منتديات

الثَّقافةَ الدُّستورِيَّة والمسار الدِّمقراطي؟

الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني)

مُنْذُ أن قدَّم رئيس الحكومة اللٌّبنانية، الدكتور حسَّان دياب، استقالة حكومته، يوم الاثنين 10 آب (أغسطس) 2020؛ بداعي انفجار مرفأ بيروت؛ الذي أسفر عن كارثة إنسانيَّةٍ ووطنيَّة عُظمى، تَجَلَّت في مقتل زهاء 193 شخصاً وإصابة أكثر من 6 آلاف آخرين، إضافة إلى خرابٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ وسياسيٍّ يكاد لا يُحَدُّ؛ واللُّبنانيُّون يعيشون كارِثِيَّةَ انغماسِ واعٍ ولا واعٍ في أعماقٍ مُخيفَةٍ من ردَّاتِ الفِعلِ والانفعال السِّياسيَّيِّ، مِمَّا مُورِسَت فيهِ تشويهاتٌ ثقافيَّةٌ دستورِيَّة.


صوَّت، أعضاء المجلس النيابيِّ اللُّبنانيِّ، يوم الاثنين 31 آب (أغسطس) 2020، بغالبيَّة 66 عضوا من أصل 120، لتكليف الدكتور السفير مصطفى أديب بتشكيل الحكومة في لبنان؛ وكلّف رئيس الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة، العماد ميشال عون، يوم الاثنين 31 آب (أغسطس) 2020، بناء على هذا التَّصويت للمجلس النِّيابي، الدكتور مصطفى أديب، سفير لبنان لدى ألمانيا، بتشكيل الحكومة العتيدة؛ غير أن الدكتور أديب، لم يلبث أن اعتذر؛ بعد أن قضى أسابيع في محاولة إقناع الأطراف السِّياسيَّة بالموافقة على اختياراته؛ مؤكِّدا أنَّ “مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يجب أن تستمر لأنها تعبر عن نية صادقة، ومشيراً إلى أنَّه سبق وأعلن للكتل أنَّه لست في صدد عدم الولوج في أيِّ شأنٍ سييٍّ وأنَّهُ ليس في صدد طرح أسماء تشكِّل استفزازاً لها وسط المطالبات الشَّعبيَّة بتحقيق اصلاحات سياسيَّة.


حدَّد فخامة الرئيس العماد ميشال عون، يوم الخميس 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، موعداً لبدء الاستشارات النِّيابيَّة؛ لتسمية رئيس يجري تكليفه مهام تشكيل الحكومة اللُّبنانيَّة العتيدة. وكان أن كلَّف الرَّئيس ميشال عون، يوم الخميس، ٢٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٠، رئيس “تيار المستقبل” السيد سعد الدِّين الحريري، تشكيل حكومة جديدة؛ بعد حصول الرئيس الحريري على غالبيَّة أصوات النُّوَّاب في الاستشارات النيابية الدُّستوريَّة.


استمرَّت المشاورات بين الرَّئيس المكلَّف ورئيس الجمهوريَّة، في سياقاتٍ متنوِّعةٍ من الفِعلِ وردَّاتِ الفِعْلِ المغلَّفةِ بقراءاتٍ اجتِهادِيَةٍ في الدُّستورِ، من دون الوصول إلى تشكيلٍ للحكومة، حتَّى يوم السَّبت 15 أيَّار (مايو) 2021؛ حين وجَّه رئيس الجمهوريَّة رسالة إلى المجلس النِّيابي لعرض الأمر. وكان أن أكَّد المجلس النِّيابي، يوم السَّبت، 22 أيار (مايو) 2021، تكليفه السَّابق للسيِّد سعد الحريري؛ داعياً رئيس الجمهوريَّة، ميشال عون، والرئيس المكلَّف تشكيل الحكومة الجديدة، إلى ضرورة المُضي قُدُماً بتأليفها، وفاق الأصول الدُّستوريَّة؛ وذلكَ من قِبَلِ الرَّئيس المكلّف بالاتِّفاق مع رئيس الجمهوريَّة.


أعلن الرَّئيس المكلَّف تشكيلَ الحكومة اللُّبنانيَّة، سعد الحريري، في الزِّيارة العشرين له إلى قصر الرِّئاسة في بعبدا، يوم الخميس ١٥ تمُّوز (يوليو) ٢٠٢١، أعتذاره عن متابعة أي تباحثُ في شؤون التَّكليف والعمل على إعلان تشكيل الحكومة العتيدة مع فخامة رئيس الجمهوريَّة؛ مختتماً إعلانه هذا بعبارة: “الله يعين البلد”. ترافقت هذه الأفعال، جميعها، وما تبعها من أمورٍ، بإنْفِعالاتٍ سياسيَّةٍ، قد يرتبطَ بها كثيرٌ من قضايا العمل بالاستشارات النِّيابيَّة المطلوبة لتسمية الرئيس المكلف، وموائمة هذا مع ما بدا يتفشِّى، متسارعاً، من أمور الانحدار الاقتصاديِّ المتنامي، والتَّشرذم السِّياسيِّ المتراكم، والَّتضعضع الشَّعبِيِّ في معظم، إن لم يكن كلِّ، أوضاع الشَّأن العام.


دفع هذا الأمر إلى إطلاق التَّحذير تِلْوَ الآخرِ، مِن قِبَلِ مسؤولين محلِيِّين وإقليميين ودَوْلِيين؛ من مَغَبَّة تفاقم سوء الأحوال العامَّةِ في لبنان، وبما يُنذر بانفجارات أمنيَّةٍ وسياسيَّةٍ واقتصاديَّةٍ قد لا تُحمدُ عُقباها على الإطلاق. وبالفعلِ، فقد قطع عشرات المحتجِّين، يوم الخميس في 17 تمُّوز (يوليو) 2021، عددا من الطُّرق في مناطق مختلفة من البلاد،؛ وذلكَ عقب اعتذار الرئيس المكلَّف عن تشكيل الحكومة، واحتجاجا على الأوضاع المعيشيَّة المُمْعِنَةِ في تردِّيها. وتمَّ، خلال هذه المواجهات، رشقُ عناصر الجيش بالحجارة، ورد الجيشُ بإطلاق الرَّصاص المطَّاطِي بالهواء، في محاولةٍ لتفريق المحتجِّين. وقال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إنَّ إعلان استقالة سعد الحريري، رئيس الوزراء المكلَّف في لبنان، تطوُّر مخيِّب لآمال الشَّعب اللُّبناني؛ وشدَّد الوزير الأميركيُّ، على الأهميَّة العاجلة لتشكيل حكومة ملتزمة وقادرة على تنفيذ الإصلاحات ذات الأولويَّة. واعتبر وزير الخارجيَّة الفرنسي، جان إيف لو دريان، أنَّ الإخفاق في تشكيل حكومة لبنانيَّة جديدة، أمر مروِّعٌ؛ وانتقد الطَّبقة السِّياسيَّة التي تحكم البلاد بأكملها. كما عبَّرت نائبة المتحدِّث باسم الأمين العام للأمم المتَّحدة، عن أسفها لعدم تمكُّن قادة لبنان من التَّوصُّل إلى اتِّفاق تشكيل الحكومة؛ وجدَّدت دعوة منظَّمتها إلى الاتِّاق على تشكيل حكومة قادرة على مواجهة التَّحديَّات في لبنان.
لو يمكنُ التَّصَوُّر أنَّ الرَّئيس سعد الحريري لم يعلن اعتذاره هذا؛ بل إنَّه طلب، بموجب البند 3 من المادة 69 من الدستور (عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة يصبح مجلس النواب حكماً في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة)، من رئاسة المجلس النِّيابيِّ، الدَّعوة إلى عقد جلسة خاصَّة للاطِّلاع على ما آل إليه تسمية النُّوَّاب له لتشكيل الحكومة العتيدة، قبل ٩ شهور، وما التَّطوُّرات التي لحقت بتأكيدهم هذا التَّكليف قبل شهر؛ فهل كان الرَّئيس المكلَّف سعد الحريري، سيكونُ خاسِراً للتَّكليف، ولربَّما مُعَرَّضاً لخسائر معيَّنة في بعض مجالات وجوده السِّياسي العام، كما قد يتوقَّع بعض المراقبين؟


فهل يمكن التساؤل، ههنا، إن كان الوضع العام في البلد سيواجه أزمة سياسيَّة طاحنة، قد تُهَدِّد وجوده، كما يبدو الحال حتَّى اللَّحظة؛ أم سيكون البلد في خِضِّم أزمة دستوريَّة، لا تتطلَّب أكثر من دراسةٍ موضوعيَّةٍ مسؤولةٍ، ورأيَّاً قانونِيَّاً حصيفاً، ورؤيةً وطنيَّةً تسعى جمعاً وتحيداً وبناءً، كما هو الحال في كثيرٍ من أزماتٍ دستورِيَّةٍ شهدها، وما برح، المجتمع الدَّولي في العالم؟


هل كانت الجماهير الشَّعبيَّة في لبنان، ستسعى إلى شَغَبٍ انفعاليٍّ عشوائِيٍّ عَبْثِيٍّ، كما برزَ في الأيَّام القليلة الماضية، يبعدها عن صلبِ مشكلة ما تعانيهِ مِن بؤسٍ وتعاينه من خراب؛ أم تُراها ستكون منخرطةً، عبر نوَّابها الذين انتخبت واستأمنتهم على مصالحها، في نِقاشٍ دستوريٍّ بنَّاءٍ، يتولاَّهُ أهلُ العِلمِ الموضوعيِ وتعملُ عليهِ جماعاتُ الشَّأن السِّياسي المختلفة، فيرتقي بذلك الوطن وناسه وسياسيُّوه بوجه خاصَّ؟


هل سيكون التَّحدي، في هذه الحال، مُنْصَبًّا تَفَرُّدٍ مُتباينٍ في اجتهاداتٍ مترامِيةِ الأمداءِ، في ما بينها، لتطبيقِ الدُّستورِ؛ ومزايداتٍ كلامِيَّةٍ، لا طائل حقيقيَّ من ورائها، حولَ نجاحِ مقابلةٍ تلفزيونِيَّةٍ سياسيَّةٍ معيَّنةٍ أو تَعَثُّرِها؛ أم على صَوْنٍ حقيقيٍّ للدُّستور، وللوطن؟


كَمْ يَعيشُ كثيرٌ جدَّاً مِن اللُّبنانيين في لُجَجِ انفعالاتٍ ذاتيَّةٍ، وكم يعانون من ردَّاتِ فِعلٍ شخصانِيَّةٍ سياسيَّةٍ، تَنْبَثقُ مِن معاناتهم لواقعِ سياسيٍّ لهم. وكم هم، في عيشهم الانفعالي هذا، بعيدون عن عُمْقٍ ثقافيٍّ، يمكِّنهم من اكتناهِ ما لديهم من طاقاتِ تفكيرٍ وممارسةٍ وطنيَّةٍ بنَّاءةٍ في دستورهم الوطنيِّ، الذي طالما اشتكوا منه؛ ومن الواضح أنَّ غالبيَّة شكواهم، هذه، تأتي من عدم تطبيقهم لحقيقة هذا الدُّستور.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى