أدب وفن

في الذّكرىَ المائوية ” لمعركة أنوال ” 1921- 2021 الفصل – الرابع والعشرون- من – رواية “تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون”

في الذّكرىَ المائوية ” لمعركة أنوال الخالدة ” 1921- 2021 الفصل – الرابع والعشرون- من – رواية “تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون”

(سيرة بطل مُجاهد شهيد معركة “أنوال” الماجدة)

الدكتور مُحمّد مَحمّد خطّابي


“… مرّت احتفالات زفاف الفتىَ (مُوح) على خير ما يُرام ،وملأ هذا الحادث السّعيد قلبَ والدته ميمونة أزرقان بسعادة وحبور لا مثيل لهما ، فمنذ رحيل زوجها مُغتالاً لم تذق هذه الأمّ الفاضلة طعمَ السّعادة الحقيقية التي شعرت بها عند تزويج ابنها البِكر ، فقد كرّست حياتها ،كلَّ حياتها، لتربية أولادها الثلاثة ( مُوح وأحمد وحمّوش) ورعاية بنتيْها (فظمة ومنّوش) وخدمتهم جميعاً بكلّ ما أوتيتْ من قوةٍ وعزمٍ وحزم ، فقد كتبت الأقدار، وشاءت المشيئة الإلهية أن تكون هذه المرأة ذات طبعٍ صارم ، وذكاء وقّاد، وعزيمة قوية، وشجاعة نادرة، وقوّة خارقة على تحمّل المشاقّ،وتجسّم الصّعاب، ومواجهتها بإرادةٍ لا تُقهَر، والقيام بجميع الأعمال المنزلية الشّاقة في المحيط البدويّ القاسيّ الذي قيّض الله لها أن تعيش في كنفه ، فضلاً عن حِرصها على مواصلة تعليم أولادها تبعاً للخطّ التربوي الذي كان قد رسمه لهم والدهم قيد حياته،بالإضافة إلى الأعمال اليومية الموكولة إليهم التي يضطلعون بها في المزارع، والحقول،والأسواق، والقيام بكلّ ما يُملىَ عليهم فى واقعهم المعاش من صعوباتٍ جمّة في قريتهم أجدير .
أصبح (مُوح ) رجلاً متزوّجاً من الفتاة التي علق قلبُه بها منذ الصّغر، وقد تصاهر مع مُوح أبقّوي والد زوجته منّوش، وهو شخصية نافذة من عليّة القوم له مقام كبير، ويحظى بتقدير واحترام جميع السكّان في قريته ،هذه المصاهرة جعلت ( مُوح) يلتقى في مناسبات متعدّدة مع شخصّيات بارزة لها مكانتها في قبيلته ، وأصبح يُنظر إليه بغير قليلٍ من الحيطة والحذر، فالجميع طفق يكتشف يوماً بعد يوم أنه ذوشخصية قويّة ، وشجاعة، وشهامة،وأنفة وشموخ ، إلى جانب طيبة قلبه، ودماثة خُلقه، وحُسن تعاطفه وتعامله مع الناس على اختلاف مشاربهم وشرائحهم ، كما أنه كان معروفاً بحرصه على أداء الفرائض الدينية في وقتها في المسجد القريب من بيته الذي يُسمّىَ ” مْزِيدَا ندّهار”، وفوق ذلك كلّه ، كان جميع أهل القرية على علمٍ بمدىَ تضلّعه، وإتقانه، وتفوّقه في فنون الرّماية والتسديد ، وهكذا أصبح جميعهم يأخذون حيطتهم منه، ويولونه التقدير الذي هو قمين به،وبدأ نجمُه يسطعُ رويداً رويداً بين ساكنة أجدير والقرى المجاورة لها.
هذه المرحلة الجديدة من عُمر( مُوح) فرضت عليه ظروفاً جديدة طارئة للعيش لم يكن يوليها أهمية تُذكر من قبل ، فأصبح يُعنىَ بهندامه، وطريقة سرج حصانه المُسوّم الذي أهداه له صِهرُه ، وحرصه على ارتداء الجلباب الرّيفي التقليدي المعروف بقصر قامته الذي لم يكن يتجاوز منتصف أقدام لابسيه، حيث كانت هذه الخاصيّة توفّر لهم حريّة الحركة، وسرعة امتطاء الخيل، وركوبها،والعَدْوبها ،وسهولة القفز لمواجهة أي ظرف طارئ ، وكانت زوجته منّوش قبل خروجه من البيت تساعده على تثبيت عمامته بنفس الطريقة التي كانت تساعد بها والدَها قُبيْل مُغادرة منزله ، كما كان لا يفرّط أبداً في امتشاق بندقيته ، تلك التي اشترتها له أمّه منذ سنوات بعيدة خلت، كان يمسحها بعناية بزيت خاص مستعملاً خرقة صغيرة من جلد ناعم، كما كان يضعها في صندوق خشبيّ مستطيل مصنوع على هيئة شكلها لحفظها من الرّطوبة،والأتربة، ومن عوامل الزّمن وتحاتّه،وعوائده .
مرّ صيفٌ على زواجه ،وتلاه شهر رمضان الكريم ، وبعدهما انصرف عيد الفطر ثم أقبل عيد الأضحىَ، وبعد انصرام بضعة أشهر جاء (المُورُود) المبارك وهوعيد المولد النبويّ الشّريف الذي كان يحضراحتفاليته باستمرار كلّ عام مع والده وهو بعدُ في مُقتبل العُمر، حضرالحفل هذه المرّة رفقة أخويْه أحمد وحموش فى مسجد ( رمجاهذين ) (المجاهدون) حيث تُنظّم هذه الاحتفالية الدينيّة الكبرىَ، يُطلّ هذا المسجد على شاطئ الصّفيحة قبالة جزيرة “صخرة النكور” السّليبة ،وقد تمّ تشييده على ربوة عالية من مُخلفات مدينة المزمّة التاريخية المُندثرة التي كانت قائمةً في عين المكان، وكان لها شأن كبير إلى جانب حاضرتيْ النكور وبادس في غابر الأزمان، ولم يبق منها على أيّامه سوى بعض الاطلال الدارسة، والمعالم العمرانية المتآكلة.
دخل (مُوح) المسجد رفقة أخويْه ،وصلىّ ركعتين تحية المسجد ثم سمع بعد انتهاء الصلاة صوتاً خافتاً مألوفاً لديه ينادي عليه من الخلف ،عندما التفت ناحية الصوت كان صهرُه مُوح أبقّوي هو الذي ينادي عليه ليجلس هو وأخواه أحمد وحمّوش إلى جانبه في وسط المسجد بجوار المنبر ، اتّجه (مُوح ) وأخواه نحو صهرهم الرّجل المُسنّ الوقور الذي يبدو وكأنّه يحمل على ظهره تاريخ القرية وأعباءَها ،كان ذا مُحيّاً صبوح مستديرتملأه لحية بيضاء كثيفة وقورة،تخفي تجاعيد السّنين التي عمّرته،وتعلو رأسه عمامة أنيقة ناصعة البياض،ويرتدي جلباباً تقليدياً أنيقاً وبدعيةً بيضاء ، قدّم (مُوح) وأخواه له ولرفقائه الجالسين بجواره التحيّة بما يليق من التقديروالاحترام وجلسوا على يمينه .
كانت طقوس وعادات وتقاليد إحتفاليات سكّان أجدير بذكرى عيد المولد النبوي العطرة راسخة في مُعتقداتهم، و يعود هذا الاحتفال لأعوامٍ بعيدة خلت حيث أصبح إحياء هذه المناسبة الدينية السنوية تقليداً مُتّبعاً عندهم يتمّ إقامته بكلّ ما يليق بها من تقديس وتوقيروخشوع .
كانت توقد القناديل الزّيتية على جنبات (مسجد رمجاهذين) ،وفى أعلى الصّومعة كان يُودع قنديل كبير يُوقد بالغاز وهو أكثر قوةً واشعاعاً ونوراً وسطوعاً من القناديل الزيتيّة الأصغر حجماً ، كان يؤمّ مسجد المجاهدين في هذه المناسبة أناس من كلّ المناطق ،والجهات، والنواحي، والأرباض، والمداشير المحيطة بأجدير،كما يتمّ نحر الأضاحي من عجول وخرفان ،وإعداد أطباق خاصّة بلحومها تعرف ب (الماق) (المرق) الذي كان أثيراً عندهم، وكان الناس الذين يحضرون هذه الولائم مُتيقنين أنّ إعداد اللحم ،وطبخه وطهيه في هذه المناسبة بالذات فى مسجد (رمجاهذين) على وجه الخصوص تضفي على هذا الطبيخ طعماً خاصاً، ومذاقاً فريداً لا يضاهىَ،وليس له نظير في أيّ مناسبة أخرى دينيةً كانت أو إجتماعية .
كان الإحتفال بهذه المناسبة الدينية السّعيدة يتمّ على امتداد يوميْن حيث كانت تُتلىَ في اليوم الأوّل الأمداح النبوية الشريفة، وقراءة آيات من الذّكر الحكيم، والصّلاة والسلّام على الرّسول الأكرم، وكانت تتخلّل هذه الأمداح مأدبة عشاء تُقدّم لجميع الحاضرين، وكان يُخصّص اليوم الثاني لتلاوة القرآن الكريم ، وتقدّم للحاضرين ،وللطلبة، وحَفَظة القرأن من الفقهاء والعلماء مآدب خاصّة كذلك حيث لا يغيبون عن هذه المناسبة إذ كانوا يضربون لهم موعداً سنوياً في مسجد (إمجاهدن) الذي كان يحظىَ بتقدير وتوقير كبيريْن من طرف السّكان، حتى قيل إنّ بعض أولياء الله من الصّالحين الذين كانوا عندما يزورونه بين الفينة والأخرى قادمين من أماكن نائية يخلعون نِعالهم على مسافةٍ بعيدةٍ منه تقديراً واحتراماً لقدسيته وتوقيراً لمكانته عندهم.
فى ختام الحفل الديني في اليوم الثاني كان يُقام سوق يقدِّم الحاضرون فيه بعض حاجياتهم من ألبسة، وأردية ،كانوا تبرّعون بها لتباع في شكل مناقصة والمبالغ التي يتمّ جمعها يُحفظ بها في صندوق خاص لصرفها على خدمات المسجد وشرطه ،وكانت من عادة بعض السكّان أنّ الذي تأخّرت عنده الخِلفة بعد زواجه يأتي بحزامه في هذا اليوم ويتصدّق به فيدعو له الحاضرُون والفقهاء والطلبة الدّعوات الصالحة ليرزقه الله خلفة مباركة في أقرب الآجال
عند انتهاء هذه الاحتفالات يسلّم جميع الحاضرين على بعضهم البعض، وهم يرتدون أنصعَ الثياب وأجدّها، ويمتشقون بنادقهم التي لم تكن تفارقهم البتّة ،بعد ذلك ينصرفون لقضاء مآربهم وأشغالهم في أماكن سكناهم وإقامتهم التي قدِمُوا منها من كلّ فجٍّ عميق.
عندما سلّم (مُوح ) وأخواه بما يليق من الاحترام على صِهرهم (مُوح أبقّوي )،كانت هناك آذانٌ تسترق السّمع، وكانت هناك عيون ترمقهم، وتقتفي خطواتهم من بعيد ،وبقدر ما كانت هناك عيون مُشبعة بالرّضىَ ، كانت هناك كذلك بعض العيون التي تنظر إليهم بعيون غير راضيّة، نظراً للمكانة المرموقة التي أصبح يتسنّمها ويتبوّأها (مُوح ) في المجتمع القبليّ بين أقرانه، وأقاربه ،وبين أعيان قريته ورجالاتها …( يتبع). (تجدر الإشارة أنّ الصّورة المٌرفقة بهذا الفصل لجدّنا المشمُول برحمة الله محمد مُوح أبقّوي من إهداء حفيده الأخ الأعزّ الأستاذ الفاضل محمّد أبقّوي فله منّا وافر الشكر وعميق الامتنان ) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى