِ والإصرارِ والاستمرارِ ما لا يَخفى، فالجذرُ خفقَ منْ لوازمِهِ الصَّوتُ والاضطرابُ والحركةُ والسّرعةُ والذّهابُ والضَّربُ. وهلْ سُمّيتِ الرَّايةُ المُرتفعةُ خافقًا إلّا لارتفاعِها واضطرابِها وتحرّكِها ودِلالاتِها الإيجابيّةِ؟ ولكَ أنْ تتّهمَ الشّاعرَ في نَحوِهِ، إِذ ألحقَ تاءَ التّأنيثِ بالفعلِ (خفقَ)، والفاعلُ مُثنًى مُذكّرٌ. وكان يُمكنُني أن أقولَ: إنَ رفعَ التّهمةِ عنهُ بدليلِ كذا وكذا، ولكنّهُ ليسَ بريئًا البتّةَ.
فهو وانسجامًا مع لوازمِ الجذرِ(خ- ف-ق) الّتي ذكرتُها لكَ يرى أنَّ إسنادَهُ إلى المُثنّى يُقصّرُ عمّا يُريدُ فحَذَفَ (ريشَ) جناحيْهِ. وأقامَ المُضافَ إليهِ مقامَ المُضافِ، وألبسَهُ دورَ الفاعليَّةِ. في إشارةٍ إلى تلكَ اللّوازمِ، والّتي لا تصلُ إلى مداها الدِّلاليّ إلّا مّع ريشِ الجّناحِ. وما كانَ أسهلَ أنْ يقولَ (خفقَ الجناحيْنِ) من غيرِ أنْ يتأثّر الوزنُ، ومثلُ ذلكَ قد وردَ في حديثِ الرّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلّمَ: “إذا وقعَ الذُّبابُ في شرابِ أحدِكم فليغمسْهُ ثمَّ لينزعْهُ، فإنَّ في إحدى جناحيْهِ داءٌ والأخرى شِفاءٌ” فأنّثَ الجناحَ. وقال الزّبيديُّ في التّاجِ: ذهبوا بالتّأنيثِ إلى الرّيشةِ.
ثمَّ إنَّ في استعمالِهِ الفعلينِ: (خفقَ) و(خفَّ) منَ التّناسقِ ما لا يَخفى على ناظرٍ. فكيفَ يَخفى على ذي دِرايةٍ، وبعدَ ذلكَ تأخذُ الفاءُ المفسّرةُ الدّاخلةُ على الفعلِ خفَّ، والّتي تُريكَ علاقةَ ما بعدَها بسببٍ ممّا قبلَها، وتأخذُ بيدِكَ لتقولَ لكَ: الطّيرانُ لا يكونُ مع الثّقلِ، ولا بُدَّ لمنْ يُريدُ الطّيرانَ مِنْ أن يخفّفَ حملَهَ، بلْ أن يخِفَّ هوَ ذاتُهُ. ولا بدَّ للطّائرِ إذا أرادَ الطّيرانَ منَ السَّيرِ بسرعةٍ معَ ضربِ جناحيْهِ، فكأنَّ وزنَهُ يخِفُّ بذلكَ فيطيرُ.
وطيرانُهُ فوقَ الأثيرِ وليسَ على علوٍّ مُنخفضٍ، بل هوَ يُواكبُ الأقمارَ. ولعلَّ جملةَ (يُواكبُ) بالمضارعِ بدلًا من الماضي (واكَب) وبهِ معَ الواوِ (وواكبَ) لا يختلُّ الوزنُ، ولا الموسيقى، فتشعرُك بل تصدحُ فتنبّهُك أنَّ تلكَ الالتفاتةَ من الماضي إلى المضارعِ مفادُها أنَّ ذلكَ ليسَ حدثًا ماضيًا بل أحداثٌ مُتجدّدةٌ مُتكرّرةٌ.
فهو شأنُهُ ودأبُهُ أن يواكبَ الأقمارَ، فالبيتُ الأوَّلُ كما ترى كلّهُ جملٌ فعليّةٌ؛ لتُناسبَ الحركةَ والتّجدّدَ. وقد حشدَ فيه أربعَ جملٍ فعليّةٍ، لكنَّها جاءتْ منسجمةً غيرَ مُستثقلةٍ، ولا ممجوجةً أو مملّةً.
وَمَضَى بِآفَاقِ الْفَضَاءِ مُحَلِّقًا يَتَلَمَّسُ الأَخْبَارَ وَالأَسْرَارَا
ويستمرُّ في وصفِ إقلاعِ أميرِهِ بجملةٍ فعليّةٍ أيضًا فعلُها لازمٌ ماضٍ. وقد تقولُ ما بالُك تمتدحُ المضارعَ في جُملةِ (يُواكبُ) وها نحنُ نراهُ يعودُ إلى الماضي (ومضى) ونجيبُكَ بأنَّ الفعلَ (مضى) عالةٌ على ما بعدَه، فهو جاءَ مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا باسمِ الفاعلِ (مُحلّقًا) الّذي عدَّهُ بعضُ العلماءِ فعلًا مضارعا، وخاصّةً إذا جاءَ مُنوّنًا. ثمَّ ثنّى بالمضارع (يتلمّسُ) فكأنّها سببُ مُضيّهِ أن يبقى مُحلّقًا لوظيفةٍ مُستمرّةٍ هي (تلمّسُ) الأخبارِ والأسرارِ وهي كثيرةٌ. وإن كانَ وزنُها (أفعال) من أوزانِ جموعِ القِلّةِ معَ الإشارةِ إلى أنَّ أحدًا من العلماءِ لم يجزِمْ بقطعيَّة دِلالةِ القِلَّةِ في معظمِ جموعِها.
ثمَّ إنّكَ ترى جمالَ الاستعارةِ الّتي ساقَها الشّاعرُ (يتلمّسُ الأخبارَ) فكأنَّ هذا الطّائرَ غدا شخصًا واعيًا ذا فهمِ حاذقٍ يتغيّا تقصّي الحقائقِ والأخبارِ إلى حدِّ الالتصاقِ بها ولمسِها ومعاينتِها.
وفي هذا البيتِ من روعةِ المدودِ وسحرِ الألفاتِ الثّمانيةِ وخاصة في كلمةِ (أسرارا) حيثُ اجتمعتْ راءانِ وألفانِ، والرّاءُ حرفٌ يفيدُ التّكرارَ، والألفُ تفيدُ الإطلاقَ والاستغراقَ، وذلكَ كلُّهُ يبعثُ على التّأمّلِ والانسياقِ بما في دِلالةِ (النّونِ) منَ الطّواعيّةِ، وراءَ هذا الأميرِ، والمُسارعةِ إلى التّحليقِ معهُ في محاولةٍ لمعرفةِ عوالمِ أسرارِه والوقوفِ منهُ على الأفكارِ، فكأنَّهُ قمرٌ صِناعيٌّ وأنتَ محطّةٌ فضائيَّةٌ تستقي صورَك وأخبارَك من ذلكَ المُحلّقِ في عالمِ الفضاءِ. ولعلّكَ استشعرتَ تلكَ الموسيقى المنبعثةَ من تكرارِ الألفاتِ السّبعةِ في البيتينِ الأوّلِ والثّاني، واحتلالَها فيهِ أماكنَ الارتياحِ، ومواطنَ الانبعاثِ المُتجدّد، ثمّ لكَ أن تتعجّب من كونِها سبعةً كعددِ الأنغامِ السبّعةِ: ” دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي”.
كالنّجمِ مَوْطِنُهُ الصَّدَارَةُ في الْعُلَى أَوْ كَالكَوَاكِبِ رِفْعَةً وَفَخَارَا
وفي البيتِ الثّالثِ يصدّرُه بتشبيهِ موصوفِه بالنّجمِ، وقبلَ أن تُنكرَ واقعيَّةَ هذا التّشبيهِ بقولِك: ما علاقةُ طائرٍ بالنّجمِ.. يستشعرُ الشّاعرُ الغرابةَ في ذلكَ عامّةً؛ فيُسارعُ إلى إبرازِ المُشابهةِ وحصرِها في تصدّرِ المواطنِ العاليةِ، فتهدأُ نفسُكَ، وتُقرُّهُ في ما ذهب إليه.
فإن كانتْ مكانةُ النَّجمِ ارتفاعًا تُضعفُ قدرتَنا على مُعاينتِهِ، فيقولُ لكَ: هذهِ الكواكبُ نراها ونعرفُها بأسمائِها، ونشبّهُ بها وجوهَ الحِسانِ جمالًا. لكنَّ المُشابهةَ عندَهُ همُّها الرِّفعةُ والفخارُ المُتأتيةُ من علوِّ المكانِ ورِفعةِ المَنزِلةِ. والتَّشبيهانِ في البيتِ مُكتملا العناصرَ حَسَبَ ما يقرّرُهُ دارسو البلاغةِ اليومَ، فأميرُ الشَّاعرِ هو المُشبَّهُ والنَّجمُ والكواكبُ هُما المشبَّهُ بهِ ووجهُ الشَّبَهِ في الشَّطرِ الأوّلِ الصَّدارَةُ والعُلا، وفي الثّاني الفَخارُ والرَّوعةُ، وهُما لازمانِ من لوازمِ العلوِّ والرِّفعةِ، وأداةُ التَّشبيهِ تتصدّرُ البيتَ لِتحملَكَ على الاستعدادِ لِتلقّي التّشبيهينِ، وتفطِنُ لمكانتِهما ودورِهما في رسمِ صورةِ الجارحِ الموصوفِ.
وإنْ نفرتَ منْ تعدّدِ المُشبّهِ بهِ الثّاني (الكواكبُ) معَ أنَّ المُشبَّهَ واحدٌ ، فإنّنا نلفتُ عنايتَكَ إلى أنَّ المُشبَّهَ، وإنْ كانَ بصيغةِ المُفردِ، لكنَّ المقصودَ هوَ النَّوعُ (الصّقورُ أو العقبانُ). ثمّ إنّ في توالي التّشبيهاتِ في هذا البيتِ (كالنّجم.. كالكواكب..) ما يُؤسّسُ لمُوسيقى لطيفةٍ تنجذبُ إليها الحواسُّ وتتفاعلُ، معها فتنفسحُ أمامَها ألوانٌ من الدّلالاتِ.
فَإِذا عَلا رَكِبَ الرِّيَاحَ مَطِيَّةً وَإِذَا دَنَا تَخِذَ الشَّوامِخَ دَارَا
وفي البيتِ الرّابعِ يعودُ بكَ الشَّاعرُ ليوقفَكَ على تعدّدِ أحوالِ موصوفِهِ، ويردُّ على سؤالٍ قد يُراودُكَ إذا قلتَ: إنّنا نُلاحظُ في الواقعِ هذهِ الجوارحَ تعتريها أحوالٌ من قربٍ وابتعادٍ. فيؤكّدُ لكَ صحّةَ ما ذهبتَ إليهِ، ويذكّرُكَ بأنَّ القمرَ وصِفتُهُ الأساسيَّةُ أنّهُ منَ الكواكبِ السَّيَّارةِ يقتربُ منّا؛ فيكونُ بدرًا واضحًا، يملأُ عيونَنا روعةً ونفوسَنا بهجةً، فكذلكَ موصوفُهُ في حالِ العلوِّ والابتعادِ لا بدَّ لهُ في حركتِهِ من وسيلةٍ يتوسّلُها فيركبُ الرّيِاحَ، وفي هذا الرّكوبِ الّذي يُداني ركوبَ الإنسانِ مطاياهُ ما يزيدُ البيتَ سِحرًا وروعةً. ذلكَ أنَّ المطايا حالَ ركوبِها، تبدو مُسخرةً للإنسانِ، لا طاقةَ لها في مُخالفةِ رغبتِهِ ووجهتِهِ. فهكذا الرّياحُ تبدو وكأنَّها مطيّةٌ تنساقُ طوعًا لحركةِ الطّائرِ حيثما ولّى وجهتَهَ، وهكذا ترى أنَّ الاستعارةَ هنا ذاتُ وقعٍ حركيٍّ ينضحُ بالقوّةِ والحيويّةِ.
وإذا دنا منَّا فيبقى بعيدًا مُختارًا رؤوسَ الشّوامخِ الشّاهقاتِ ترصدُهُ أعينُنا وآلاتُ تصويرِ الباحثينَ المهتمّينَ في أيّامِنا. ولا تنسَ أن تلتفتَ إلى الفعلِ تَخِذَ، وما جرى فيهِ من حذفٍ؛ ليتناسبَ مع سرعةِ التّناولِ، فكأنَّ الشّوامخَ مُلكُ يمينِهِ، وطوعُ مخالبِهِ. ولعلّك تُحسُّ، وأنت تتقفّى نغمةَ هذا البيتِ وإيقاعَه، الانسياب الموسيقيّ الهائلَ الذي تولّدَ من تَكرار اسمِ الشّرط (إذا) في كلا الشّطريْنِ، حيثُ ساهمَ هذا التّكرارُ المُحبّب، والمصحوبُ بالتّوازنِ الإيقاعيِّ بين المصراعيْنِ في إضفاءِ جرسٍ لطيفٍ حفَّز القارئَ على التّفاعلِ مع دلالةِ البيتِ.
كَالسَّهْمِ يَسْتَبِقُ الغَزَالَ إِذَا عَدَا وَإِذَا مَضَى فِي الْجَوِّ لَيْسَ يُجَارَى
وفي البيتِ الخامسِ يصوّرُهُ بتشبيهٍ واحدٍ رائعٍ يُبيّنُ فيهِ طريقةَ تحصيلِ رزقِهِ، وحالَهُ فيها، ومرّةً أخرى يُصدّرُ أداةَ التّشبيهِ (الكاف) وكأنَّهُ يقولُ لكَ: جهَّز آلةَ التّصويرِ أو أطلقِ العنانَ لمُخيّلتِكَ، فهوَ سهمٌ يُسابقُ الغزالَ، والمُتسابقانِ غالبًا يكونُ هدفُهما واحدًا، لكنْ في هذا السّباقِ فالأمرُ مُختلفٌ. فهدفُ الغزالِ النَّجاةُ، أمّا جارحُ الشّاعرِ فهدفُهُ مُغايرٌ تمامًا.. وروعةُ التّشبيهِ صورةٌ متعدّدةُ العناصرِ والظِّلال. فالفعلُ يستبقُ يحملُ دِلالةً واضحةً على وجودِ عُنصرينِ مُتشاركينِ في السِّباقِ، لكنَّهما مُختلفانِ في الهدفِ منه كما تقدمَ. تمامًا كحالِ سيّدِنا يوسفَ وزُليخَةَ {واستبقا البابَ، وقدّتْ قميصَهُ من دُبرٍ} سورة يوسف 25\12.
ويشيرُ إلى استمرارِ السّباقِ وتجدّدِه، فهناكَ الكثيرُ من الغُزلانِ والجوارحِ، وإن اختلفتْ عناصرُ المسارحِ. ويحملُ هذا البيتُ من عناصرِ الإثارةِ النّاتجةِ عن تعدّدِ الصُّورِ، واختلافِ مناطِ الاهتمامِ، فالمشبّهُ وهوَ الجارحُ، والمشبّهُ بهِ وهو السّهمُ، وهما طرفا التّشبيهِ لكنَّ مُخرجَ هذهِ (اللّقطةِ السّينمائيةِ) يخدعُنا ويسلُّ السّهمَ منَ المشهدِ؛ لنركّزَ اهتمامَنا على حالتين معًا. الأوّلى: الغزالُ وهوَ يعدو، ثمَّ ينقلُنا ببراعةٍ إلى مشهدٍ جديدٍ للجارحِ يمضي في الجوِّ وحيدًا منتصرًا . فالسّباقُ انتهى، وحُسمتِ النّتيجةُ. فغرضُ التّشبيهِ جاءَ مُتعدّدَ الصُّورِ في خدمةِ وصفِ الجارحِ. إنَّ الصّورةَ الأُحاديَّةَ تقتصرُ على غرضِ الشّاعرِ في بيانِ الغرضِ من تشبيههِ. ويبقى أن أوجِّهَ عنايتَك إلى دورِ (إذا) الظّرفيّةِ الزّمانيّةِ الاستقباليّةِ في وضعِك لتتخيّلَ المشهدَ مِرارًا وتكرارًا، وأنّ ذلكَ واقعٌ لا مَحالةَ. وهذا المشهدُ المُتخيَّلُ اقترنَ بجرسٍ مُوسيقيٍّ أثاره تكرارُ (إذا) في كلا الشّطرينِ.
إن جَاعَ، يوما فالطُّيورُ طَعَامُهُ وَإِذَا تَكَرَّمَ يُطْعِمُ الأَطْيَارَا
أمّا في البيتِ السّادسِ فكأنّهُ جاءَ ردًّا على سؤالينِ استيضاحيّينِ، وفيهِ شيءٌ من الإنكارِ. فالشَّاعرُ تخيّلَ أنّكَ تقولُ: يا حضرةَ الشّاعرِ أيعيشُ أميرُكَ وحيدًا؟ بل أينَ مُجتمعُ الطّيورِ الّذي هو أحدُ عناصرِه، فيأتيكَ الجوابُ: إن جَاعَ، يوما فالطُّيورُ طَعَامُهُ وَإِذَا تَكَرَّمَ يُطْعِمُ الأَطْيَارَا
فالأصلُ في هذا الجارحِ الموصوفِ أن يبقى في حالةِ شبعٍ، فالغُزلان والزّواحفُ.. كثيرةٌ. وقليلًا جدًّا ما يجوعُ، لكنّهُ (إن) جاعَ، ولا يَخفى عليكَ أنّ (إن) الشّرطيّةَ يتساوى في عبارتِها أمرانِ: إمكانيةُ وقوعِ الحدثِ، وإمكانيةُ غيابِه.
فهو حالُ كونِهِ جائعًا يقتاتُ من عناصرِ مجتمعِ الطّيرِ. لكنَّهُ غالبًا يتكرَّمُ ويُطعمُها، ولكَ أن تُقارنَ بينَ حالتيْهِ مُهتديًا بدلالةِ كلٍّ منْ (إنْ) و (إذا) حيثُ تشيرُ الأخيرةُ إلى حتميّةِ وقوعِ الحدثِ. إذ لا يتصارعُ في سياقِها أمرانِ بلْ أمرٌ واحدٌ حاصلٌ حتمًا مستقبلًا. وعليكَ أنْ تتلمّسَ دلالةَ المضارعينِ (تكرّمَ) و(يُطعمُ) بعدَ (إذا) وصيغةِ (تفعّلَ) الّتي تُفيدُ المُبالغةَ.
وقدْ كانَ بإمكانِهِ من غيرِ خَللٍ بالوزنِ الشّعريِّ أنْ يقولَ (أطعمَ) بدلًا منْ (يُطعمُ)، فتأمّلِ الفارقَ بينهما مُستحضرًا دِلالةَ المضارعِ على التّجدّدِ والاستمرارِ. ولا تنسَ أنْ تضعَ في كفتيْ ميزانِكَ النَّقديِّ: (جاعَ) المجرَدُ اللّازمُ (فَعَلَ)، في مقابلِ (تكرّمَ) المزيدُ المُتعدّي والمُضعّفِ(تفعّلَ). ولا يفوتُكَ في هذا البيتِ أن تقارنَ أيضًا بين (طيور) في الشّطرِ الأوّلِ و(أطيار) في الشّطرِ الثّاني، وأن تستجليَ دورَ كلٍّ منهما في السّياقِ. فهو عندما يأكلُ يكونُ مُكثرًا لذلكَ استخدمَ صيغةَ (فعول)، وعندما يُكرمُ ويُطعمُ يأتي بصيغةِ (أفعال)، وهذا ينسجمٌ معَ طبعِ هذهِ الجوارحِ. ولو كانَ موضوعُ الوصفِ إنسانًا لكانَ خللًا. وهذا حُكمٌ قديمٌ ضاربٌ في تاريخِ النّقدِ عندَ العربِ حيثُ استُعملتِ الصّيغُ والأوزانُ (سيوف وأسياف) و(جَفنات وجِفان) في المفاضلةِ بينَ الشّاعرِ حسّان بن ثابت والخنساء رضيَ اللهُ عنهما.
ويزيدُ البيتُ قوّةً في المعنى هذه الاستعارةُ الّتي جعلتِ الطّائرَ يتماهى في صفاتِهِ معَ خصالِ الإنسانِ الرّفيعةِ، فالتّكرّمُ من الصّفاتِ المُثلى الّتي يتطلّعُ إليها الإنسانُ، ويشرئبُ بعنقِهِ لحيازتِها؛ لأنّها من مقوّماتِ الشّرفِ الأصيلِ والخُلقِ الرّفيعِ. وقد أضفى الشَّاعرُ على الطّائرِ هذهِ الخصلةَ ليوحيَ بأصالةِ الطّائرِ وتطبّعِهِ في بيئةٍ تُعلي من قيمِ العَونةِ والإشفاقِ والفزعةِ.
وَالزَّاحِفَاتُ إِذا لَمَحْنَ خَيَالَهُ وهمًا تَرَاهَا خِيْفَةً تَتَوَارَى
وفي هذا البيتِ استمرارٌ لبيانِ حالِ هذا النَّوعِ منَ الجوارحِ، وبيانِ علاقتِهِ ببعضِ عناصرِ بيئتِهِ ومنها الزّواحفُ. وقد لجأتُ إلى مشاهدةِ أفلامٍ لصراعٍ بينَ عُقابٍ وأفعًى ضخمةٍ سامّةٍ (كوبرا)، وأستطيعُ الآن فهمَ سلوكِ تلكَ الزَّواحفِ وعلاقتِها بهذا الجارحِ.
وقد صوّرَ حالَها في هذا البيتِ في جُملٍ خبريّةٍ بأسلوبِ الشّرطِ معَ (إذا)، ومن معاني الجذرِ (لَ مَ حَ) نظرَ بسرعةِ البرقِ، وما اللّمحةُ إلّا الّنظرةُ العَجلى. فهذهِ الزّواحفُ تتوارى خوفًا ليس إذا لمحتْ خيالَ عدوِّها، بل إذا توهّمتْ خيالَهُ. فأدّتِ المُفرداتُ: الفعلُ (لَمَحَ) المُسندُ إلى (ن) أي الزّاحفاتِ. و(خيالهُ) المُضافُ إلى الموصوفِ،(خيفةً) و(تتوارى) معانيَ تُفصحُ عن مكنونِ الحالةِ النّفسيَّةِ لتلكَ الزَّواحفِ. واللّمَّاحُ الحقيقيُّ هوَ الصَّقرُ كما وردَ في المعاجمِ، وكذلكَ صيغةُ (تتوارى) (تتفاعلُ)، وما توحي بهِ من مُشاركةٍ واجتماعٍ لتُناسبَ الجمعَ (الزّاحفاتُ) فكأنَّ الشّاعرَ هُنا يستعملُ آلةَ تصويرٍ تصوُّرُ الجسدَ الظّاهرَ والنَّفسَ المُستترةَ الّتي لا يَفضحُ سرَّها إلّا سلوكُها.
ولا يخفى ما أدّتْهُ الكِنايةُ في هذا البيتِ (لمحنَ خيالَهُ) منْ رشاقةٍ في تقريبِ المعنى، وتمثّلِ الصّورةِ حيّةً واضحةً. فضلًا عن دورِها في رسمِ حالةِ التّرقّبِ والحذرِ لدوابِّ الأرضِ، وإشاعتِها أجواءَ الرّهبةِ والخوفِ من هذا الطّائرِ. وما يُضفي هيبةً وجمالًا إلى هذا البيتِ أحرفُ المدِّ التي تكرّرت في سبعِ كلماتٍ منه، وبالأخصّ مدّ الألفِ، حيثُ ساهمَ في إطلاقِ المُخيّلة ورصّعَه بموسيقى نابِضةٍ لا تعرفُ التّوقّف.
هُوَ لا يَرَى تَحْتَ السَّمَاءِ طَرِيدَةً إِلاَّ تَرَاهُ كَالزُّؤَامِ أَغَارَا
يَنْقَضُّ دَوْمًا كَالْمُحَارِبِ واثقًا فَوْقَ الْمُطَهَّمِ لا يُثِيرُ غُبَارَا
وفي البيتينِ الثّامنِ والتَّاسعِ ويجبُ أن نتلقاهُما معًا، وندرسُهما في السّياقِ العامِّ كغيرِهما. لكنَّهما أشدُّ اتّصالًا وأعمقُ تداخلًا فهما معًا يستكملانِ الفيلمَ الوثائقيَّ المكتوبَ الغنيَّ بالمشاهداتِ الّتي تصوّرُ العلاقةَ بينَ الجارحِ الموصوفِ، وأعدائِهِ الطّبيعيّينَ منْ زواحفَ وثعالبَ وطيورٍ.. فقد عبَّرَ عنها بـــــ (طريدةٍ) وحيثُ كانتْ، وأينما سارتْ فالسَّماءُ تُظلُّها وهيَ ليسَ بوسعِها إلّا أن تكونَ تحتَها.
وقد أبدعَ الشّاعرُ في توظيفِ مفردةِ (طريدة) ضمنَ هذا السّياقِ، وهوَ ما يُعبّرُ عنهُ في علمِ البلاغةِ بــــ(المجاز المرسل) الّذي علاقتُه اعتبارُ ما سيكونُ. وكأنَّ الشّاعرَ يريدُ أن يبثَّ في وعيِنا حقيقةَ أنّ كلَّ ما دخلَ نطاقَ الرّؤيةِ عندَ هذا الطّائرِ؛ صارَ بمثابةِ هدفٍ مُحتّمٍ، أيًّا كانَ نوعُ الحيوانِ الطّريدِ أو شكلُهُ أو حجمُه،ُ ما يجعلُكَ تشعرُ بالقوّةِ الجموحِ الّتي يمتازُ بها هذا الطّائرً.
والشّاعر وهوّ (اللّمّاحُ) استعملَ (يرى) ليُدلّلَ على قُدرتِهِ؛ فكأنَّ عينيَّ الصّقرِ رادارًا مُتطوّرًا تَظهرُ على (شاشتِه) بوضوحٍ صورةُ عدوِّهِ فيغيرُ عليهِ. ولكنَّ شكلَ الغارةِ يحتلُّ حيّزًا من اهتمامِ الشّاعرِ فشبّهها بال (زؤامِ) وما الزّؤامُ إلّا الموتُ العاجلُ.
والغريبُ أنَّهُ شبّهَ الصّقرَ بالموتِ السّريعِ (الزّؤام) وكانّ المُتوّقعُ أنْ يشبّهَهُ بشيءٍ ماديٍّ محسوسٍ لهُ صورةٌ في أذهانِنا. ولكنّهُ لجأَ إلى مُشبّهٍ بهِ (الزّؤامِ) وتركَ لكَ أنْ تتصوّرَ كيفَ تكونُ غارةُ الموتِ الخاطفِ. وثنّى بعدَ هذا التّشبيهِ الرّائعِ بآخرَ لا يقلُّ جاذبيةً وتأثيرًا؛ فجاءَ بالمُحاربِ مُشبّهًا بهِ ووصفَهُ بالواثقِ حيثُ لا يكونُ المُحاربُ مُحاربًا إلّا إذا وثقَ بقدراته وقواهُ.
ثمَّ حملَ على الْمُطَهّمِ (وهوَ الكاملُ منْ كلِّ شيءٍ والمُتناهي الحُسنِ معَ ضَخامةٍ) وكأنَّهُ انتبهَ إلى فارقٍ بينَ هجومِ المُحاربِ على الحِصانَ، وهجومِ الصَّقرِ. فالأوّلُ على الأرضِ ولا بدَّ لقوائِمِهِ من إثارةِ الغُبارِ فأسرعَ قائِلًا: ولكنَّ موصوفي هجومُهُ لا يُثيرُ غُبارًا.
ولكَ أنْ تتأمّلَ في هذهِ الكِنايةِ الرّائعةِ (لا يُثير غُبارا) فهيَ تخرجُ عن نطاقِ الحقيقةِ الّتي تتبادرُ إلى ذهنِكَ إلى معانٍ أُخرى حاكَها المقامُ، ذلكَ أنّ عدمَ إثارتِهِ الغبارَ لا تقفُ عندَ بيانِ خطفتِهِ العَجلى عموديًّا، ولكنَّها ترسمُ مشهدًا عميقًا أبعدَ من ذلكَ، فهيَ تُوحي بخفّةِ الطّائرِ، وانسيابيّتِهِ، ومطواعيّةِ جسدِهِ الرّشيقِ لما يُصوبُ عليهِ من أهدافٍ محققّةٍ. فما أروعَ هذا الاستثناءَ الضُّمنيَّ لصِفاتِ ممدوحِهِ!
مَا حَطَّ فِي كَنَفِ الأعالي رَحْلَهُ إِلاَّ وَرَاحَ يُجَدِّدُ الأَسْفَارَا
وخلصَ في آخرِ بيوتِهِ العشرِ إلى المطارِ الّذي أقلعَ منهُ في البيتِ الأوّلِ (خفَّ وطارا) وفي البيتِ الأخيرِ (حطَّ في كنفِ الأعالي) لكنَّ مطارَهُ صخورٌ ناتئةٌ في الأعالي، لا مدارجَ فيها، ولا أوقاتٌ للإقلاعِ والهبوطِ. فهوَ على هواهُ وكما يشتهي، متى شاءَ هبطَ، ومتى أرادَ أقلعَ مُجدّدًا أسفارَهُ ورحلتَهُ.
وهُنا، لا بدَّ أنْ تقفَ على كنايتينِ لطيفتينِ رشيقتينِ، (حطّ رحلَهُ) و (يجدّدُ الأسفارَ) . ففي الأولى إيحاءٌ بالإقامةِ والمكوثِ، وفي الثّانيةِ إشارةٌ إلى تأهّبِهِ وتهيئِهِ للصَّيدِ؛ كلّما لاحَ لهُ سبيلٌ إلى ذلكَ. وفي هاتينِ الكنايتيْنِ نلمحُ تقابلًا ظريفًا أضفى على الصّورةِ حركيَّةً واقعيّةً.
وبعدَ هذهِ الجولةِ البلاغيَةِ، أرجو أن أكونَ قد أمتعتُكَ، وأن تكونَ قد سُعدتَ بصُحبتي في هذا المنحى لتدريسِ البلاغةِ. وأهمسُ في أذنِكَ أنَّهُ كانَ سهلًا عليّ أن أسلخَ الأبياتَ الّتي فيها صُورٌ بيانيّةٌ، وما أكثرَها في هذهِ القصيدةِ! وأنظّمُها في مثلِ هذا الجدولِ:
المشبُّهُ المشبّهُ بهِ أداةُ التّشبيهِ وجهُ الشَّبهِ نوعُ التّشبيهِ
الصّقرُ النّجمُ الكافُ التّصدّرُ في العُلا المُرْسِلْ
المستعارُ منهُ المستعارُ له اللّفظ المستعارُ القرينةُ نوعُ الاستعارةِ
الإنسانُ الصّقرُ تكرّمَ تكرّمَ يُطعمُ الأطيار تصريحيّةٌ
لكنْ باللهِ عليكَ قلْ لي: هل يوقفُكَ هذا الجدولُ على أسرارِ التَّشبيهِ، وهل يهزُّ فيكَ شيئًا؟ فاخترِ الآنَ الأسلوبَ الّذي يُرضيك!
الأستاذ الدّكتورالشّيخ إبراهيم جمعة العزنكي
زر الذهاب إلى الأعلى