أدب وفن

الزمان المجتمعي والنص الروائي (2) الزَّمان والوجود المجتمعي

الدكتور وجيه فانوس

 إن الزَّمان، كما سبقت الإشارة في الحلقة الأولى من هذه السِّلسلة، بحاجةٍ إلى موضوعٍ؛ ومن سِماتِ الموضوعِ، في هذا المجال، أنَّهُ يتَّخِذُ من زمانه مجالاً لفاعليته فيما هو حوله أو مرتبطٌ به، كما أنه يتحوَّل إلى محطَّة لانفعاله بحيويَّة زمانه ومدى ارتباط هذا الزَّمان بالحركة العامَّة لِلكَوْن.

وهنا تبرز أهميتان تكوينيَّتان، في العَلاقَة بين الزَّمان وموضوعه؛ إذ يدمْغُ الموضوعِ زمانه بسماتٍ تميِّزه من سواه من الأزمنة التي تحوي موضوعات أخرى، كما يدمغُ الزَّمانِ موضوعهِ بِسِماتٍ، تميِّز تشكُّله بهِ من سواه من التَّشكُّلات. ويمكن، ههنا، استخلاص بضعة مفاهيم تتعلَّق بالموضوع؛ وذلك إنطلاقاً من مقولات هيدجر؛ ومن أبرز هذه المفاهيم أن الموضوع، هو ما يُعطي صفته للزَّمان؛ وأن الموضوع، هو ما يُوَجِّه ما يَكون فيه من زمان، في حركيَّةِ همومه «sorge»، المُنْشَغِلَة باستمرار بالآتي من الأمور، أو ما يمكن أن يُعْرَف بالمُسْتَقْبَل.
يُمكِنُ، في هذا المجال، الحديث عن أنموذجين محدَّدين لارتباطِ الزَّمان بموضوع له؛ أحدهما، زمانٌ للمكان، وهو ما يقيس حركة هذا المكان في ذاته ومع بيئته وما يتفاعل معه وينفعل به؛ وثانيهما، زمانٌ للنَّاس، وهو ما يقيس حركة هؤلاء النَّاس في ذواتهم وفي بيئاتهم وفي ما يتفاعل معهم وفي ما ينفعلون به.
يُشير واقع الحال إلى أنَّ الأمر، في هذا الأنموذج، لا يُمْكِنُ أنْ يَقِفَ عند حدود هذه التَّجزئيَّةِ «المدرسيَّة» البسيطة؛ فثَمَّة رابطٌ أقوى وأكثَر شمولاً يجمع بين النَّاس والمكان، ويُشَكِّلُ، عبر هذين العنصرين، وحدة وجود موضوعيَّة هي المُجتمع. ومن هنا، فإن الوجود المُجْتَمَعِيّ، بِحَدِّ ذاته، موضوع يحتاج إلى زمن يقع فيه؛ فتتحقَّق عبر هذا الوقوع عمليَّة الفِعلِ والانفعالِ التي تكون للزَّمان في موضوعاته وبها.
يَتَشَكَّل الوجود المُجْتَمَعِيّ، من عدة عوامل وعناصر؛ لَعَلَّ من أهمِّها، ذلك التَّفاعلُ الواقعيُّ الجَدَليُّ الذي ينشأُ بين «الإنسان» و«المكان» الذي هو فيه. فالتَّفاعل يتم، ههنا، من خلال أمرين أساسين، أولهما الوجوه التي يتجلَّى بها الإنسانُ، في الحقيقة المكانيَّة التي هو فيها؛ مثلا لذَّات والآخر والفَرد والمجموعة؛ وثانيهما، الهدفُ المُسْتَقبليُّ الَّذي يعملُ، هذا الإنسانُ، على تحقيقه؛ مِن خلال ما يتشكَّل عَبْرَ سَعْيهِ في الماضي والحاضر؛ مِن خلال عوامل الوعي ومجريات الصُّدفَة وترابُط ما يتم بين الوَعي والصُّدفة.

يكون هذا، برمته، تحقيقاً لنتيجةٍ ما، لا بُدَّ من ظهورها في المَسار الحياتي لهذا الإنسان؛ ولا بدَّ، كذلك، من تجلِّيها عبر ما ينتج عن ظهورِها من أمور؛ كما أنَّ لا مندوحة من تأثيرها على ما سيَكون من تشكُّلات لِعَيْشِِ هذا الإنسان في المُقْبِل من الزَّمان.
تبرزُ خلاصة هذا الأمر، بِرُمَّتِهِ، في أنَّه إذا كان لا بُدَّ من زمان يُحَقِّقُ فيه هذا الوجود المُجْتَمَعِيّ وجوده، وإذا كان لا مفرَّ لهذا الزَّمان من أن يَكون حقيقةً فاعِلَةً ضمن هذا الوجود المُجْتَمَعِيّ؛ فلقد بات، من الطَّبيعي، والحال كذلك، أن يَكون ثَمَّة زمان مجتمعي، تُقاسُ به حركة المجتمع الذي ينتسبُ إليه، ويؤثِّر، بدوره، في وجود هذه الحركة وفاعليَّتِها. فالزَّمان المُجْتَمَعِيّ ليس سوى فاعليَّة الزَّمان عبر اجتماع النَّاس في مكان محدَّد.
(إلى اللقاء في الحلقة المقبلة: [فاعِلِيَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ])
————-
* دكتوراه في النقد العربي/ جامعة أكسفورد

نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى