امرأة لا لزوم لها”.. المتعة مدفونة في صندوق؟
الدكتور طارق عبّود
قد لا يكون الكاتب ربيع علم الدين قد وفّق في توزيعه لموضوعات روايته وتفاصيلها، ويكمن ذلك في إنهاكه القارئ بهذا الكمّ من العناوين والاقتباسات الأدبية.
تمسك برواية “امرأة لا لزوم لها” للكاتب ربيع علم الدين لتجد عنواناً جديداً ومحفّزاً، “امرأة لا لزوم لها”. تمعن النظر في الغلاف، فتقع على امرأة يخرج معظمها من الصورة، ويدلّ عليها جزء من خلفية شعرها المصبوغ بالأزرق. تغوص في الصفحات، فتعثر على امرأة محطّمة، وحيدة منعزلة، هي الراوية نفسها، عالية صالح، امرأة لبنانيّة سبعينيّة تقيم في شقّتها في بيروت، تروي سيرة مدينة منهكة، أتعبت جنباتها الحرب بين أبنائها…
تبدأ الراوية سرد قصة حياتها الطويلة، وتفاصيلها، وتتقصّد مخاطبة القارئ لتلفت اهتمامه لمتابعة الحكي من الكلمات الأولى، وربما لإغرائه في متابعة الحكاية. وهي تقنية مغرية لجعل المتلقّي شريكاً في العمل، متفاعلاً مع الراوية، ومتعاطفاً معها.
ينطلق قطار القصّ، عندما تكشف الراوية عالية صالح أنّها صبغت شعرها باللون الأزرق من دون أن تدري حتّى: “يمكنك القول إنّني كنتُ أفكّر في أشياء أخرى، حين صبغتُ شعري باللون الأزرق. وقدحان من النبيذ لم يساعداني على التركيز. دعني أشرح”. (صفحة 9).
ومن ثم يندلق شلال السرد عن مكان حميم أحياناً، وآخر معادٍ في محطات كثيرة، عن بيروت الجميلة التي انطلقت من قلبها الطلقات الأولى معلنةً حرباً أهلية متوحشة وعنيفة ومدمّرة، لتصبح هذه المدينة الوادعة مدينةً للقتل والانتقام والفزع والجوع والدمار، فأفرزت شخصيات روائية مهزومة وتائهة وفاشلة في الحب وفي الحياة وفي العلاقات البينية الاجتماعية. شخصيات لا لزوم لها في زمني الحرب والسلم. وتنتهي بالإفراج عن الصناديق التي تحتوي الكتب المترجمة المتعفنة في رطوبة البيت البيروتي، والقرار بمتابعة الترجمة بعد خمسين سنة من الاستمرار في هذه الوظيفة الغامضة.
في وظيفة النقد
يُضفي النقد والنقّاد أحياناً مساحة جمالية على النص، قد لا يكون الكاتب ملتفتاً إليها، أو قاصداً لكثير مما كتبه، لكنّ التعمّق في دلالات النص والتفتيش عن مخبوءاته، يجعل النص أكثر جمالية وإبداعاً. وأعتقد أنّ هذا هو أحد أدوار النقد ووظيفته. بخصوص الرواية التي نتكلم عليها، فقد مررتُ على أكثر من مراجعة لها، بعدما فرغتُ من قراءتها، ووجدتُ كلاماً جميلاً وثناءً عليها، وهي الرواية الحائزة على جائزة “فيمينا” للرواية الأجنبية في العام 2016. ففكّرتُ كثيراً في المعايير والمواصفات التي تؤهّل عملاً ما للوصول إلى الفوز بجائزة عن رواية ما. حاولتُ جاهداً أن أعثر على مسوّغات لفوز الرواية بهذه الجائزة، وأخفقت. وبالمناسبة، أنا لستُ على معرفة بالكاتب ربيع علم الدين بتاتاً. وهذا ما حرّرني في كتابة رأيي النقدي، والنقد يخضع، شئنا أم أبينا إلى العلاقات الاجتماعية والصداقات وغيرها.
هل تحوّلت القراءة من متعة إلى معاناة وقصاص؟
يُجبر ربيع علم الدين القارئ على بذل جهد كبير وهو ينتقل بين الصفحات الكثيرة، والأحداث القليلة في الرواية، فيبقى منتظراً ما يمكن أن يحفّزه على المتابعة.
ولكنّ الكاتب – لسبب لا أعلمه – يعزف عن إغراء القارئ بأحداث مشوّقة تجعله يتعلّق بالسرد. فهو يتواطأ مع الراوية، وينقل إليها أو منها هذا الكمّ من الإحباط واليأس من الواقعين الاجتماعي والسياسي، فيشعر القارئ وكأنه منقاد إلى مساحة القرف الحاصلة اليوم. وينسحب هذا التذمر على الواقع الثقافي، فنجد الراوية المثقفة المترجِمة تنتقد بعض الأعمال الروائية الحديثة. تستغرق الراوية عالية صالح في الكتب والعناوين، وهي المترجِمة لعشرات الروايات التي كانت تترجمها عن الإنكليزية والفرنسية إلى العربية. ولكنها لا تنشر هذه الترجمات، بل تدفنها في صناديق، وتدفن الصناديق في الحمام ” أنا لم أنشر ترجماتي قط… عندما أفرغ من مراجعتي الأخيرة، أترك المخطوط أياماً قليلة، ثم أعيد قراءته كله مرة واحدة، إن كنتُ راضية عنه، أضعه في صندوق، وأغلقه بشريط لاصق، وأربط الكتب الأصلية بالصندوق من الخارج، لتكون العودة إليها سهلةً. أخزّن الصندوق في غرفة الخادمة، أو الآن في الحمام… أخلق وأدفن” ص 119.
تعبّر الراوية عن خيبتها، من اهتمام العالم العربي في الأدب والقراءة، لذلك هي لا تنشر ما تترجمه “في البداية فهمتُ أنّ ما أفعله، ليس قابلاً للنشر. لم يكن له سوق قطّ، وأشكّ في أن يكون له سوق. لا أحد في العالم العربي يبحث عن الأدب في حد ذاته، فما بالك بالأدب المترجم؟ ص119.
ثقافة الراوي أو ثقافة الكاتب
قد لا يكون الكاتب ربيع علم الدين قد وفّق في توزيعه لموضوعات روايته وتفاصيلها، ويكمن ذلك في إنهاكه القارئ بهذا الكمّ من العناوين والاقتباسات الأدبية، فيصبح القارئ أمام تدفّق كبير منها، يجعله في محطات كثيرة يأخذ موقفاً سلبياً من هذا الحشو الزائد، وغير المبرّر من الاستشهادات التي لا لزوم لها، إلا التعريف بثقافة الكاتب الواسعة. مع أنّ قصة الرواية وموضوعها جميلان ومبتكران، وكان باستطاعة علم الدين التوفيق بين أحداث الرواية، التي تتكلم عن امرأة مثقفة ومنعزلة وخائفة ومتمردة، عاشت أحداث الحرب الأهلية اللبنانية ومأساتها وتفاصيلها، وبين الاستغراق في الكتب وعناوينها وأسماء مؤلفيها وشخصياتها. وكأنها رواية تهدف إلى تجميع أقوال الكتّاب والشعراء، والإشارة إلى حيواتهم وطريقة موتهم.
تفتقد الرواية إلى عنصر التشويق، فهي تُشعِرِ القارئ بالملل، ويجد صعوبةً بالغة في الوصول إلى النهاية، فالفكرة فيها واحدة، واستطاع الكاتب أن يوصلها إلى القارئ. ولكنه يحاول تعقيدها قدر المستطاع. امرأة منزوية، منطوية، تحمل في نفسها مشاعر وانفعالات، هي مترجمة، تترجم الأعمال الأدبية، ثم تدفن نتاجها. تخاف من الخروج إلى المجتمع.
المشاهد في الحكاية مملّة وطويلة، وتُشعرُ القارئ بالغربة والوحشة، وأحياناً قد تشعره بالندم على اختيار كتاب يبعث فيه كل هذا الفراغ والتشتت. فخيط السرد متقطّع، ويدور ويدور حول الفكرة نفسها. والحوارات تخلو من أفكار مبدعة، وآراء يحمّلها الكاتب للشخصيات، سوى ما وردَ من آراء للكُتّاب والأدباء، الذين أسرف الكاتب في حشوها في كل صفحة، وأحياناً بين كل جملتين.
الشخصيات في الرواية مشتّتة، وتحمل عقداً نفسية متنوعة. المكان هو بيت الراوية، ومدينة بيروت. الزمان ممتد من الحرب الأهلية إلى زمن ما بعد الحرب.
كان باستطاعة الكاتب إدخال عدد غير قليل من الأحداث والحكايات التي تلوّن روايته، طالما هو يتحدث عن زمن الحرب، وما بعدها، وما حمله الزمنان من أحداث وأفكار ومتغيرات على المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية، ما يجعل الحكاية أكثر ألقاً ومتعةً. فإذا كانت الكتابة تخلو من متعة الحكي والقص، فما هي فلسفة وجودها ووظيفتها؟
حكاية بلا نهاية
يصرّ الكاتب حتى النهاية على عرض معلوماته وثقافته وقراءاته الواسعة، فتقول الراوية في الصفحة 310 والأخيرة: يمكنني محاولة اقتناص إنجليزية كوزي المصقولة في العربية… هل عليّ أن أكون هارديان أم القاضي؟
سأستخدم حبراً مقاوماً للماء – حبراً جافاً لا حبراً يهرب.
وتستشهد بوليام شكسبير في السونيتة 65 “فيبقى حبّي مشعاً بالضوء، وهو بالحبر الأسود”.
هنا تنتهي الرواية والحكاية.
في النهاية قد تفتح هذه القراءة النقاش على الأعمال الأدبية، شعراً ورواية، وطريقة مقاربتها، وكيف تصل إلى القوائم التي تجعلها مرشحة للفوز بالجوائز وتحقيقها. وهذه القراءة هي رأي نقديّ في الرواية قد يكون مصيباً أو غير مصيب.