غيبوبة/قصة قصيرة/ بقلم القاصّة هند يوسف خضر
غيبوبة
عهد الصبا ولى بسرعة البرق ،وجوه سقطت على أشواك الحياة و قد سال دمها من فرط الألم ،وطأة الساعات الثقيلة أحنت ظهر المنتظرين عمراً لمرورها ..
ماجدة طالبة في السنة الأخيرة بكلية الحقوق ، رسمت في مخيلتها شكل حياتها المستقبلية ،لم تكن تدري أنه سيأتي يوم وتغرق في بحار من القهر ،كل أمانيها تبخرت على عتبات زواجها التقليدي الذي اختارته مجبرة بعد أن ذاقت لوعة الغوص في بحار الفراق ،دونت مذكراتها في دفتر خاص بها ،سجلت فيه عن صدفة جمعتها بذاك الشاب المدعو (وسيم ) الذي كان يدرس في كلية الهندسة وهو على أبواب تخرج أيضاً ،التقت به ذات صباح عندما أعلنت إدارة جامعة تشرين في اللاذقية عن ضرورة حضور الطلاب من جميع الأقسام ندوة حول مرض السرطان في كلية الطب ،ذهبت ماجدة وبينما كانت تستعد للدخول إلى الكلية سمعت صرخة قوية ،التفتت وراءها فوجدت فتاةً تعرضت لحادث سيارة أبرحتها أرضاً ،تقدم باتجاه الفتاة شاب بأقصى سرعته و قام بطلب سيارة الإسعاف ،وقفت ماجدة قربه وقالت له سأسعف الفتاة معك إلى المشفى ،ترافقا في سيارة الإسعاف ،وهناك نشأت بينهما قصة حب ، أصبحا يتقابلان في حديقة الجامعة ،أحبته بكل جوارحها بعد أن رأت اندفاعه لحظة وقوع الحادث ،كتب لها أشياء خزنتها في صندوق ذاكرتها ،عرفت معه ذاك الإحساس الذي يعتري المرء فينحه لذة يقتات عليها ،عاهدها على الارتباط بها بعد التخرج ،انتظرته كما تنتظر الأزهار قدوم الربيع لتخرج بأزهى الألوان وأرقى العطور، اتكأت على زند وعده حتى جاءت اللحظة التي قسمت ظهرها إلى نصفين وعلمت بمحض الصدفة أنه سافر إلى بلد آخر ،نعم سافر بدون حتى كلمة وداع غير آبه بعينين ستبكيان دماً بدل الدمع …
أضحت لفترة من الزمن كورقة ميتة ، عاشت على تساؤل لماذا تركتني ؟ما الذنب الذي اقترفته لتفعل بي ما فعلت ؟سبحت في محيطات من الأسئلة دون أجوبة ،تقدم لخطبتها ابن عمها فوافقت قسراً وهي تعلم أن حياتها ستكون أشبه بالجحيم ،حاولت بعد الزواج التكيف معه والتأقلم مع ظرفها ولكن كان هناك فوارق كثيرة بينهما أولها أنه غير متعلم ،ثانياً كان يحاول فرض سيطرته عليها دون أخذ رأيها بعين الاعتبار ،في الليل والنهار يتواجد في مقهى مجاورة يشرب الخمر ويعود ثملاً -هكذا أضحت أيامها-
ولكن لحسن حظها لم تنجب منه ..
مرت سنة على زواجها وهي تغرق في متاهات لا مدى لها دون رحمة ،خطر وسيم ببالها ،أمسكت بدفتر المذكرات ،ضمته إلى صدرها ،قبّلته و كعادتها راودها نفس السؤال :لماذا خذلتني ؟
مسحت دموعها و قررت الذهاب إلى السوق لشراء بعض الأغراض ،بينما كانت تسير شاردة الذهن ،تائهة في مكان ليس لها فيه ناقة ولا جمل ،لمحت شخصاً من بعيد ، با إلهي هل يعقل أنه وسيم؟ (حدثت نفسها) ولكن على ما يبدو أن شكله تغير كثيراً لذلك لم تتأكد حتى أصبحا وجهاً لوجه ، استغربت حالته و تبدل مظهره انهمرت دمعتها و قالت :
وسيم لا أصدق ،لماذا خذلتني ؟بالله عليك أجبني و خذ من عمري ما شئت
وسيم : لم أخذلك ولا لحظة ولم أفكر بذلك أبداً
ماجدة : والذي فعلته ما هي تسميته في قاموس العشاق؟
أجهش بالبكاء كطفل صغير وقال :صدقيني لم تتألمي أكثر مني ،سافرت بلا وداع وفضلت أن تعيشي على قيد الخذلان على أن تعيشي قهراً لا نهاية له عندما أخبرك السبب
ماجدة : وما السبب الذي يدفعك للسفر بهذه الطريقة ؟
وسيم : لقد أصابني مرض السرطان و قرر أهلي سفري لأتلقى العلاج في دولة أجنبية ،عدت الآن لأني شفيت تماماً لأرتبط بك
ماجدة تضع يدها اليمنى على فمها ،تتساقط الدموع بلا توقف ،لا لا أصدق -رباه- ما كل هذا الألم الذي خبأته لي
يتابع وسيم كلامه : طلبت من أهلي عدم إخبارك ،يسقط نظره قليلاً إلى الأسفل ،يلمح في يدها اليسرى خاتم الزواج ،يرفع نظره باكياً : مبارك زواجك ،هل أنت سعيدة؟
تسقط ماجدة أرضاً وتدخل في حالة غيبوبة لا مدة لها .