مفاهيم ومعايير من عالم الكتابة (1): الكِتابَة والخَطُّ
الدكتور وجيه فانوس
ثمَّة خَلْطٌ كبيرٌ، وغموضٌ أشدّ، عند كثيرٍ من النَّاس، في فهم حقيقةِ دلالة بعض الألفاظ والكلمات في اللغة العربيَّة. بلغ هذا الأمرُ درجةً بات فيها عدم الوضوح، في تحديد مفهوم اللفظ أو الكلمة، أمراً يكادُ يكون مُسَلَّماً به من قبل كثرةٍ من النَّاس؛ بل لعلَّه بات أمراً قلَّ أن تجري حوله أيَّة محاجَجَةٍ أو مناقشة.
ثمَّة مِنَ النَّاس مَن قد يعتقد أنَّ حصولَ مثل هذا النِّقاشِ، وذلك الحِجاجِ، يُعْتَبَرُ من الأمور المُسْتَهْجَنَة، إن لم يكن المرفوضة؛ إذ في هذا، ما قد يُقَلْقِلُ ما عَوَّدوا أنفُسَهُم عليهِ، مِن مفاهيم للألفاظ والكلمات، وإنْ كان في مثل هذه العادة خطأ، بل خطيئة كبرى!
لا بُدَّ، وعلى سبيل المِثال وليس الحصر، من التَّوضيح والتَّأكيد من أنَّ «جَلَسَ»، في اللُّغة العربيَّة، هي غير «قَعَدَ». الأُولى، تأتي بعد الضَّجعةِ أو السُّجودِ؛ أمَّا الثَّانيةُ، فتأتي بعد القِيام. ولذا، يصحُّ القول «إنَّ فلاناً كان مُضَّجِعاً فَجَلَس»؛ ولا يَصُحُّ القول «إنَّ فلاناً كانَ مُضَّجِعاً فَقَعَد». إنَّ «قَعَدَ»، تَصُحُّ في القَوْلِ «إنَّ فلاناً كان واقفاً فقعد».
مِن هذا القبيلِ ما هو واقعٌ، في مداركِ مُعظمِ النَّاس، بين فِعْلَي «كَتَبَ» و«خَطَّ». فالغالبيَّةُ مِن هؤلاءِ النَّاسِ اعتادت أن تفهم «كَتَبَ»، على أنَّها تلك العمليَّة التي يُمْسِكُ بها المرءُ بالقَلَمِ، أو يستخدم مفاتيح المِحساب (الكومبيوتر)، أو سوى ذلك من أدوات الخطِّ، ليرسم أحرفاً معيَّنة تدلُّ على ألفاظٍ محدَّدة؛ وهم يُطْلِقونَ على هذه العمليَّة اسم «الكتابة».
إنَّ «الخطَّ»، هو ما يَرْسُمُهُ القلم، أو أيّ أداةِ خَطٍّ أُخرى، بما في ذلك مفاتيح المِحساب، من خطوط وأَشكال؛ ومن بينها هذه المُتَّفقُ عليها لِرَسم الحروف. ولهذه الأشكال، حروفاً كانت أو خطوطاً، أن تحمل معنىً مُعَيَّناً أو أن تكون خاليةً من أيِّ معنىً؛ فما هي، في نهاية المطاف، سوى أشكال. لكن أن يَكْتُبَ المرءُ، فهذا يعني أن يُقَدِّمَ فكرة معيَّنة؛ يمكن أن يُعَبَّرُ عنها بالخطِّ أو بالكلامِ أو بسوى ذلك من وسائل التَّعبير وأدواته.
يمكن القول، تالياً، إن «الكتابة» قد تكون عبر «الخطِّ»؛ لكن ليس من المُحَتَّمِ، أن يكون في «الخطَّ» «كتابة». الكتابة تنظيمٌ يقدِّم معنىً؛ أمَّا الخطُّ، فَرَسْمٌ، قد يحمل معنىً وقد لا يحمله على الإطلاق. والجدير ذِكرهُ، في هذا المجال، أنَّ بعض السِّيميائيين الفرنسيين يعتقدون أنَّ الكتابة هي الطَّبقة السَّطحيَّة للنَّص، أو ما يُسَمَّى بـ «طبقة التَّمثيل الخطِّيِّ للنَّص»؛ لكن، وكيفما دار الأمرُ، بإمكان المرء أن يُدركَ، وبتمعُّنٍ بسيط، أنَّ ثمَّة فرقاً نوعيَّاً بين القول «كَتَبَ فُلانٌ كِتَابَةً» وبين «خَطَّ فُلانٌ خَطَّاً»!
يُمْكِنُ لهذا التَّمييز بين «الكِتابة» و«الخَطِّ» أن يتوضَّح، بصورةٍ عمليَّة بسيطة، إذا ما لاحظَ المرءُ ما يُمكن أن يُقال عن إن لأحدهم خطَّاً غير مقروء؛ أو إن بعض النَّاس يتَّفقون مع أحدٍ من النَّاس، في كتابته في موضوع من الموضوعات التي يطرحها، أو هم لا يتَّفقون معه. أمَّا الخطُّ، ههنا، فأمر قد تَحَقَّقَ، وصار واقعاً موجوداً؛ لكنَّه خَطٌّ قد لا يُتيحُ، بحدِّ ذاتهِ، إظهارَ أيِّ معنىً أو فكرة أو موضوع؛ وأمَّا الكتابة، فتدلُّ، ههنا، على أنَّ ثمَّة رأياً أو موقفاً أو تصوُّراً، يوافق عليه الآخرون أو هم لا يوافقون عليه، بغضِّ النَّظرِ عن الخطِّ الذي دُوِّنَ به! وما من رأيٍ أو موقفٍ أو تصوُّرٍ إلا ويقومُ على نظامٍ معرفيٍّ أو تكوينيٍّ ما؛ وليس على مجرَّدِ قدرة على رسم أشكالِ الحروفِ أو الكلمات التي قد تجمع بين هذه الحروف.
يزدادُ الأمر وضوحاً إذا ما لاحظ المرء أنَّ العامَّة تُعَبِّر عن عقد القِران، بين رجل وامرأة، بقولهم إنَّه قد تمَّ «كتبُ كتابِ فُلانٍ على فُلانة». وهذا الذي كُتِبَ، بين هذين، لا يكون مطلقاً عامَّاً، بل هو «كتابٌ» يُعْتَمَدُ مرجعاً شخصيَّاً لكلِّ واحدٍ من الطَّرفين في كلِّ حالٍ من أحوال الحياة بينهما. إنَّه «كتابٌ» يقومُ على تحديدٍ خاصٍّ لنُظُمِ العيشِ المشترك بين الزَّوجين؛ بل هو الكتابُ الذي تُذْكَرُ فيه أصولُ استمرارِ هذا العيش ونُظُمه وموجباتِ إنهائه؛ وما يستوجب حال الاستمرار أو الإنهاء من أمورٍ مختلفة، على كلٍّ من هذين الشَّخصين مراعاتها والالتزام بها. فالكتابُ، ههنا، نظامٌ، والكتابةُ تنظيمٌ؛ وشتَّان بين النِّظام والتَّنظيم، من جهة، وبين الخطِّ ورسم الخطوط، من جهة أُخرى!
يتأكَّدُ هذا التَّمايزُ النَّوعيُّ بين «الخطِّ» و«الكتابة»، في اللغة العربيَّة، بالعودة إلى النَّصِّ القرآني؛ الذي يَعْتَبِرُهُ الباحثون والدَّارسون والنَّاس قاطبة، وبغضِّ النَّظرِ عن موقفهم الإيمانيِّ منه، مرجعاً أساساً للغة العربيَّة. فالنَّصُّ القرآني يُشير، على سبيل المِثال وليس الحصر، إلى أنَّ الصَّلاة والصِّيام والحجَّ، من الأمور التي «كُتِبَت» على المؤمنين. ومن المعروف أنَّ هذه الأمور تُشَكِّلُ فرائضَ لا بدَّ لها من أنْ تنهض على أُسُسٍ ونُظُمٍ وأصولٍ وقوانين لا بدَّ للمؤمنِ بها من اتِّباعها. إنَّها، تالياً، موضوعات لا بدَّ فيها من فكرٍ منظَّمٍ وأصولٍ تُراعَى وقوانين تُسَيِّرُ، عبرَ بَيَانٍ يَصِلُ جَلِيَّاً إلى المتلقِّي. ولعلَّ كثيراً من مصنفات الفقه الإسلاميِّ بحثت هذه الموضوعات وأمثالها ضمن ما تسميه هذه المصنَّفات بالكُتُب؛ فثمَّة فيها، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، كتاب الصَّلاة وكتاب الزَّكاة وكتاب الحج!
يتبيَّنُ، من هذا جميعه، أنَّ «الكتابة» فِعلٌ يَنْهَضُ على تنظيمٍ معرفيًّ، يَنْطَلِقُ مِن واضِع «الكِتابة»، أو مُرْسِلِها؛ وَيَتَوَجَّهُ، تالياً، إلى مُسْتَقْبِلِها. وهُوَ فِعلٌ يَرتَكِزُ على أُمورٍ تَنْظيميَّةٍ، غَيْر عشوائيَّةٍ، ذاتِ أبعادٍ وخلفيَّاتٍ منهجيَّةٍ ومعرفيَّةٍ مُحَدَّدَة. لعلَّ تنظيمُ البِناءِ الفِكري والتَّرتيب في تقديم الموضوعات، ناهيك عن البيان في عرضها وحسن توصيلها من مرسلها إلى مُسْتَقْبِلِها، يمكن أن يُشَكِّل أبرز أسُسِ هذه الأمور وأهم مجال لتحقيق فاعليتها.
بناءً على ما سبق آنفاً، فإنَّ الكاتب، فاعِلُ الكِتابة، هو، في الواقع العَمَليِّ، المُفَكِّرُ، كما إنَّه المُنَظِّمُ لعرض الموضوعات وتبيانها، وهو أيضاً العاملُ على توصيلِها إلى المتلقِّي؛ أكثر بكثير من كونه ذلك المُدَوِّن المُمْسِك بالقلم، أو الضَّاغط على أزرار الحاسوب، لتشكيلِ حروفٍ وكلماتٍ وجُمَل!
وإلى اللقاء مع الحلقة الثانية (الكِتَابَةُ والتَّعبير)
* دكتوراه في النَّقد الأدبي من جامعة أكسفورد
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)
نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية