أدب وفن

بابونج ؛القصّ بضمير الجمع المثلوم

بابونج ؛القصّ بضمير الجمع المثلوم
اختارت جميلة الشىريف في منجزها القصصيّ “بابونج” الصّادر عن دار يس للنشر 2025استراتيجيات عديدة بها يُعالج كونها السّرديّ. ولئن كان هذا الكون غير آمن من حيث الأحداث إذ كشفت عن أثلام أتت على الأسماء لتكون حائلا دون منشود معانيها…
وأولى هذه الاستراتيجيات إقامة المجموعة على الأسماء عناوين. فالقصّ؛ قصص الإنس للأنثى فيها ما للذكر.وزّعت القصص بعدل ظاهر. ستّ قصص لحواء؛ بيّة ومحبوبة ونوران وعزّة وذكرى ورفقة ورفيقة. وستّ قصص لآدم؛ إلياس بابونج وبرينغالام وبديع ووديع وحمودة ومنتصر.
اضطلعت حواء بالحكاية. إذ لحواء الحكاية منذ كانت القصّة لأجلها استوت الأرض كما استوت السّماء مرتعا لمدّ البصر. وإذ مدّ البصر فلا غالب إلاّ الله. فكلّ شيء حباس إلاّ النّظر يا ناس!
من إلياس بابونج وجيهان إلى عزّة ومجد… من “فيرمه” بأرض الله إلى حفرة جماجم … من أيّ مكان تحكمه الأرستقراطيّة الفجّة إلى غزّة المقاومة … من سلطة الثّراء الفاحشة القاتلة الحبّ، إلى الحبّ دافعا للبقاء يجاسر المحال.
الأرض في هذه المجموعة هي الأبقى..أرض الله الّتي تهب الجمال بذورا وأشجارا. وتقذفه في القلب أحلاما وأطيارا. وتقلّبه أنّى تقلّب حقدا وغيرة ورغبة وشيطانا… إيروس يحضر بقوّة في البشر والحجر في الشّحم واللّحم والرّيش… في العيون والنّهود… يعضّ بشدّة على الأفئدة إذا زاغت. فيقضم عنّة الرّوح إذا ذوت… فلا فرق حينها بين النّساء والرّجال إذا ضجّوا بآيات النّشور. إنّ الوجع عدم إذ كان لأيا وتعبا.
الشّخصيات متعبة. بل متعبة جدّا وعنوان تعبها نسبها…والنّسب المحفوظ علّة المقذوفين خارج القانون؛ قانون الطّبيعة والأعراف والغريزة… فلا عجب أن تكون البغلة أكثر حظوة من نساء ” بابونج” !


نساء بابونج علّتهن الجمال مزروعا في غير إمكان. إذ أنّه فاق اتّزان الأبدان وإعمال الأذهان…قدّتهن جميلة الشريف ممّا نحت الرّحمان في البراري من ثنائيات متقابلة إذا التقت اختلّ الميزان. إنّ العقد الحاصل بين الكاتبة والقارئ في “بابونج” قائم على القصّ في وعاء سرديّ هي القصص. ولئن كان بديهيّا أن يتعدّد الرّوّاة توافقا مع المنظور السّرديّ لماهيّة “الكتاب القصصيّ”. فإنّ القارئ لا يحسّ بتلك التغيّرات. إذ يحصل انطباع بأنّ الرّاوي هو واحد. وأنّ التّعدّد في القصص وكأنّه تناوب واجبه تجذير فرادة الأسماء في فضائها الجغرافيّ والنّفسيّ والجنسيّ. إنّ هذا الرّاوي المتعدّد بضرورة الجنس الأدبيّ منح المادّة السرديّة القدرة على الإقناع بحيثيات القصّ المتناوب بين الذّكر والأنثى حالات وأحولا. أمّا الحالات فلا تدرك إلاّ بالمقام. وأمّا الأحوال فبنيان وتشييد. لذلك بدا روّاة القصص أعلى درجة من راصدي اللأحداث. إذ كانوا متعقّبين لصدق ما يتهيّبونه. فعملوا على دفع تكذيب الأحداث ما استطاع البناء السّرديّ أن يلتحم بعوالمه وينهض للغته وهي تسرد وتصف وتحاور وتذكّر. وأولى مظاهر هذا النّزوع اختيار الأسماء وانتقاء حياتها بتحديد فضائها.


إنّ القصص في “بابونج” زاوية رؤية، اتّخذت من الذّاكرة آلة تنفيذ تروي النّقصان الحاصل في الأبدان. فانعكس على الأذهان. وفي هذا نجحت الكاتبة. نجحت في جعل القصص تصوّر النّقصان في احتفاليّة الألم، كقصّة إلياس بابونج وذكرى وبديع وعزّة …هذه القصص المحكومة بهي/ هو أو أنتَ / أنتِ إذ عطفناها على أسمائها. إلاّ أنّها محكومة بضمير الجمع المثلوم. فكلّ قصّة تكشف نقصا سببه عين الجماعة وسطوة تسطير أفق الشّخصيّة ومساراتها.


قصص كاللّوحات يتقارب فيها القارئ والكاتب. فيصبح وجود السّارد وهما. فالسّارد الكاشف للأفق السّرديّ يتلاشى بين الكاتب والقارئ كتلاشي الذّاكرة في حلبة التّذكّر. تتلاشى لأنّ التّذكّر لم يكن عسيرا ولا متاحا. بل هو الممكن الوحيد على صفحة محبوبة أو حمودة أو نوران أو وديع. وقصّة كالحكمة المنبوذة. فنادرا ما يصدّق المرء أنّه يحمل في ذاته ضدّه. كتلك البذرة سمحة اللّون “القمحة” تنتج وحشا بشع اللّون “السّوسة” شأن رفقة ورفيقة.
رفقة ورفيقة توأم متماثل تعرّى على صفيح شاكر الفطّومي. تروي رفيقة قائلة بالصفحة 102:” لم أش بأختي ولم أفش سرّها ولكن لا أعرف كيف نبتت بداخلي رغبة متوحّشة أن أعيش معه نفس ما تعيش…” الرّاوي في هذه القصّة رفيقة ورفقة. كأنّ السّاردة “رفيقة” كاميرا وما حصل شيء من سينما ! فلا عاقل يقبل على ما أقبلت عليه رفيقة لتلتحم برفقة إلاّ بأمر شيطان الشّياطين. ساردة معدومة الذّاتيّة تلتقط ما هو غير مرئيّ. فكأنّ الأحداث تبتدئ بذاتها وتنتهي بذاتها. تبدأ من فطرة التّوأم المتماثل. وتنتهي بالحفر في أدقّ ما ينهي هذا التّماثل.. ومسرح الواقع المقبور شاهد وشهيد على بشاعة التّماثل وأثلام التّوائم..فهذه الصّدور قبور، حتّى تنهض رفيقة في غير رفق لتخدش الحياء وتعريّ بشاعة النّفس البشريّة.

وما كان للقصّة أن تستقيم وتكشف وتبين لو لم يكن الرّاوي / رفقة في عداد غير المرئيين. إذ هي القصّة والقصّ. لقد حاولت جميلة الشّريف في “بابونج” أن تضطلع بدور الرّاوي الحكيم. ذاك الّذي يعبّر عن كونيّة المقولات والحال والأحوال. فسعت إلى تصوير حيوات لو توفّرت على قيمة القيم ؛الحبّ والمحبّة ، لما حدث ما حدث لأسمائها الّتي شدّت عليها وإليها قصصها.


فالحبّ معنى إنسانيّ سامّ سابق على وجود البشر. إذ صوّرته في الطّبيعة من أرضها إلى سمائها.. من عِطْفِها وسطحها، من مكنونها وسفورها. فعمّ وانتشر وعزّ على البشر… ولا ندري لعلّ الحكمة هناك في غدر الإنسان إذا اطمأنّ إلى جنسه وعائلته ووطنه.

لم تترك جميلة الشريف قصصها للقارئ دون عتبات. تلك العتبات رسمت فلسفة وبلاغة عالمها المتخيّل بوصفه مدى محدودا، يعبّر عن حقائق نسبيّة مشروطة بفضائها الجغرافيّ والسّياسيّ وأفقها الأخلاقيّ والنّفسيّ. لذلك كانت الأسماء – وهي الأقاصيص- قيما سلوكيّة وعاطفيّة لإناث وذكور انتقتهم الكاتبة بعناية ليحقّقوا رجولة وجود مفقود. أسماء مظلومة قصص جميلة الشّريف. والشّرف الحقيقيّ هو أن تقف في وجه الظّلم حتّى لو كنت وحدك.” كما قال غسّان كنفاني. وجعلت الكاتبة هذا القول تصديرا لقصّة عزّة. فهل نكون وعزّة غزّة ذكرى منتصر ينظر في وجه محبوبة دافعا عن بيّة شيطان رفيقة؟


نورة عبيد / كاتبة تونسيّة/ نابل جويلية 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى