نِهايةٌ للشَّبَكَةِ المُمْسِكَةِ بالسُّلْطَةِ في لُبْنان
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني)
مِنَ المُتَّفَقِ عليهِ، بين اللبنانيين، والمراقبين العرب والأجانب للشأن العام في لبنان، أنَّ مُعْظَمَ الشَّانِ السِّياسيِّ التَّنفيذِيِّ في البلد، إن لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ، تتوارثُ تولِّي أمورَ ناسهِ، مجموعاتٌ، تُعرفُ، كلٌّ منها، في المُصْطَلَحِ السِّياسي اللُّبنانيِّ، بـ”العائلةِ السِّياسيِّة”. و”العائلةُ السِّياسيةُ”، هذه، كتلةٌ أسريَّةٌ مجتمعيَّةٌ، يُذِيعُ بعضُ أفرادٍ منها، بِحُكْمِ تُراثٍ يَزعُمُونَهُ، وبتَلْفِيقَهُم سيادَةً لهُم على بعضِ القوم، اخْتِصاصَهُم بالعملِ السِّياسي؛ فيقومونَ بإدارةِ ما يَقْدِرونَ عليهِ مِن شؤونِ البَلَدِ وأمورِ الوطن. ولقد كان لمرورِ الزَّمن، وتقادُمِهِ على استمرارِ فاعليَّة هذه العائلات السِّياسيَّة؛ ومعها الذين تمكَّنوا من الانضمامِ إليها، وإنشاءِ عائلاتِهِم التَّوَارُثِيَّةِ “السِّياسِيَّةِ”، أنْ تَشَكَّلت شَبَكَةٌ قائِمَةٌ بِذاتِها؛ تَوَلَّت، خلالَ حقبٍ من التَّاريخِ في لبنان، وعَبْرَ عقودٍ من الزَّمنِ المُعاصِر، الإمساكَ بتلابيبِ السُّلطةِ في البلدِ، والاستئثارَ الأساسَ بشؤونِها، كبيرةً كانت أو صغيرة.
ارتكزت هذه الشَّبكةُ، التي أمسكَت بمقدَّرات السُّلطةِ السِّياسِيَّةِ في لبنان، على البُعْدِ الدِّينيِّ في الفَرْزِ الشَّعبِيِّ اللبناني؛ مُعْتَمِدَةً الطَّائفةَ، وما يَنْبَثِقُ عنها مِن مذاهبَ، الوحدةَ الأساسَ في رؤيتِها إلى تكوينِ الشَّعب. صارَ مفهومُ العيشِ المشتركِ في لبنان، بإدارةِ هذه الشَّبكةِ وارتِكازاً إلى قِيَمِها ومصالِحِها، هو التَّعايُشُ المَبْنِيُّ على الطَّائفة؛ وبات النَّظرُ إلى السُّلطةِ، وما فيها من أمورِ الحُكْمِ، قائماً على تقاسُمٍ بينَ سياسيي الطَّوائفِ والمذاهبِ، وفاقاً لِنِسَبِ مُحاصصاتٍ معيَّنةٍ ارتضوها في ما بينهم. وتحصَّلَ مِنْ هذا جميعِهِ، أنَّ يكون المُتَولِّونَ السِّياسيُّون، في هذه الشَّبَكَةِ، مِن أهلِ كلِّ طائفةٍ أو مذهبٍ؛ وفي أحيانٍ كثيرةٍ، برعاية مَعْنوِيَّةٍ مِن القياداتِ الرُّوحِيَّةِ للطَّوائفِ والمذاهبِ التي ينتمونَ إليها، همُ القيِّمون على تَوَزُّعِ خيراتِ الوطنِ ومصالِحِ البلدِ وحقوقِ النَّاسِ، في ما بينهم وبين ناسِهِم.
ألمَّت بهذه الشَّبكةِ المُمْسِكَةِ بزمامِ السُّلطةِ في لبنان، خلالَ الحقبةِ الأخيرةِ من الزَّمنِ، وخاصَّةً في السَّنتينِ الأخيرتينِ المُنْصَرِمَتَينِ، ثلاثُ نَكَباتٍ أو فواجِعَ أو نَوائِبٍ؛ مِمَّا لا يمكنُ تجاهُلَهُ، ولا يَجِبُ السُّكوتُ عن عواقِبِهِ؛ إذْ هي خُطوبٌ وَبِيلةٌ، تَطالُ الوطنَ؛ ومُلِمَّاتٌ مُهْلِكةٌ، تُطْبِقُ على خِناقِ كُلِّ واحدٍ من جماهيرِ الشَّعبِ؛ وضَرَّاءٌ مُفْنِيَةٌ، تُصيبُ، بكَوارِبِها وعُسْرِها، الحاضرَ كما الآتي مِنَ الزَّمنِ على حدٍّ سواء.
أوَّلُ النَّكباتِ التي اِنْتابَتِ الشَّبَكَةِ المُمْسِكَةِ بالسُّلْطَةِ في لبنان، أنَّه بعد ما صار يُعرَفُ بتسوية سنة 2016، التي قامت على تفاهمٍ إقليميٍّ دَوْلِيٍّ، أنْهى الشُّغور الرِّئاسي الذي عَقِبَ ولاية رئيس الجمهوريَّةِ، ميشال سليمان، في شهر أيار (مايو) من سنة 1914، بوصول الجنرال ميشال عون، إلى سُدَّةِ الرِّئاسةِ، في تشرين الأول (أكتوبر) سنة 2016؛ فإنَّ أمر تشكيلَ حكومةٍ في لبنان، أصبحَ، بطريقةٍ أو أخرى، خارج إمكانياتِ نفوذ الشَّبكة المتمكِّنةِ من السَّلطة في البلد. لقد صار، من الجلِيِّ، أن الحالَ تخطَّى بواقعيَّتِهِ الفَجَّةِ، أيَّ إدِّعاءٍ لمعادلات حسابيَّةٍ ترتبطُ بِتحصيلٍ لِنِسَبٍ تَمْثِيليَّةٍ لمَذْهَبٍ، أو آخر، في طائفةٍ دينِيَّةٍ ما، تماشِياً مع ما يُعْتَبَرُ مفهومَاً للعَيْشِ المُشترَكِ المبني على أُسُسٍ طائفيَّةٍ.
يتأكَّدُ هذا الواقعُ، خلال النَّظرِ في ما حصلَ مؤخَّراً من تعليقٍ لتشكيلِ الحكومةِ العتيدةِ، على إِسْتَبانةِ نتائجِ الانتخباتِ الرِّئاسِيَّةِ الأميركيَّةِ الأخيرةِ، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 2020، ثمَّ على التَّأكُد من تسلُّم الرئيس المنتخب، عهدذاك، جو بايدن، لمقاليد حُكْمهِ في بلادِهِ؛ ولقد تلا كلُّ هذا، تَرَيُّثٌ آخر، انتظاراً لِما يُحْتَمَلُ أن يجري في المنطقةِ، إقليميَّاً ودَوْلِيَّاً، ومنه ترقُّب ما قد يظهر من الاجتماعات الراهنة في فييِّنا، المرتبطة بالاتفاق النوَّوي، بين إيران والولاياتِ المتَّحدة. يضافُ إلى كلِّ هذا، أنَّ رئيسَ الجمهورِيَّةِ الفرنسيَّة، إيمانويل ماكرون، قد حضرَ إلى لبنان شخصِيَّاً، وعقد لقاءاتٍ مع كِبارٍ من ناس هذه الشَّبكةِ المُمْسِكَةِ بالسُّلطة، وسواهم، وضعَ فيها المواصفاتِ التي يرى فيها صلاحَ أمرِ تشكيل الحكومةِ وإصلاحِ الواقِع التَّعِس للدَّولةِ؛ وقد تلا هذا أنَّ وزير الخارجيَّة الفرنسي ما أنفكَّ يشرِف على ما وضعه رئيسه لتشكيل الحكومةِ، من دونِ ما أهمالٍ بتهديد المعرقلين بعقوبات وغيرها من المُؤاخَذَات والاقتِصاصات.
ولعلَّ أفضلَ ما يُمْكِنُ استخلاصه مِن حالِ الشَّبكةِ المُمْسِكَةِ بالسُّلطَةِ اليومَ في لبنان، أنَّها أصبَحَت، وبَعْدَ أنْ اسْتَمَرَّتْ في إدِّعائها المُحافظَةَ على اسْتِقلالِ البلدِ منذ سنة 1943، قد أثبَتَتِ اليوم، في سنة 2021، أي بعد سبعٍ وثمانينَ سنةٍ مِنْ هَيْمَنَتِها على شؤونِ السُّلْطَةِ، وسيطرتها على مقدراتِ الوطنِ ومقرراتِ الدَّولةِ فيهِ؛ قد أصبَحَت، وبكلِّ ما في الحالِ مِنَ إِبْتِئَاسٍ وَطَنِيٍّ، وتَرَحٍ مُجْتَمَعِيٍّ وجَزَعٍ جماعِيٍّ وحَسْرَةٍ شخصِيَّةٍ، فاقِدَةً لِأيِّ إِسْتِطَاعَةٍ أو قُدْرَةٍ أو احتمالٍ لَها، لِحْفْظِ ِالاستقلالِ الوَطَنيِّ لِلْبَلَدِ وصونِهِ، على الإطلاقِ.
يُمكنُ تَبَيُّنُ ثاني مصائب الشَّبكةِ المُمسِكَةِ بالسُّلطةِ في لبنان، من خلالِ عدد كبيرٍ من القرائن والدَّلائل التي قد يكون من أبرزها عدم وضوح موقف هذه الشَّبكة، وما يلحق بهذا الموقف للشَّبكة أو يتبع له، من الموقفين الإداري والقضائي للدَّولة، من موضوع ما بات يعرف بالمال العام المنهوب؛ من جهةٍ؛ وما يرتبطِ بكل هذا، من قريب وبعيد على حدٍّ سواء، من الوضع العام المالي لمصرف لبنان، من جهة أخرى.
من المعروفِ أنَّ لبنانَ يُعاني، منذ أواخر سنة 2019، تخبُّطاً ماليَّاً مريعاً، وتراجعاً مرعباً، في قيمةِ صرفِ اللِّيرَةِ اللبنانيَّة، ربّما لم يعرف لهما التَّاريخ المالي للدَّولة اللبنانيَّة مثيلاً، وطبعاً في تدنِّي قدرتها الشَّرائيَّة. صاحَبَ هذا الحالُ، تنافسٌ مُخْزٍ في التَّهرب من تحمُّل المسؤوليَّات تجاه ما يحصل؛ وضعفَ أجهزة التَّفتيش والمحاسبة في الدَّولة من إتَخاذ إجراءاتٍ إداريَّةٍ واضِحَةِ في هذا المجال. يضاف إلى هذا، برمَّتِهِ، ما باتَ مشهوداً، أمام الملأ، من تخاصمٍ بين الهيئات القضائيَّة، فيما بينها، حول الموضوع المالي العام؛ إلى درجةٍ وصل فيها هذا التَّنازع، بين أهل القضاء، من العوامل المهدِّدة بفقدان القضاء اللبناني لكثير من مهابتِهِ الوظيفِيَّةِ، على الأقل.
ثالثةُ الأثافي، في هذهِ البيِّناتِ أو الأدلَّةِ أو القرائنِ، للمصيبة الثَّانيةِ التي أناخَت بِكَلْكَلِ فَجِيعَتِها على الشَّبكة الممسكة بالسُّلطة في لبنان، تَحْضرُ في ما ظَهَرَ للنَّاسِ، بوضوحٍ، من عَدَمِ قُدرةٍ للدَّولةِ، التي تُمْسِكُ هذه الشَّبكةُ بأمورها وتتحكَّمُ بأحوالِها ومصائر الشَّعب اللبناني من خلالها، على أنْ تُقاضيَ مسؤولاً ماليَّاً كبيراً وأساساً، في شأن ماليٍّ لبناني. ولقد تَرَسَّخَ هذا الأمرُ عند النَّاس، بِقيام دُوَلٍ أوروبيَّة عِدَّة، ومعها الإتِّحاد الأوروبي، بكلِّ ما يعنيه هذا الإتِّحاد ويمثِّله، بملاحقةِ هذا المسؤول الماليِّ الرَّئيسِ والكبيرِ في لبنان، ومعه سياسيين لبنانيين، نتيجةَ إجراءاتٍ ومعاملاتٍ وعمليَّاتٍ مالِيَّةٍ قاموا بها داخلَ البلدِ، لصالِح تحويل أموالٍ إلى الخارج.
إنَّ النَّتيجةَ المُسْتَخْلَصةَ بجلاءٍ، لا لَبْسَ فيه، من هذا جميعه، تُشيرُ، بكثيرٍ من الأسفِ والخِزي، إلى أنَّ ثمَّةَ ما يُشْبِهُ لِواءَ إبْهامٍ في الرُّؤية، تنضوي تحته هذه الشَّبكة، أو أنها تنهضُ، في ما بينها، على تحالُفِ تَجاهُلٍ يدفعُ بأمورِ البلدِ الأساس لأن تكونَ ألغازاً تعجيزيَّةً، أو ثمَّةَ، بينَ أعضائها، شراكَةَ إِغْتِصَابٍ عاهِرٍ، ونَهْبٍ دنيءٍ فاجرٍ، ترتعُ ضمن بِنيتها؛ وهذا جميعهُ مِمَّا يُفْصِحُ عن جَزْمٍ بأنَّ مَن هُم في هذه الشَّبَكةِ، يعانونَ غَياهِبَ ظُلْماءَ فاحشةِ العتمةِ في الرُّؤية والرُّؤيا الوطنيتين، بِأَيِّ حالٍ كانوا عَلَيْهِ، وضمنَ أيِّ تَوَجُّهٍ هُم فيه.
تَنْقَشِعُ النَّائبة الثَّالثةُ، التي باتت تقتحم حصون الشَّبكةِ المُمْسِكَةِ بالسَّلطةِ في لبنان، من خلال الضَّيَاع والغُمُوض، اللذين يعيشهما القابضون على أزِمَّةِ الأساسِ من فاعليَّتِها، في أمور وطنيَة عامَّة ذات طابع إداريّ تنفيذيّ. ولعلَّ مِنَ المشهورِ المتعارف عليه، في هذا الشَّانِ، عدم التمكُّن، حتَّى اللحظة، من تبيان حقيقة ما أدَّى إلى التفجيرات في مرفأ بيروت في الرابع من آب2020؛ ومع هذا، عدم التمكُّن من البدء بأي تحقيق جنائي ماليٍّ لموضوعِ المالِ العام وأموالِ المُودعين في المصارفِ اللبنانيَّةِ؛ يُضاف إلى كلِّ هذا، على سبيل المثالِ، وليس على سبيلِ الحَصْرِ، التَّخبُّط المستمر في الشَّأن التَّربوي، أكان في مجالات تنفيذ الموسم الدِّراسي أو إنهائه، من جهةٍ؛ أو في موضوع الامتحانات الرَّسميَّة وما يلازمها من إعلانٍ للشهادات الرَّسميَّةِ، من جهةٍ أخرى؛ من دونِ ما تَناسٍ لحقوقِ الأساتذةِ في التَّثبيتِ أو تجديدِ العقودِ أو حتَّى احتساب الأجورِ وتعويضات العمل.
لعلَّ الخلاصةَ لن تأتِي، ههُنا، مِن دونِ ما لَبوسٍ خَشِنٍ مِنَ صفاءِ الواقِعِ وصدقِ مرارِهِ وفُحُومَةِ حقيقتهِ السَّاطِعَةِ، بأنَّ هذه الشَّبكةَ ليست سوى صورةٍ مُصَفَّاةٍ عن ما وصلَ إليهِ ناسُها مِن سوءِ التَّدبيرِ الإداريِّ الوطنيِّ، وبؤسِ التَّخطيطِ العِلمِيِّ الرُّؤيوي لصالحِ الوطنِ.
تُبَيِّنُ هذهِ الخُلاصاتُ الثَّلاث، بِكلِّ ما في الوضوحِ من إشراقٍ فاضِحٍ وتلألوءٍ مُفْصِحٍ، مَدى إِضَاعَةِ الشَّبَكَةِ المُمْسِكَةِ بالسُّلطةِ في لبنانَ، منذ أكثر من ثمانين سنةٍ على الأقل، القدرةَ على حِفْظِ الاستقلالِ الوطنيِّ للبَلدِ؛ وهي، في الوقتِ عينِهِ، الخلاصاتُ المؤكِّدةَ، فِقْدانَ، قادةَ هذه الشَّبكة، للرَّأي والرُّؤيا الوطنيين، في التَّعامُلِ مع قضايا الشَّعبِ ومصالِحِهِ، خارجَ تعاملِهِم مع قضاياهم ومصالِحِهِم الشَّخصِيَّةِ والعائِلِيَّةِ؛ وهي، أيضاً وأيضاً، الخلاصاتُ الشَّاهدةُ على سوءِ ما يقومُ بهِ أَرْبابُ هذه الشَّبَكَةِ وسُيَّاسِيُّها، مِن سَفَهٍ في التَّدبيرِ وبُؤسٍ في التَّخطيطِ؛ والنَّتيجةُ الأساسُ، التي لا بدَّ من الاعترافِ الصَّارِخِ والفَاضِحِ والقَاطِعِ، قِوامُها مُصِيبَةٌ كأداءَ في الوجودِ اللَّبنانيِّ الوطنيِّ والسِّياسيِّ، نكبةٌ كُلِيَّةٌ شامِلَةٌ نابِعَةٌ من المفهومِ الذي أرستهُ هذهِ الشَّبكةُ، بتعامُلِها في النِّظامِ اللُّبنانيِّ على أسُسِ الطَّائفيَّةِ والمذهبيَّةِ السِّياسِيَّتينِ، فغدت وهي لا تَفقَهُ من الحقِّ الوطَنِيِّ غير مُحاصَصَةٍ تَسْتَخْدِمُها لِنَيْلِ مآرِبِها الشَّخصِيَّةِ ومنافِعِها الخاصَّةِ.
تَرْسُمُ هذه النَّتائجُ، مجتمعةً، بكلِّ ما فيها من مصائبَ عُظْمَى ونَكَباتٍ كُبْرى ونَوائِبٍ دَواهٍ، مفاهيمَ خَدّاعةً وقِيَماً مُدَلِّسَةً للثَّقافةِ الوطنيَّةِ المُهَيْمِنَةِ على كثيرٍ من جماهيرِ الشَّعبِ في لبنان. إنَّها تلكَ المفاهيمُ والقِيَمُ القائمةُ على الاحتماءِ بِمَن يعتقدُ كثيرٌ مِنَ المُواطِنين، أفراداً كانوا أو جماعاتٍ، أنَّه مَن يَقِفُ حامِيَاً للهُوِيَّةِ الدِّينيةِ والمصلَحَةِ المذهبِيَّةِ؛ والقادِرُ على تأمين ما يُخَيَّلُ إلَيهم، مِنَ المصلحةِ الفرديَّة أو الجَمْعِيَّةِ. وانطلاقاً مِن هذا، فإنَّهم لا يجدونَ ذواتَهم إلاَّ في لُجوءٍ إلى الاحتماءِ بالزَّعيمِ، أو التَّوسُّلِ بقوَّةٍ يَسْتَحْصِلُونَها مِن مالٍ أو سلاحٍ أو نفوذٍ أو علاقات.
يُفضي أمرُ الشَّبكةِ المُمْسِكَةِ بالسُّلْطَةِ في لبنان، بعد هذا الاستعراضِ لأحوالِها، إلى ضرورةٍ وطنيَّةٍ قُصوى وعاجلةٍ، ترفُضٌ كلَّ تَشَكُّلٍ أو بِناءٍ أو مَظْهَرٍ أو وجودٍ، لها. ومن هنا، يُصبِحُ المَطْلوبُ، بل المُحَتَّمُ الوطنيُّ في لبنان، وَضْعُ خطَّةِ تغييرٍ مَفهومِيٍّ بِنائِيٍّ وَطَنيَّ عامَّ؛ يَضُمُّ جميعَ المتوافِقينَ على النَّتائجِ المُتَحَصِّلَةِ من هذا الاستِعراضِ. ولا بدَّ، تالِياً، مِن التَّيَقُّظِ الفَطِنِ والحَصِيفِ والقديرِ الواعي، إلى أنَّ هذه الشَّبكة لن تسمحَ، على الإطلاقِ، ومن منطِقِ المحافَظَةِ على الذَّاتِ والمكتسباتِ والمصلحةِ، بقيامِ ما يُمكنُ أنْ يُساهِمَ في تضْييعِ ما سَبَقَ لها أنْ أحرَزَتْهُ مِن هيمنةٍ على البلادِ، وتلاشي ما أَفْلَحَت في التَّسَلُّطِ عليهِ مِن مصائر أفرادِ الشَّعبِ وطوائفِهِ، فضلاً عن إمكانِيَّةِ إِضْمِحْلالِ ما تَظْفُر بِهِ مِن الهَيْمَنَةِ على البِلاد.
تؤكِّد الصَّفوةُ مِن كُلِّ هذا، أنَّ لا مجالَ للوصولِ الفِعْلِيِّ العملِيِّ والملموسِ الواقِعِيِّ، إلى نِظام انتخابِيٍّ، يؤمِّن تمثيلاً شعبِيَّاً حقيقيَّاً فاعلاً، عَبْرَ هذه الشَّبكةِ المُمْسِكَةِ بالسُّلْطَةِ؛ بكلِّ ما يمكنها استخدامَهُ مِن قُدْرَةٍ، والاستعانةُ بهِ مِن دَهاءٍ، والتَّوَسُّلُ بهِ من حُنْكَةٍ، والاعْتِمادُ عليهِ مِن تَرْهيبٍ وتَهْويلٍ وتَفْزيعِ وإلهاءٍ.
لعلَّ من الخطواتِ العمَلِيَّةِ لِتَحْقيقِ هذا المطلبِ، ما يُمْكِنُ أنْ يُرْشِدَ إِليهِ الدستورُ اللبناني الحالي، بالنُّصِّ الحَرْفِيِّ للنُّقطةِ (د) مِن مقدِّمتهِ؛ إذ يَرِدُ، في هذه النُّقطةِ، وبالحرفِ الواحِدِ، أنَّ “الشَّعب مصدرُ السُّلطاتِ وصاحبُ السِّيادة يُمارِسُها عَبْرَ المؤسَّسات الدُّستوريَّة”. لذا، ولمَّا كانت هذه الشَّبكةُ المُمْسِكَةُ بالسُّلطةِ، فاقدةً لمقوِّماتِ الحِفاظِ على الوَطَنِ وتَنْمِيةِ مُكْتَسباتِهِ؛ فإنَّ لجميع قوى الشَّعبِ، مِن تنظيماتٍ وهيئاتٍ وجمعيَّاتٍ وأحزابٍ ونقاباتٍ وشخصيَّاتٍ، المُتوافِقَةِ في ما بينها على هذهِ الرُّؤيةِ، أن تجتمع، وفاقَ المفاهيمِ الدِّمقراطيَّةِ وقِيَمِها، على عملٍ ديِمقراطِيٍ، على إنقاذ البلدِ من هذا التَّردِّي.
إنَّ قيامَ مُؤْتَمَرٍ وَطَنِيٍّ شامِلٍ ودَائِمٍ، يتولَّى إقرارَ التَّشريعِ لِقانونٍ انتخابِيٍّ، يّسْتَجيبُ لِلرؤيةِ التي تُحَقِّقُ مصالحَ الوطنِ والمواطنين بالتَّساوي، ومن دون أيِّ تمييزٍ؛ وتتناغمُ مع رؤاهُم في نُهُوضٍ وَطَنِيٍّ شامِلٍ صارت ضرورةً وطَنِيَّةً شاملةً، لن يمكنُ التَّسويف في تحقيقها ولا التَّلهي على طريق تنفيذها. وقدْ يكونُ من أكثرِ الأمورِ وطنِيَّةً وفعالِيَّةً، للخلاصِ مِمَّا يُعانِيهِ البلدُ في هذا المجالِ، أنْ يُبْتَنى هذا المؤتمرُ العتيدُ على مفاهيمِ المُواطَنَةِ وقِيَمِها؛ بعيداً، بالكُلِيَّةِ المُطْلَقَةِ، عن كُلِّ ما هُوَ تابعيَّة لطائفةٍ أو مذهبٍ أو منطقةٍ أو الاستعانَةِ بنفوذِ زعيمٍ أو مُتَنَقِّذٍ.