منتديات

“الحلقة الخامسة والأخيرة” من: [رؤيةٌ إلى التَّعامل مع “الآخَرِ” و”المُخْتَلِفِ” وِفاقاً للمفهوم القرآني]

الدكتور وجيه فانوس



<سلسلةٌ تسعى إلى تبيان مناهج من التفاعل الحضاري الإنساني في النَّصِّ القرآني>

(تحديَّات القرن الحادي والعشرين في مجالات الآخَرِيَّة والاختلاف)


بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

يمكن القول إنَّ السَّنوات المقبلة من القرن الحادي والعشرين، تُشَكِّل واحدة من أهم مراحل الإيقاع المتسارع في حياة الوجود الإنساني؛ لا على المستوى المحليِّ أو الإقليميِّ وحسب، بل على المستوى العالميّ. من الواضح، بسبب من تسارُع التَّقدُّم المعرفيّ والعلميّ واضطراد تقدُّم وسائل الاتِّصال ووسائطه وتغيُّر كثيرٍ من المفاهيم والقيم في مجالات كثيرة ومتنوِّعة، أن الإنسانيَّة ستنتقل، عبر هذه السَّنوات المقبلة من القرن، من حال إلى أخرى، ولسوف يزداد إيقاع العصر ويتسارع إلى درجة ربما لم تشهد مثلها الحقب الغابرة على الإطلاق. ولذا، فإن نزعة الآخريَّة والاختلاف سوف تكبر وتتعاظم، بل لعلها ستكون التَّحدي الأكبر الذي على الإنسانيَّة أن تُحسِن التَّعامل معه والتَّفاعل البناء من خلاله خدمة لوجودها، وتجاوباً منها مع معطيات العصر وطبيعة تَسَارُعِ الأحداث، فضلاً عن منطق المرحلة.

ثمَّة لغة جديدة تنتظر العيش الإنساني بصورة عامَّة، وثمَّة حاجة ماسَّة إلى الانفتاح على الآخر والمختلف والتَّفاعل معهما؛ لكن ثمَّة ضرورة صارخة لعدم فقدان النَّاس، أفراداً أو جماعات، لخصوصياتهم وذاتيَّاتهم، ففقدان مثل هذه الأمور أو السِّمات، يُحَوِّل الوجود الإنساني برُمَّتِهِ إلى نسخ بعضها طبق الأصل عن بعضها الآخر؛ وقد يقود مثل هذا إلى إلغاء إنسانيَّة الإنسان بتشييئه، أسوة بأي منتج تقدِّمه المصانع أو تنفرج عنه أبواب المختبرات. ولمَّا كان قتل الوجود الإنساني مرفوضاً من قِبَلِ الله أساساً ومن قِبَلِ الإنسان نفسه، فلا بدَّ، والحال كذلك، من اعتماد منهج عيشٍ قادر على المحافظة على الذاتيَّة والخصوصيَّة، وقادر في الآن عينه، على الانفتاح الفعلي والعملي والتَّفاعل مع كل ما هو آخر ومختلف.

إن المنهج القرآني في التعامل مع الآخرِيَّة والاختلاف قادر على تأمين كل هذه الأمور، كما هو قادر على تأكيد احترامها وتفعيلها لصالح الإنسانيَّة قاطبة على اختلاف مشارب ناسها وتنوع مذاهبهم، ولصالح ما هو من أمر الحياة الدُّنيا وخيرها العام كما هو لصالح الحياة الأخرى والأمل فيها. ولا بُدَّ من التَّأكيد، ههنا، على أن المنهج القرآني هذا، وإن اعترف بالآخريَّة والاختلاف، فإنَّه لايقبل بجعل احترام الحق في الآخريَّة والاختلاف عِلَّة للاعتداء أو ضرباً من ضروب الهيمنة والاستقواء. المنهج القرآني يُفرِّقُ، وبوضوح كُليٍّ، بين الآخريَّة والاختلاف من جهة، والاعتداء والعداوة من جهة أخرى. ولذا، فمن كان عدوَّاً لا يمكن القبول به، بل لا بدَّ من قتاله لا لأنَّه آخر أو مختلف، بل لأنَّه عدو. وحقيقة العدو، في المنهج القرآني، تكمن في كل من يُنكر على الاخر والمختلف حقَّاً شرعِيَّاً من حقوقه أو شأناً أصيلاً من شؤونه.

إنَّ المنهج القرآني، الذي يشكِّل كبرى ركائز الإسلام، يؤيِّد في مجال الآخَرِيَّة والاختلاف، انفتاح الشعوب والجماعات على بعضها وتفاعلها الإيجابي فيما بينها، وتمتُّع كلٌّ منها بتميُّز تنوُّعه؛ بيد أنَّ هذا المنهج القرآني لا يُقِرُّ اعتداء الشُّعوب والجماعات، كما الأفراد، على حقوق الآخرين والمختلفين. والإسلام يؤكِّد على الحق في الآخريَّة والاختلاف، ويصرُّ على حماية هذا الحق بعدم إلغائه للآخر والمختلف؛ لكن هذا الإصرار لا يمكن إلاَّ أن يعني مسؤوليَّة كل من يمارس آخريَّته أو اختلافه عن نتائج هذا الاختلاف وتلك الآخريَّة. لذا، فإن الآخريَّة والاختلاف في الإسلام وسيلتان من وسائل تعزيز العيش الإنساني ورقيه، وهما من الفضاءات التي تساهم في بناء رقي الإنسان وتقدُّمه، فضلاً عن سموِّه الرُّوحي إذا ما اعتبر الآخريَّة والاختلاف من الميادين التي يتنافس فيها النَّاس في عبادة خالقهم وتطبيق شرائعه واستلهام هدي رسله وأنبيائه. والإنسانيَّة جمعاء، في مرحلة تَسَارُعِ إيقاع الزَّمن الحضاريِّ الرَّاهِن بحاجة ماسَّةٍ إلى ممارسة آخريَّتِها واختلافها من خلال المنهج الذي يطرحه النَّص القرآني للآخريَّة والاختلاف. إنَّهُ منهجٌ إنساني عام، لا يقتصرُ على دين دون سواه، ولا يرتبطُ بمجموعةٍ دون أخرى. إنَّهُ منهجٌ شاملٌ جامِعٌ، قادر بجدارةٍ كبرى، عبر عمقه الإنساني والتجربة العمليَّة الإسلاميَّة له، على طرح مقولة العولمة الحقَّة، ميداناً رحباً للتفاعلُ الإنساني البنَّاء، ونفي العولمة المسيسة الغاصبة والغاشمة التي لا تعترف، عبر ممارساتها وتنظيراتها، لا بالآخريَّة ولا بالاختلاف.

والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى