مَوْقِعٌ لثَّقافةِ المُواطَنَةِ في التَّجرُبَةِ اللُّبنانِيَّةِ
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني)
لَئِن كانت الثَّقافةُ، انْطِلاقاً مِنَ المَفْهومِ اللغويِّ لِلجَذْرِ(ث ق ف)، وَبِتَتَبُّعٍ للدَّلالاتِ العمَلِيَّةِ لهذا المفهومِ، تُفِيدُ، في ما تُفِيدُهُ، الإعدادَ الفَرْدِيَّ، كَما الجَمْعِيَّ، للتَّمَكُّنِ مِنَ التَّعاملِ النَّاجِحِ مَع أُمورِ الحَياةِ وقَضاياها؛ فَقَدْ يكونُ في الرَّأيِ القائلِ بِأنَّ تَحقيقَ المَصْلَحَةِ، فَرْدِيَّةً كانَت أَمْ جَمْعِيَّةً، هُوَ الرَّكيزةُ الأساسُ للثَّقافةِ.
إنَّ الثَّقافةَ،عَبْرهذا الفَهْمِ، وَسِيلةٌ مِن وَسائلِ تأمينِ مَصلحةٍ مُحَدَّدةٍ مِن دونِ سِواها؛ ولِذا، فَلَيْسَتِ الثَّقافةُ، ههُنا، وُجوداً مِتافِيزِيقِيَّاً غَيْبِيٍّاً أو هَجْسَاً تَرَفِيَّاً على الإطلاقِ؛ بَلْ هيَ وُجودٌ عَمَلِيٌّ أساسٌ لِتحقيقِ مَصْلَحَةٍ بِذاتِها، أو تَوَجُّهٍ مُعَيَّنٍ مِنَ العَيْشِ. يغدو مِن المطلوبِ، ومن بابِ تحصيلِ الحاصلِ، في هذهِ الحال، أنْ يُنْظَرَ إلى أنَّ ثمَّةِ ارتِباطاً بِنائيَّاً عضوِيَّاً للثَّقافةِ بالمَصْلَحَةِ التي تَنْبَثِقُ مِنها وتَسعى، تالياً، إلى تَحقيقها.
يَسعى كُلُّ لبنانيٍّ إلى تحقيقِ عَيْشِهِ في بَلَدِهِ، وفاقاً لِما يُحَدِّدهُ لذاتِهِ مِنْ مصلحةٍ أو هَدَفٍ، عَبْرَ هذا العَيْشِ. وإذا كانَ، تأمينُ العيشِ الكريمِ وتَحصيلُ الرِّزقِ الوَفِيرِ وإِحْرازُ التَّقدُّمِ في الأعمالِوتأمينُ المُسْتَقْبَلِ الزَّاهرِ للذَاتِ كما للأجْيالِ، مِنْ بَديهيَّات تَعيينِ “المَصْلَحَةِ” (الهَدَف)؛ فإنَّ الثَّقافةَ التي تَنْبَثِقُ مِنْ هذا التَّعيينِ للمَصلَحَةِ، لِتكونَ الوَسيلةَ السَّاعيةَ إلى تحقيقِها، ترتبطُ، حتماً، بِوَعْيِ صاحبِ، أو أصحابِ، هذهِ المصلحةِ، ومفاهِيمهِم وما يتشكَّلُ مِن هذهِ المفاهيمِ، وذلكَ الوَعْيِ، مِن قِيَمٍ ليست، في واقعِ الحالِ، سوى الرَّكائزَ الأساسَ للثَّقافةِ التي سيعمَلونَ عليها ومِن خِلالها.
وَعى اللبنانيُّون، على مُختلفِ انتمائاتِهِم وتَعَدُّدِ توجُّهاتِهِم، وعَبْرَ ما يُعْرَفُ بمَحطَّاتِ تاريخِهم “الوسيطِ” و”المُعاصِرِ” و”الحديثِ”، أنَّهم يُكَوِّنونَ، في ما بينهم، مجموعاتٍ مِنَ النَّاسِ، مُتَعدِّدةِ الأديانِ ومتنوِّعَةِ المَذاهِبِ؛ كما أدركوا أنَّ بَعْضاً مِنْهُم يختلِفون، في المَشارِبِ الفِكْرِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ عنْ بعضِهِم الآخَرِ؛ فضلاً عن أن لِكِلِّ مجموعةٍ منهُم، اعتقاداتٌ بانمِيازاتٍ حضارِيَّةٍ تَخْتَصُّ بها مِن دونِ سِواها؛ بَيْدَ أنَّهم، رغم كلِّ هذا، يتشاركونَ العَيْشَ على بُقْعَةِ أَرْضٍ، رائِعَةِ الغِنى الجمالِيِّ، اسمُها لُبنان. لَمْ يَكُن، في واقِعِ الحالِ، بَيْنَ هذه الجماعاتِ، عَبْرَ المراحِلِ والمحطَّاتِ التَّاريخيَّةِ التي تلاقى فيها بَعضُها مع بَعْضِها الآخَرِ، وجُودٌ واضِحٌ أو موضوعِيٌّ مُتَّفَقٌ عليهِ، لِلْمَفْهومِ المؤسَّساتي للدَّولةِ. لذا، فإنَّ الأمرَ اقْتَصَرَ، عندَهُم، على العيشِ، باستِغلالِ كلِّ مجموعةٍ لما يُمكِنُها مِن هذهِ البقعَةِ مِن الأرضِ.
احتَشَدَت كُلُّ جماعَةٍ، بأفرادِها ولَفيفِها، خَلْفَ ما ارتأوا فيهِ إِسْتِطَاعَةً،أو بَأْساً أو تَمَكُّنَاً أو سُلْطَةً أو مقدرةً، على تَحقيقِ المصلحةِ التي يَرتَئِيها كُلٌّ مِنْهُم. بَرَزَ، ضمنَ هذا الوَعْي للمَصلحةِ، وبِغيابِ أيِّ وجودٍ مؤسَّسِيٍّ عَمَلِيٍّ وعِلْمِيٍّ لِما هو دولة، منهجُ الرُّكُونِ إلى ثقافاتٍ تَتَناسَبُ مع طبيعِةِ المَصْلَحَةِ المُعْتَمَدَةِ، مِن جهةٍ، ومع مجالاتِ تحقيقِها، مِن جهةٍ أخرى. نتَحَ عن هذا، تَعْوِيلٌ على الثَّقافةِ الدّيِنيةِ، كما كان تَوَكُّلٌ في مرَّات أخرى، على ثقافةِ الانتسابِ إلى الزَّعيم، أو الجُغرافيا، أو الرُّكون إلى الأصلِ التَّاريخِيِّ، الذي قد يَجمعُ بعضَ النَّاسِ مع بعضِهِم الآخر. وكانَ، كذلِكَ، لُجؤٌ إلى ثقافةِ التَّحفيزِ الماليِّ، بِاعتماد الرِّشى، أو إلى التَّزَّلُّفِ الشَّخْصِّي، بالتَّمَلُّقِ والاتِّباعِ، أو إلى التَّقرُّب عَبْرَ التَّشَفُّعِ العائِلِيِّ، وسوى هذا كثير. ورغمَ ما في هذا جميعُهُ، مِن تنوُّعٍ وتعدُّدٍ ومجالاتٍ واسعةٍ للاختِيار؛ فإنَّ الثقَّافَةَ الوطنِيَّةَ، لم تَكُنْ لِتَجِدَ، بين هؤلاء القومِ، من يصبوا إليها أو يسعى إلى تطبيقٍ عَمَلِيٍّ لها.
تُثْبِّتُ نظرةٌ موضوعِيَّةٌ، إلى التَّاريخِ المجتَمَعِي في لبنان، أنَّ كثيراً مِن الثَّقافاتِ وَجَدَت، لمفاهيمِها وقِيَمِها وأدواتِها وأنصارِها، مَطْرَحاً رَحْباً في هذا المجتمعِ؛ وتمكَّنت، تالياً، مِن إثباتِ وجودٍ فاعلٍ لها، وتَرْكِ بَصْمَةٍ لها أو أكثر، تَشهدُ لفاعليَّتها في تحقيقِ المصالِح التي اعتمدَها ناسُها لتحقيقها. بَرَزَتِ الثَّقافةُ الدِّينيَّةُ، في هذا المجال، في تعاظمٍ قَلَّ أن نافَسَتها عَلَيهِ ثقافةٌ أخرى؛ كما انْجَلَت ثقافةُ الاستزلامِ للزَّعِيمِ الفردِ، في استحكامٍ فَذٍّ على جماهيرِ هذا المجتمعِ، بما يكادُ يتجاوزُ بمراحلَ مُعَيَّنَة، ثقافةَ الاستزلامِ للزَّعيمِ المَجمُوعةِ، مُتَمَثَّلاً بِحِزبٍ أو نقابةٍ أو أيِّ تكتُّلٍ جماعِيٍّ. أمَّا ما هُوَ مِن بابِ الثَّقافةِ القائمةِ على مبدأ الحقِّ في المُواطَنَةِ، مِنْ دونِ ما اتِّكاء على الهُوِيَّةِ الدِّينيَّةِ أم المذهبِيَّةِ، أو تلك المناطِقِيَّةِ أو المرتبطةِ بزعيمٍ ما أو حِزبٍ أو جماعةٍ، أو المستندةِ إلى قدرةٍ مالِيَّةٍ أو نفوذٍ مُحَدَّدٍ،، فَلَقَد ظَلَّ يُعاني كثيراً مِنَ إِخْتِلاطٍ في وَعْيِهِ، وتَزايُداً فيالإِشْتِبَاهِ في مَفْهومِهِ، واللَّمَامَ العَمَلِيَّ الفاعِلَ مِن جلاءِ أصولِهِ وإيضاحِ أساسِيَّةِ فاعِيلِيَّتِهِ في ثَباتِ كيانِيَّةِ الوَطَنِ وتَعزيزِ حَقيقةِ وجودِهِ. لقد حَضَرَت ثقافاتٌ عديدةٌ كثيرةٌ، وغابَتَ ثقافَةُ المُواطَنَةُ؛ وما هذا، إلاَّ لِحُضورِ مسالكِ تحقيقِ الأهدافِ الآنِيَّةِ، باسْتِغلالِ القوى الظَّرْفِيَّة، تعزيزاً للمصالحِ الخاصَّةِ، وتحصيلاً للمكاسِبِ الشَّخصِيَّةِ، فردِيَّةً كانت أَمْ جَمْعِيَّةِ محصورَةً بناسِ لها.
تَرْتَكِزُ عًمَلانِيَّةُ ثَقافَةُ المُواطَنَة، إلى اجتماعِ أهلِ الوَطَنِ، رغمَ ما قد يكونُ بينَهَم مِن انْمِيازاتٍ دِينيًّةٍ أومذهبيَّةٍ أو مناطِقِيَّةٍ أو عقدِيَّةٍ، على أنَّهم مُواطِنونَ مُتساوونَ في حقِّ كُلٍّ مِنهُم في الوَطَنِ.
إنَّ عدم بروزِ ثقافةٍ المُواطَنَةِ، في هذا المجالِ في لبنان، يُمْكِنُ أن يكونَ قد تَحَصَّلَ، ههُنا، جَرَّاءَ تَوَجُّهين أساسين، أوَّلُهُما، اقتناعُ القَوْمِ الاكتفاءَ بالحصولِ على ما كانَ يَتَيَسَّرُ لهم تحقيقهُ مِن المصالحِ أو الأهداف؛ وثانِيهُا، وَهُوَ الأكثر أهميَّةً وفاعِلِيَّةً، أنَّ الجِهاتَ التي شكَّلَت، فيما بينها، المَرْجَعِيَّةَ الخاصَّةَ بكلِّ ثقافةٍ، دينيةٍ أو مذهبِيَّةِ أو زعاميَّةٍ أو استزلامِيَّةٍ، أو سِوى ذلك، ما لَبِثَت أنْ تَآلَفت فيما بينها، مُكَوِّنَةً شَبَكَةً؛ أَمْسَكَت، عَبْرَها، بمقاليدِ السُّلْطَةِ في الدَّولة. وهكذا، تمكَّنت هذهِ الشَّبكةُ مِن استْغلالِ غِيابَ الوَعيِّ العَميقِ، بطبيعةِ وجودِ الدَّولةِ وإمكانِيَّاتِ خِدْمَتِها لمبدأ المواطَنَةِ، لدى غالِبيَّةِ هؤلاء اللبنانيين، من جهةٍ، كما أنَّها أفادَت مِن انْتِفاءِ تجارَبَ عَيْشٍ قد خَبِرهَها جمهورُ الشَّعْبِ، في ما قيلَ لهُ أنَّهُ دولةَ، خارِجَ نِطاقِ الخُضوعِ للأقوى، والانسِحاقِ أمام شَطَطِ الحاكِمِ، أو الموتِ استشهاداً، عندَ أعتابِ إِسْتِبْدَادِه وتَعِسُّفِ حاشِيَتِهِ؛ فاستغلَّت الشَّبَكَةُ كلَّ هذا في تأمين هيمنةٍ مطلقةٍ لها على السُّلطةِ في الدَّولةِ، وفي جَعْلِ نِظامِ الدَّولةِ إبناً صامِدَ البقاءِ في أبدِيَّةِ وفاءٍ لمصالِحها وتثبيت وجودِها؛ بِقَمْعٍ واسِعِ المُناوَرَةِ ومَتِينٍ القُوَّةِ، لِكُلِّ ما قدْ يُعِقُ تآلفها، أو يَكْسُر مِنْ شَوْكَةِ تأمينِ ما تَبْغِيهِ مِنْ مصالِح، على حِسابِ كُلِّ ما هُوَ مُواطَنَةٌ أو ثقافةٌ وَطنِيَّةٌ حقَّة. وثمَّةَ مَنْ يَرى، مؤكِّداً، أنَّ هذهِ الشَّبَكَةَ المُمْسِكَةَ بالسُّلطةِ في لُبنان، وخاصَّةً مُنذُ إعلانِ البَلَدِ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً، قد أصبَحَت وكأنَّها هيَ الوَطَنُ؛ بلْ إنَّ كلَّ ما في الوَطَنِ، مِن ناسٍ ووجودٍ وخيراتٍ وتاريخٍ وآتٍ مِنَ الزَمَنٍ، لا يمكن أنْ ترى فِيهِم سِوى أدواتٍ خاضعةٍ لها وخادمةٍ لأهدافها.
أدَّى الحضورُ الشَّكلِيِّ لِثقافَةِ المواطَنَةِ، عبر توجُّهات رسميَّة احتفاليَّة في معظمِها، غالِباً؛ ومِن خِلالِ تَجَمُّعاتٍ جماهيريَّةٍ مُوَجَّهةٍ، من قِبَلِ أجهزةٍ رسمِيَّةٍ، في كثيرٍ من الأحيانِ؛ أو بنشاطاتٍ إعلامِيَّةٍ، تسعى إلى استرضاءِ نفوذٍ رسميٍّ ما؛ إلى تَغييبٍ فِعْلِيٍّ لِجَوْهَرِ ما هُو ثقافة مُوطَنَةٍ، وللإيجابِيَّةِ الأساسِ المُتَوخَّاةِ مِن عناصِرِ وجودِها واُسُسِ فاعِلِيَّتِها، وكلِّ ما فيها من دعمٍ للرَّؤيةِ الوطنيَّةِ المُشْتَرَكَةِ بين اللُّبنانيين، وجميعِ ما يُساهِمُ في تعزيزِ وحدتِهِم الوطنيَّةِ وقِيامِ المَنْطِقِ الوَطَنِيِّ الجامِعِ بَيْنَهُم.
لَعَلَّهُ مِنَ البَدِيهيَّاتِ أنَّ ما مِن استيعابٍ لأمرٍ ما، أو مَسْعىً لِلحُكْمُ على هذا الأمرِ، مِنْ دونِ ما اعتمادٍ على مَنْطِقٍ، يُبْنى على أساسِ مفاهيمِهِ وقِيَمِهِ، هذا الحُكْمُ أو ذلكَ الاستيعاب. تتعاظمُ أهميَّةُ المنطقِ، وتحديداً مسؤوليَّتُهُ، ههنا، إذا ما كانَ الأمرُ المُرادُ استيعابَهُ أو الحُكْمَ عليهِ، لا يرتبطُ بفردٍ، قَدْرَ ارتباطِهِ بِجماعةٍ؛ إذ يصبِحُ المنطقُ، ضمن هذا المُستوى الجَمْعِيِّ، أداةً أساساً في تَعيينِ الرُّؤيةِ الجَمْعِيَّةِ لِلقَوْمِ، وتَحديدِ مساراتِهم التَّفاعُلِيَّةِ، من جهةٍ، ومع ذاتهم الجَمْعِيَّةِ، مِن جهةٍ أخرى. من هنا، يمكنُ القولَ إنَّ الاتِّفاقَ على مَنْطِقٍ واضِحِ المعالِمِ ومَفْهومِ التَّوجُّهاتِ، يُقَدِّمُ أحدَ المُرتكزاتِ الأساسِ للتَّلاقي الوَطَنيِّ بينَ ناسِ الوَطَنِ، مِنْ ناحيةٍ، كما يؤمِّنُ العامِلَ المُوَجِّهَ في سبيلِ توحيدِ مساعي الرُّؤيةِ والعمل الوَطنيِّين، مِن النَّاحيةِ الأُخرى.
بَدأت، مُنذُ أكثر مِن سنَتَيْنِ مِنَ اليَوْمِ، مَظاهِرٌ تُسَيْطِرُ على الأوضاعِ المالِيَّةِ والاقتصادِيَّة والسِّياسيَّةِ العامَّةِ في لُبنان، لامَراءَ على الإطلاقِ، في حِدَّتِها وإيلامِها وَفَجاجَتِها ووقاحِتِها، وكذلكَ في صَلَفِ القائمينَ وجَشَعِهِم. لَمْ يَكُن بِمقدورِ أيِّ مُواطِنٍ، أنْ يَتجاهلَ وجودَ هذه المظاهِرِ، وألاَّ يَعترِفِ بِمساوئِها على الصَّعيدِ العامِّ، وأنْ لا يَتأذَّى، بِطريقةٍ أو أخرى، من حصولِها على الصَّعيدِ الشَّخصي. كانَ مِنَ الطَّبيعيِّ أنْ يَضُجَّ المُواطِنونَ، جرَّاءَ ما يُعايِنُوهُ ويعانُونَ، في آنٍ واحدٍ، مِن هذهِ الأحوالِ، مِن تَخْرِيبٍ مُتنامٍ يَطالُ كثيراً مِن سُبُلِ عَيْشِهِم، وتَدْمِيرٍ وَخِيمٍ يُهَدِّدِ كثيراً مِن مقوِّماتِ وجودِهِم، ومَصائبَ مُتلاحِقَةٍ تُرْهِقُ بأرزائِها أيَّامَهُم المقبلةِ وتُنْذِرُ بأشدِّ السُّوءِ يُحيطُ بِمُستَقْبَلِ فَلذاتِ أكبادِهم.
طالَ الوَجَعُ الوطنيُّ جماهيرَ الشَّعبِ في لبنان؛ أيَّاً كانت مناطقُ انتسابِهِم الجغرافيِّ، وبأيِّ دينِ آمنوا، وعلى أيِّ مذهبٍ في هذا الدِّين رسَّخوا إيمانَهم. تجاوزت مَساويءُ ما هُم فيهِ من معاناةٍ، جميعَ حدودِ الجغرافيَّا المناطِقيَّةِ، التي كان بعضهم يعتبرُها حصناً يلوذُ بهِ؛ كما أمعنَ هذا الوجَعُ في تمادي إيلامِهِ، عُمُومَ ما كانَ يتحصَّنُ بهِ كثيرٌ مِن المواطنينَ من الأديانِ السَّماوِيَّةِ، وما سبقَ وانبثقَ، مِنْ ناسِ هذهِ الأديان، مِن مذاهبَ ومعتقدات. أصبحَ اللُّبنانيُّون، في مواجهةٍ صارِخَةٍ فاضِحةٍ مع الأذى الوَطَنِيِّ العامِّ. تَلْفَحُ هذه المواحهةُ كَيانَهُم بِنيرانِ فجيعةِ ضَياعِ أيِّ يقينٍ يتعلَّقُ، على سبيلِ المِثالِ ولَيْسَ الحَصْرِ، بِودائِعَ جنى أعمارِهِم لدى المَصارِفِ، وتَنْهَمرُ عليهم مُلِمَّاتُ ما صاروا يُعانُونَ مآسِيهِ مِنَ النَّقْصِ المُرْعِبِ في القِيمَةِ الشِّرائِيَّةِ لِعملتِهِم الوَطنِيَّةِ، وما ما فَتِئوا يَنُوؤنَ بِحَمْلِهِ مِن تَعَثُّرٍ مُزْرٍ يَطالُ أعمالَهُم ويَغتالُ طُموحاتَهِم ويُقْعدَهُم عاجزينَ أَمامَ حقائقَ واقِعِهِم، صاغِرين لِما يَتهدَّدهُم مِن إذلالٍ وتوالي الخرابِ الذي يُحيقُ بِكُلِّ ما لَدَيْهِم.
كانَ لجحافِلِ الشَّعبِ أنْ تتَجمَعَ، في هذهِ المرحلةِ، غاضبةً ثائرةً، في السَّاحاتِ العامَّةِ، من مُدُنِ لُبنان؛ وكانَ ناسُ هذهِ الجحافِلِ يَصرخونَ أوجاعَهُم، نِداءاتٍ تُعلِنُ سَحْبَ ثِقَتِهُم مِمَّن تولّوا أمورَهم؛ مطالبةً بالتَّحقيقِ مع كلِّ مسؤولٍ، ومناديةً بضرورةِ محاكمةِ كلِّ مَن يَثْبُتُ عليهِ خيانة المسؤوليَّةِ أو سوء التَّصرُّفِ بها أو التَّقصيرِ في حَمْلِ أمانتها. تنامَتْ هذهِ التجمُّعاتُ، وازدادَ عُنْفُ نداءتِ ناسِها؛ وظنَّ كثيرون أنَّ ثورةً شعبيَّةً كُبرى، تنطَلِقُ، رأياً وطُموحاً وقَوْلاً وفِعلاً، من مفهومِ المُواطَنَةِ وقِيَمِها، على وشكِ الانبلاجِ بينَ اللبنانيين.
بدا وكأنَّ هذه المناداة الجماهيريَّةَ المُشتَرَكَةِ، بينَ كثيرٍ من الجماعاتِ وكثيرٍ من الأمكِنَةِ، تُوحي وكأنَّ هؤلاءِ باتوا يُدْرِكونَ أنَّهم يَتشارَكون، فِعلاً وحقَّاً، فيما بينهُم، بأنَّهُم مواطنونَ في بلدٍ، يَخْسَرونَ فيهِ، أمامَ الشَّبكَةِ المُتَحَكِّمَةِ بأمورِهِ، كُلَّ ما سبقَ أن حدَّدته كُلُّ مجموعةِ، أو ارتآهُ كلُّ فردٍ، مِنْ مصلحةٍ أو هدفٍ.تهاوى، أمامَ هذهِ الجماهيرِ، عمومَ ما كانَ يَنْمازُ بِهِ بعضُهُم عن بَعضِهِم الآخرِ؛ أكان هذا انميازاً دِينِيَّاً أو مذهبِيَّاً أو مَناطِقِيَّاً، أو كان التزاماً بمجموعةٍ معيَّنةٍ، أو انْضِواءً تحتَ لواءِ مُتَزَعِّمٍ ما، أو الاحتماءِ بِجاهٍ مُعَيَّنٍ أو ثروةٍ ذاتِ إبهارٍ.
ورَغْمَ ما كانَ يحصلُ، مِنْ صَدٍّ وَحْشِيٍّ يَهِبُّ لهُ أَهْلِ الشَّبَكة المُمْسِكة بالسُّلْطَةِ؛ يُرافِقُهُ كثيرٌ مِن بَهْلوانِيَّاتِ التَّمصُّلِ الذَّكي مِن المسؤوليَّاتِ، ورَمْيُ التُّهَمِ مِن فريقٍ إلى آخَر؛ ويلحقُ بهِ إمعانٌ صَفيقٌ شَائِنٌ،بل مُعَرْبِدٌ ومُبْتَذَلٌ، بادِّعاءِ كثيرٍ مِن ساداتِ الشَّبَكةِ المُمْسِكَةِ بالسُّلطةِ، والمتمسِّكَةِ بها في الآنِ عَيْنِهِ، بأنَّهم ما فَتِئوا ساهِرِينَ على مَصْلَحَةِ جماهيرِ الشَّعبِ، وما بَرحوا عامِلِينَ على حِفْظِ حُقوقِ هذا الشَّعبِ؛ فإنَّ أيَّ مَظْهَرٍ، ولوْ وَهْمِيٍّ لِنَأمينِ مَصْلَحَةٍ عَمَلِيَّةِ للشَّعبِ قد حصَلَ.
خَرَجَ الشَّأنُ اللُّبنانِيُّ، بِرُمَّتِهِ، عن المساحَةِ الوَطَنِيَّةِ على أرضِ لبنان لهُ. صار هذا الشَّانُ، وبِكُلِّ فجائِعِيَّةٍ وطَنِيَّةٍ ماحِقَةٍ، شَأناً دَوْلِيَّاً بامْتِيازٍ؛ وقد أَمْسَكَتْ بأَزِمَّتِهِ رؤىً دَوْلِيَّةً مُتطاحِنَةً فيما بَينها حولَ مصالحٍ لها في لبنانَ وعند ناسِهِ، وكأنَّ اللُّبنانيين أنفُسَهُم، ما لهم أيُّ قرارٍ فيهِ. رأى اللبنانيون، بأمِّ عينِ كلِّ واحدٍ منهم، وبهذا الانتهاكِ الصَّارِخِ لوجودِهِم الوطنيِّ، وبالخرابِ الماحِقِ لثرواتِهِم، أنَّ جميعَ ما مارسوه من ثقافاتٍ، لتأمينِ مصالِحِهِم، وتحقيقِ أهدافهم، بقادرٍ على أنْ يفيدَهُم بأيِّ فاعلِيَّةٍ وطنِيَّةٍ لاستعادةِ خساراتِهِم المُتتالِيَةِ والمتوالِدَةِ والمتنامِيَةِ مِن هذا الحال.
يغلبُ على الفِكرِ، ههُنا، أنَّ الغالِبيَّةَ مِن هذهِ الجماهير، بدأت بحثاً جِدِيَّاً لذواتِها عن ثقافةٍ تعتمدها لتحقيقِ ما ترتئيهِ مِن مَصلحةٍ أو هدفِ لها. سَرى بينَ هؤلاءِ كلامٌ كثيرٌ عن ضرورةِ قِيامِ حَرَكَةٍ وَطَنِيَّةٍ مُوَحَّدةٍ في مفاهيمها وأهدافِها ومُشترَكَةٌ في مَعاييرِها، تَثورُ على جَميعِ ما يَعيشونَ مِنْ أوضاعٍ ويعانونَ مِن وَيْلاتٍ. ضَجَّ كثيرونَ بنداءاتٍ تَشَدْوا بدعواتِ اعتمادِ ثقافَةِ المُواطَنَةِ الجامِعَةِ؛ فهتفَ كثيرونَ مؤيَّدينَ ومُساندين. اشتدَّ قمعُ الشَّبَكة المُمْسِكة بالسُّلْطَةِ، تَعاظَم دهاءُ دَهاقينِها؛ سَقطَ بَعضُ الجماهيرِ شهيداً، وترنَّحَ بعضٌ آخرَ منهم جريحاً أو فاقداً لِعَيْنٍ أو طَرَفٍ. عَمَّ هَرْجٌ ومَرْجٌ. قامَ طاعِنونَ في السِّن، ومعهم فتيانُ أغرارٌ يسألونَ عن ثقافةِ المُواطَنَةِ، أينَ تكونَ وكيفَ يُمْكِنُ الحصُولُ عليها؛ وكانت مآقيهُم حمراءَ بدمعٍ دامٍ يلهبُ وجناتٍ كلٍّ منهم.
صرخَ شابٌ طَلْعَةٌ، لا أرى الثَّقافةَ الوطنِيَّةَ سوى في التَّمسُّكِ بالدِّينِ والعودةِ إلى اصولهِ؛ وهتفت عجوزٌ طاعِنَةٌ، ما جَرَّبْتُهُ مِن عَطْفِ الزَّعيمِ عليَّ وعلى زَوْجي وأولادي، ونَحْنُ الفُقراءُ الأذِلَّةُ، هوَ الوطَنِيَّةُ وهو مصدرُها وحامِيها. وضَجَّت مَجموعَةٌ مِن الصَّبايا والشَّبابِ مع كهلٍ يتقَدَّمَهم، لَيْسَت الوَطَنِيَّةُ بِغَيرِ قِيادةِ الحِزْبِ الذي نَعْلَمُ، فما سَمِعنا في عُمْرِنا من شِعارٍ للقيادةِ إلاَّ وفيهِ دعوةُ إلى الثَّقافةِ الوطَنِيَّة.
كان بينَ الجماهيرِ الهادِرَةِ إنسانٌ، ظَنَّهُ كثيرونَ، غَريباً أو جاسُوساً، أو ربَّما عَدُوَّاً مُتَخَفِّياً. أدارَ، هذا الإنسانُ، نَظَرَهُ في كُلِّ ناسِ هذا الحَشدِ؛ خاطَبَهُم، قائلاً “عرفْتُمُ الدِّينَ وعاشَرْتُمُ الزَّعيمَ ورافَقْتُمُ الحِزْبَ، وغَيْرَ هذا وذاكَ؛ وبَنَيْتُم، مِنْ ثَمَّ، ثقافاتَكُم على ما وَعَيْتُم مِن هذهِ المَعارِفِ. دَعونِي أسأَلُكُم، هَلْ عَرفْتُم الوَطَنَ، وعِشْتُم جَوْهَرَ الوَطَنِيَّةَ، لِتَبْنوا، على مَاعَرِفَتُم وما عايَشْتُم، ثَقافَةَ المُوطَنَةِ؛ التي مِنْ مفاهِيمِها الأساسِ أنَّكُم مُواطِنونَ، قَبْلَ أنْ تكونوا مُؤمنينَ بالدِّينِ، ومُخْلِصينَ للزَّعيمِ وتابِعين للحِزْبِ؟
قالَ لَهُمْ، بَعْدَ أن عَدِمَ مِن أيٍّ مِنْهُمُ جَواباً جَلِيَّاً، الدِّينُ عِبادَةٌ وسلوكٌ حياتِيٌّ لا يتنافيانِ، على الإطلاقِ، معَ الحقِّ الوطَنِيِّ الذي تَدعو إليهِ المُواطَنَةِ؛ بل إنَّ الدِّينَ يَدْعَمُ هذهِ الدَّعوةَ ويَعْضًدُّ التَّلاقي مع الآخرَ في الوطنِ لِتعزيزها والعَمَلِ على تَحقيقِها. تابَع خِطابَهُ ، كاشِفاً لَهُم أنَّ المَنْطِقَةُ الجُغرافيَّةُ، قد تَكونُ أرضَ ولادةٍ ومَطْرَحَ نَشْأةٍ ومَرْتَعَ شَبابٍ ومُنْتَجَعَ شَيْخوخَةٍ، إنَّها مطرحٌ لمُتَغَيِّراتٍ، وليستْ مُسْتَقرَّاً لِجَوْهَرِ عَيْشِكُم في الوَطنِ؛ هذا العيشُ القائمُ على صَوْنِ الحُرِيَّةِ وتَوفيرِ الرِّزقِ وتأمينِ العَيشِ الكريمِ وكَفَالَةِ الرَّجاء الواعِد بالخَيْرِ في المُقْبِلِ مِن الزَّمنِ. نَظَرَ هذا الإنسانُ، إلى ذُهُولِ بَعْضِهِم، ثمَّ أردفَ مشيراً لَهُم أنَّ الإلتفافَ حَوْلَ زَعِيمٍ أو السَّيرَ في رِكابِ مَجْموعَةٍ أو الاعتزازَ بنفوذِ مالٍ أو سُلْطَةِ جاهٍ، فما يَكونُ، كَذلِكَ، ألاَّ ارتباطاً بِما هو جُزْئِيُّ لا يَسْتَوْعِبُ الكُليَّ، وليسَ بِمَقْدورِهِ تأمينُ استمرارِ هذا الكُلِّيَّ وتعزيزُ وجودِهِ.
إيبدو أنَّ هذا الإنسانَ قد اكْتَسَبَ، من استمرارِ تلك الجماهيرِ الهادِرةِ في صَماِها،ثِقَةً أكبرَ باهتِمامِهِم بِما يقولُ؛ فأردَفَ بثقةٍ سافِرَةٍ، أنَّ كُلَّ هذا الوجودَ، الذي يقومُ بالمُواطَنَةِ، يَمتَلِكُ زَخْمَ أن يكونَ مُتَكاملاً إلى أقصى حَدٍّ مَع سائرِ جُغْرافِيَّةِ الوطنِ ومناطِقِهِ؛ إذ الوَطنُ لا يكونُ فِعلاً إذا لَمْ تَكُن جغرافيَّتُهُ مُترابطةً عضويَّاً فيما بينها، متناغماً بعضها مع بعضِها الآخر، في تَناسُقٍ وجوديٍّ يَرْفُدُ الاجتماعَ والاقتصادَ ويُعَزِّزُ الفاعِلِيَّةَ الوطَنِيَّةَ الأصِيلَةَ القابِلَةَ للاستِمرارِ نُمُوَّاً وانتشاراً وعُمْقَ غنْزِراعٍ مِعطاءٍ في ضَميرِ الوَطَن والانتماءِ إليهِ والشَّراكَةِ بين المُواطنين.
أمسكَ هذا الإنسانُ، أمام تلكَ الجماهيرِ الهادرةِ، بِنُسْخَةٍ من الدُّستورِ اللُّبنانيِّ، وصار يُبَيِّنُ أنَّ بناءَ المُواطنةِ لا يكونُ بينَ ليلةٍ وضُحاها، كما لا يتحقَّقُ نَتيجةَ ردَّةِ فِعلٍ أو تَكَيُّفاً معَ نَزوَةِ مَصْلَحَةٍ آنِيَّةٍ طارِئة. إنَّ المواطنةَ، فاعلِيَّةُ وجودٍ لثقافةٍ وطنِيَّةٍ جامِعَةٍ للمُواطنينً ومُساوِيَةٍ بينهمُ في الحقوق والواجباتِ وتكافوءِ الفُرَصِ. ولذا، فلا مَنْدوحَةَ مِن أن تَصْدُرَ المُواطَنَةُ عن نتاجَ وَعْيٍ وطَنِيٍّ ترعاهُ الدَّولةُ، وفاقاً لِما يَرِدُ في مُقدمةِ الدُّستور اللبناني، وتحديداً في المواد (د) و(ز) و(ح)؛ وقراءةِ المادةِ (ي)، من هذه المقدِّمةِ، من خلالِ مفهومِ المواطنةِ، الذي تؤكِّده تلك المواد.
إنَّ هذه المواد، كما شرحً هذا الإنسانُ لتلكَ الجماهيرِ الهادرةِ، إذْ تُبَيِّنُ أنَّ “الشَّعبَ مصدرُ السُّلطاتِ وصاحبُ السِّيادةِ، فإنَّها تُثَبِتُ أنَّ “الإنماءَ المُتوازِنِ للمناطِقِ ثقافِيَّاً واجتِماعِيَّاً واقتِصادِيَّاً رُكْنٌ أساسِيٌّ مِن أركانِ وحدةِ الدَّولةِ واستِقرارِ النِّظامِ”؛ وتَجْزُمُ، تالياً، أنَّ “إلغاء الطَّائفيَّةِ السِّياسِيَّةِ هدفُ وَطَنِيٌّ أساسيُّ يقتضي العملُ على تحقيقِه وُفْقَ خُطَّةٍ مَرْحَلِيَّةٍ”. وإذا ما أُخِذَ بالحِسْبانِ، أنَّ هذا الجَزمَ بإلغاءِ الطَّائفِيَّةِ السِّياسِيَّةِ، قَدْ ثَبُتَ في التَّعديلِ الدُّستوريِّ للمادَّةِ (95) مِن الدُّستور اللبناني، سنة 1943، وبالقانون الدستوري الصادر سنة 1990؛ ، منذ سنة 1926؛ فقد آن الأوانُ، لِاتِّخاذِ إجراءِ قراءةِ المادَّة (ي) من مقدِّمة الدُّستور “لا شرعِيَّةَ لأيِّ سُلْطَةٍ تُناقِضُ العَيْشَ المُشْتَرَكِ”، ضمن فَهْمِ أنَّ العَيْشَ المُشْتَرَك هذا، هُوَ العَيْشُ بينَ المُواطِنينً، وفاقاً لمواطَنَتِهِم؛ وليسَ عَيْشاً لهُم وفاقاً لاطوائفِهِم.
فَصَّلَ هذا الإنسان، لتلكَ الجماهيرِ، أنَّ لِوَزارتَي الثَّقافةِ والتَّربِيَةِ، بِحُكْمِ اختِصاصِ كلٍّ منهما، فاعِلِيَّةً أساساً في التَّحضيرِ لفاعِلِيَّةِ المواطَنَةِ؛ وثمَّةَ فاعِلِيَّة كُبرى، تُناطُ بنشاطاتِ الإداراتِ الرَسميَّةِ والبلديَّاتِ، لمساعدَةِ المواطِنينَ على عيشٍ المُواطَنَةِ واكتشافِ ما يُمْكِنُ لهم تحقيقُهُ من مصالِحِهِم بِكرامَةٍ وحُرِيَّةٍ.
لَمْ يَسْتَوعِبْ مُعْظَمُ ذلكَ الجَمْعُ الغَفيرُ الهادِرُ، حتَّى اللَّحظَةِ، أنَّ ثمَّةَ مُواطَنَةٌ خارج وحدانِيَّةِ ما هو دِينٌ وما هو زَعيمٌ وما هُو حِزْبِ؛ فانهالوا على هذا الإنسانِ، الذي كانَ بينَ تلكَ الجماهيرِ الهادرَةِ، شَتْماً ثمَّ تَخْوِيناً؛ وكان أنْ أجمعوا، فوراً، على أنَّهُ عميلُ استعمارٍ أو أجيرُ مخابراتٍ غريبةٍ، ويقالُ إنَّ بعضهم، وصل بهِ الانفعالُ الهائجُ، إلى أن رمى هذا الإنسانَ، بالتَّبَعِيَّةِ المُخْزِيَةِ المُضِلَّةِ للعَدُوِّ الصُّهيونيِّ الغاصِب للأرض، والقاتِلِ للأطفالِ، والمُمْتَهِنِ لِحُقوقِ الإنْسان.
كانَ هذا الإنسانُ الواقِفُ بينَ تِلْكَ الجَماهيرِ الهادِرَةِ، يَعتَقِدُ أنَّهُ كانَ يجودُ بآخِرِ أنفاسِه، يصرُخِ في تلكَ الجماهيرِ بأسىً مُسْتَعِرٍّ، لا تَكُونُ ثَقافَةُ المُواطَنَةُ، أوْ تُولَدُ، جَرَّاءَ مِزاجٍ انْفِعالِيٍّ، ولا تُوجَدُ بِناءً على مصلَحَةٍ آنِيَّةٍ لِمجموعَةٍ أو لِفَرْدٍ؛ فما هي، ولا تكونُ، إلاَّ بِوَعْيٍّ وتوافُقٍ جَماعِيٍّ، ولا تَتَحصَّلُ إلاَّ برؤيةٍ موضوعِيَّةٍ ودُرْبَةٍ مُتواصِلَةٍ في مداراتِ العيشِ في الوطَنِ.
ظَنَّ كثيرونَ، وقتئذٍ، أنَ هذا الإنسانَ، الذي كان واقفاً بين الجماهيرِ الهادرةِ، قد لفَظَ آخرَ أنفاسِهِ، بعد أن قالَ ما قالَهُ لتلك الجماهير؛ ويقالُ، كذلكَ، أنَّهُ ما ماتً، بل شُبِّهِ الأمرُ، لِمَنْ ظَنُّوا موتَهُ؛ إذ ما أنفكَّ يبحثُ في طِيبِ جوهرِ الوجودِ الإنسانِيِّ، لِتِلْكَ الجماهيرِ، نابِشاً في وحدةِ تجارُبِهِم في العيشِ، ومُنَقِّباً في جميعِ إمكانِيَّاتِ إدراكِهِم الواعي، وغير المُنْفَعِل، لِيَخُطَّ وإيَّاهُم الثَّقافَةَ الوطنِيَّةَ في لبنان، مفهوماَ وقيمةً ومنهجَ عيشٍ ورؤيةً إلى الدَّولةِ والحُكْمِ والولاء الوطني والإعداد الدَّائم لازدهار الآتي من الزَّمن.