رؤيةٌ إلى التَّعامل مع “الآخَرِ” و”المُخْتَلِفِ” وِفاقاً للمفهوم القرآني [سلسلةٌ تسعى إلى تبيان مناهج من التفاعل الحضاري الإنساني]
الدكتور وجيه فانوس
الحلقة الثانية
(منهج الإسلام في التَّعامل مع الآخر والمختلف)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
تعتمدُ هذه الدِّراسة على النَّص القرآني، بصورة أولى وأساسٍ، في استقراء منهج الإسلام في التَّعاملِ مع الآخر والمختلف؛ وذلك باعتبار أنَّ القرآن الكريم هو المصدر الأوَّل والأساس للإسلام.
لعلَّ في النُّصوص القرآنيَّة، التي تتناول قصة خلق “آدم” والطَّلب مِن “الملائكة” أن يسجدوا له، خير ما يمكن أن يوضح أساسيَّات المنهج القرآني في التَّعامل مع الآخر والمختلف. فمن جهة أولى، تشكِّل هذه الحادثة، من وجهة نظرٍ قرآنيَّة، بدايةَ التَّعرُّف على ما هو آخر ومختلف في الحياة الإنسانيَّة؛ ومن جهة ثانية، فإنَّ في رواية هذه الحادثة ما يُوضِح طبيعة المنهج الذي أرشدت إليه العناية الإلهية للتَّعامل مع هذه الأمور.
واقع الحال، لقد وردت رواية أحداث الخلق هذه، مجتمعة أو متفرِّقة أو متكاملة، في مواقع كثيرة من النَّص القرآني. ولذا، فالمرء يجد هذه الرِّوايات في سور عدَّةٍ من النَّص القرآني، هي “البقرة” و”الأعراف” و”الحُجُر” و”الإسراء” و”الكهف” و”ص”. ولعل جَمْعُ ما وَرَدَ في سورتي “البقرة” وسورة “الحُجر”، يمكن أن يشكِّل تكاملاً ما، يعين على استقراءٍ لمنهج القرآن في التَّعامل مع ما هو “آخر” و”مختلف”.
وَرَدَ في سورة “البقرة” من قول رب العالمين، وهو العليم الخبيرُ، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(34)}. وورد في سورة “الحُجرِ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ(27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(31) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ(41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42)}.
تعرضُ هذه الآيات، من سور القرآن الكريم، وجوداً لِما هو آخر ولما هو مختلف. أمَّا وجود الآخر، فيظهر من خلال خَلْقِ الله، العاطي الوهَّاب، لـ”آدم”، بعد “الملائكة”، وجودا مُتبايناً عن ذوات “الملائكة” نوعاً ونوعيَّة. فـ”آدم”، ووفاقاً لمنطوق النَّص القرآني، مخلوق من صلصال من حمأ مسنون، أمَّا الملائكة، ووفاقاً لمنطوق النَّص القرآني، فمخلوقات من نار السَّموم؛ ولذا، فثمَّة تباينٌ واضحٌ في النَّوعيَّة بين “آدم” و”الملائكة”.
ومن جهة أخرى، فـ”الملائكة” نوعٌ من مخلوقات رب العالمين، ووفاقاً لمنطوق النَّص القرآني، يُسَبِّح بحمد الله ويُقَدِّسُ له؛ أمَّا “آدم”، ووفاقاً للنَّص القرآني، فنوعٌ آخر، يقوم بأمور لعلَّها شديدة الاختلاف عن ما تقوم به الملائكة، إذ يُفْسِدُ في الأرضِ ويسفك الدِّماء. ومع كلِّ هذا الوجود للآخر، المُتبايِن عن الذَّات، بين “الملائكة” و”آدم”، فإنَّ الله، جلَّ جلالهُ، أمر “الملائكة” الاعتراف بهذه الآخريَّة بينهم وبين “آدم”؛ وأوضح، في الآية 30 من سورة “البقرة” {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}؛ مِمَّا يَعني أنَّ منطلق هذا الاعتراف يقع في عِلْمِهِ تعالى، ولا يَقَعُ في عِلْمِ “الملائكة”.
من هنا، يمكن القول إنَّ المنهج القرآني لا يُقِرُّ بوجود الآخر وحسب، بل يَحُضُّ على الاعتراف بهذا الآخر واحترامه؛ وما هذا إلاَّ لِعِلْمٍ أو حِكْمَةٍ لا يَسَعُهُما إلاَّ كُرسِيُّ الله، سبحانهُ وتعالى. ولعلَّ من أسباب، أمر الله لمخلوقاته، الاعتراف بالآخَرِيَّة، فيما بينهم، ما ورد في الآية 56 من سورة “الذَّارِيات” { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}؛ فالأمرُ يتعلَّق، تالياً، بما يُمكن أن يؤلِّف تنافساً طيِّباً بينَ مخلوقات الله لعبادةِ اللهِ الذي لا إلهَ إلاَ هُو؛ كُلٌ بالأسلوبِ أو بالطَّريقةِ التي قدَّرها له رب العالمين؛ والأمر، استنتاجاً، تنافسٌ باتِّجاه الهدف الواحد، عبر طُرُقٍ متنوِّعة ومتعدِّدة.
أمَّا موقف “إبليس”، مِن خَلْقِ “آدم”، وما صاحَبَ هذا الموقف من احتجاجٍ وإصرارٍ على عدمِ الاعترافِ بآخَرِيَّةِ “آدم”؛ والطَّلب، مِن ثَمَّ، إعطاء “إبليس” حقَّ الحصول على الفرصة الكافية لإثباتِ وجهةِ نظرهِ في “آدم”، كما جاء في سورة “الحُجُر” إذ {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ(41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42)}؛ فخيرُ دليلٍ على تأكيد الإسلامِ، عبر المنهج القرآني، على حقِّ الآخر في إثبات وُجهةِ نَظَرِهِ في آخَرِيَّتِهِ، وفي إثبات وجهة نظرهِ من هذه الآخَرِيَّة، حتَّى ولو كانت وجهة النَّظرِ هذه غيرَ قادرةٍ على تحقيق ذاتِها أو النَّجاحِ في إثبات صِدقيَّتِها؛ فما هذا، تالياً، إلاَّ من بابِ منحِ الحقِّ، حتَّى آقصى ما في هذا المَنْحِ من إمكانيَّاتٍ واحتمالاتٍ؛ حفاظاً على مبدأ الحقِّ في الحصولِ على الحقِّ في إثبات وُجْهَةِ النَّظَرِ الخاصَّة.
والخلاصة التي يمكن اعتمادُها في هذا المجال تظهر من خلال النِّقاط التالية:
o يحضُّ المنهج الإسلامي، عبر النَّص القرآني، على احترام وجودِ كلٍّ مِنَ الآخرِ والمُختلفِ، على حدٍّ سواء.
o تقوم الغاية من وجود الآخر والمختلف على أمرين، أحدهما يقع في عِلم الله، وثانيهما إثبات لجوانب الاختلاف أسلوباً في التَّنافس بين خلق الله على عبادته.
وإلى اللقاء مع الحلقة الثالثة (فاعليَّة الآخرِيَّة والاختلاف).