أدب وفن

جميل الدويهي: العابدون لأنفسهم

جميل الدويهي: العابدون لأنفسهم


(من المجموعة الفكريّة السادسة “أفكار خارجَ العُزلة” – تصدر عام 2022 من مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي – سيدني)


اجتمع ثلاثة من ناكري وجود الله في خمّ للدجاج، وتناقشوا في أمر الوجود، فقال أحدهم، وهو شاعر: لا أصدّق أنّ الله موجود، لأنّني لا أؤمن إلاّ بما أراه، فالرياح في نظري غير موجودة لأنّها لا تمْثل أمام بصري… فلا يقنعْني أحد بأنّ العالم قد وُجد بسبب. إنّه كان قبل الدهور ومن غير خالق. ولو كان مَن يسمّونه الخالق هو الذي خلقني لكان عطف عليّ ولم تكن لي عاهة. فقد كنت أصطاد السمك بالديناميت، فانفجر في يدي، وصرت على هذه الحال، أكتب بيد واحدة… ولو تعلّمتُ العروض لكتبتُ أجمل الشعر. ورغم ذلك فأنا كبير الشعراء على الأرض، فإذا أراد البشر أن يكون لهم إله حقيقيّ، فليعبدوني… فليس أحقّ منّي في أن تكون له معابد، وأن تصير كتبي التي ملأت الدنيا كتباً مقدّسة، يتعلّم منها الناس ويصدّقون ما جاء فيها.
قال الرجل الثاني، وهو فنّان: أنا مثلك تماماً لم أعرف الله ولن أعرفه. فمنذ صغري خالفت قومي في دِينهم، وخرجت على شرائعهم، واعتبرت نفسي أكثر فهماً. وطالما تصوّرت أنّ رضوخي لفكرة معيّنة هو استسلام وضعف. ولهذا تراني كثير الجدال، ودائم الشكّ والريبة… أحاجج في كلّ شيء حتّى ولو كنت غير مقتنع بفكرتي، فلو قال أحدهم إنّ السماء زرقاء، لجادلته وأردث أن أثبت له خطأ رؤيته. ولو وقف عالم أمامي وقال إنّ المياه لا تصعد إلى الجبال، لناقشته، وقارعته، حتّى أصبح عنادي مثلاً في الأمم. وهذه الثقة بالنفس هي التي جعلتني أعتقد أنّ لا حاجة إلى مبدع للزمان والمكان، فأنا المبدع الأكبر، وأعبد ذاتي، ولا أرى شيئاً أهمّ منها. وأقول لكما الصحيح: لقد جعلت لنفسي مزاراً أشعِل فيه البخور وأضيء الشموع، وأعملت قبضتي في الحقائق الموروثة والتقاليد التي جاء بها الأوّلون. ولولا نبوغي لما كان الحقّ والخير والجمال، وهي الأقانيم الثلاثة للكون.
قال الثالث، وهو بحّار متقاعد، له عين واحدة: أعذراني يا صديقيّ النبيلين، فإلهي لا يشبه إلهكم. هو ولد من البحر والأمواج العاتية، كنفسي التي اعتادت على المخاطرة… إله الناس اقتلع واحدة من عينيّ، وإلهي أبقى على الثانية. ولولاه لما كنت أراكما، وأفرح بالحديث إليكما، في هذا الخمّ الذي يضاهي أعظم القصور هيبة وجلالاً … نعم يا رفيقيّ، إنّ عندي إلهين يتصارعان في داخلي، واحداً جاء من مدن بعيدة، ومن كتب غابرة، أنتقم منه في كلّ حين، وواحداً آخر هو أنا، تعبت عليه ودرّبته وجعلته يتعشّق المغامرة. فما أجمله إلهاً لا يخاف من شيء! وما حاجتي إلى الله الذي أشعر أنّه غريب عنّي؟ وما شأني به؟ أيكون هو مَن علّمني أن أحطّم المسافة، وأفتح للجزر، وأحمل من كهوف الأسطورة صناديق الذهب والعقيق؟ لست أذكر أنّه أمسكني من يدي مرّة، أو قدّم لي نصيحة تفيدني. ويوم غرق مركبي في المحيط الهادر، وتحطّمت ساقِي، كنت إلى الموت أقرب، فهل هو الذي أنقذني؟ لا… فقد أنقذت نفسي بنفسي… وعثرت بعد جهد ومعاناة على لوح خشبيّ، تشبّثت به حتّى وصلت إلى الشاطئ.
لم ينتبه الرجال الثلاثة إلى أنّ دجاجة كانت واقفة على رفّ خشبيّ يغطّيه الريش، وكانت تصغي إلى حديثهم وتتعجّب من غرورهم وكبريائهم، فنفضت جناحيها في الخمّ، ونقنقت لكي تلفت اهتمامهم، ثمّ نظرت إليهم نظرة حائرة، وقالت: اسمحوا لي أيّها الحكماء الثلاثة بأن أسألكم سؤالاً يتعلّق بي، وبمصيري… لقد صرفتُ عمري أفكّر فيه، فلا فلسفة أجابتني، ولا عِلم روى غليلي إلى المعرفة.
تعجّب الرجال من تلك الدجاجة الجسورة، وقال أحدهم: ماذا تريدين يا أخت الغباء؟
قالت: بالله عليكم… ما دام لكلّّ واحد منكم إله في ذاته، فاخبروني، هل خلق إلهكم البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة؟
حكّ آلهة أنفسهم رؤوسهم، وأعياهم الجواب… ونظر كلّ واحد إلى الآخر نظرة تعبّر عن الخيبة والفشل… كان الإله الذي فيهم عاجزاً عن الفهم لما هو أبسط الأمور في نظر الله الحقيقيّ.
جامعة سيدة اللويزة ١٥ شباط ٢٠١٢


د. جميل الدويهي: “مشروع أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى