قبلة الطفل ؛ الحدث وفنّ التّوالد والتناسج
قبلة الطفل ؛ الحدث وفنّ التّوالد والتناسج
صدرت عن منشورات قصص “نادي القصّة؛ النّادي الثّقافيّ أبو القاسم الشابي ” رواية “قبلة الطفل” للرّوائيّ معاوية الفرجاني. وهي الرّواية الفائزة بجائزة محمد العروسي المطوي للسرد الرّوائيّ 2022 الجائزة المغاربيّة في دورتها الأولى كشفت عن نصوص سرديّة وقصصيّة أصيلة في طرافتها ونسيجها السّرديّ والبنائيّ.
في الحدث الرّوائيّ: “لقبلة الطّفل” وقع وتوقيع يذهب بك بعيدا في المكان. ليعيدك قريبا في الزّمان. إذ الوجود الأصيل لا منته كأقسى ما تكون الحكاية من البشر الخطّائين. وكأقصى ما تعود من الرّسل المتسامحين. فلابدّ من حدث يشبّ في الرّوح فتستوي الأجذاع …أصول الحكاية وفروعها. توالدها وتناسجها. هي قبلة الطفل مدارها القصّة الأولى ومنتهاها…بدايتها هذه الرواية وقد تمّت واستوت وحُكّمت وأُجيزت…تبشّر “بالمعتوه” رواية أقرّ الروائيّ أنّها تتبع القبلة… هي جزؤها الثاني ربّما أو رافدها أو مجرورة إليها بحكم مهارة النسج من حدث أصيل تقام عليه الدّنيا ولا تقعد.
منذ البدء يصلنا الكاتب بمشروعه الرّوائيّ عبر العتبات. إذ يختار “لا تصدقُ الرّواياتُ حتّى تصدق الشّخصيات” تصديرا. ثمّ يهندس منجزه السّرديّ على ثلاثة فصول لها من العناوين ما يلي: – ما رشح عن الرّواة. – ما أقرّته الشّخصيات. – ما لم تكذّبه الوقائع. فصول كفصول تغيّر بيئتنا اليوم. لا تستوي… وإنّما تتعاقب لتنبت الزرع ويكبر الضرع ويرعى الخلق ما فلق الخالق من عدل الوجود ولظاه. فصول تتفاوت من حيث الأحداثُ وتوزيعُها على من وهبه السّارد وسيّده الوجود. واتّبع له سببا. فتوّزعت الأحداث في مقامها الأوّل على خمسة أحوال، وفي المقام الثاني كانت ستّة، وثالثها استوت ثلاثا. تشدّ جميعما إلى أخبار نسيم الجرو وفتحي الفيل والتيجانيّة عتيق. أسماء من صميم تونسنا العميقة المعتّقة، مبذولة لمصائرها مغروسة في ضمائرها، فالتة عن الحدّ. ففي أنبائها ما أبحر وغرّب وأصبح وأمسى وسكن حتّى استحال ندّا أو خرافة. ولك ساعتها أن تجمّع بين الوقائع ما فلت عن العقل وسكن الأعالي؛ أرواحا وقمم الأمكنة. من عل – حيث يسكن السارد- ترى بعقلك ما التهمه قلبك التهاما. يكتب معاوية الفرجاني بيد تفكّر كما يقول بارط… تفكّر بعيدا. وبعيدا تلك “أن يعيد الفلسفة للرواية” كما جاء في “ورد” الاعتراف من الفصل الأخير ترتيبا.. إلاّ أنّ هذا المتأخّر من المتن الرّوائيّ امتداد للمتقدّم منه، ومن تداعياته. تلك هي مهارة الرّوائيّ صانع السارد في جعل الأحداث متوالدة متناسجة، تشدّ إلى قلب طفل، قبلته. ومن أبرز خصائص الرّواية ومزاياها انحرافاتها السّرديّة المتعمّدة المتكرّرة. فمن حدث إلى آخر ومن شخصيّة إلى أخرى يتداخل الزمن و تولد الشخصيات وتنبثق الأمكنة وتتعدّد، ويتلاشى الزّمان أو يكاد وتأفل الشّخوص أو تكاد… فتتحوّل أركان القصّ إلى أطياف وأسماء أو تصير..ويوهم باعثها ببتر تماسكها وتسلسلها أو يحاول، وهو يثبّت شهائد الميلاد وحجج الوفاة ليخلق من نسيم الجرو الّذي مات نسيم الجرو الّذي انتخبته الحياة… فكان صاحب الرواية وفيّا للآباء إذ يؤجّلون تثبيت الميلاد، حتّى يجمعوا المواليد من الأبناء أو يصبروا على الحياة حتّى تصير… هكذا اختار مهندس القبلة أن يجعل لبطل القبلة “نسيم الجرو” حياة قبل الحياة تسكنه ولا تغادره. فينشأ على سعة من الأسطرة والقصّ العجيب…فاستحسن اللّعبة حتّى جعل للتيجانيّة ربّة القبلة ونارها اسما أجنيّا ” تانيلا” به كانت الحكاية شائقة وشائكة على درب الجريمة والقتل قائمة. قصّ مقيم في الجريمة وبها يحقّق كونه ويدفع فساده. قصّ معولم من “عين الصبح” الرابضة على مشارف طبرقة، إلى “سانديغو” بكاليفورنيا. من هنا “نحن” إلى هناك “هم”… غابات وصحارى يفرّق بيننا البؤس فحسب! على حدّ قول أنّ به الرّاوي. تلك اليد الّتي تفكّر جعلت الرواية بحثا دقيقا للأمكنة وصفاتها، والحضارات ومسارها، والجغرافيا وتأثيراتها، والمطارات وتقاطعاتها، والرّحلات وإبطالها وإبطاؤها… خيارات دقيقة حدثيّة تخلق وهج الرواية وواقعيّتها. فتستجيب لها وتستزيد. متفرّقات سرديّة تجمّعها اللّغة لا الأصوات… خذ قبلة الطفلة ففيها لغته. تلك الشارة الأولى الّتي تخرجنا من الحيونيّة إلى الإنسانيّة. فبقلة الطّفل اهتدى نسيم الجرو إلى صحو الوجود. واستقام أستاذا جامعيّا، اتّخذ الفلسفة اختصاصا. وبقبلة الطّفل سبحت التيجانيّة عتيق في نحت كيان تانيلا عتيق أيّ سباحة.. وبقبلة الطّفل تعافى فتحي الفيل من العُنّة. وبقبلة الطفلة استقامت ظلال الذّات واستدارت لكمالها وتمامها ونقصانها. نشيد من فكر وعلم. وتعديل لفكرة الخلق الأولى “حوت يأكل حوت وقليل الجهد يموت” تعديل بإتّقان ميزانه البرء من تعظيم الذّات…فكلّ شيء يؤخذ بالتّآخي والتّصافي والتصالح وقبول اختلاف الأذهان كما اختلفت الأبدان. فهذا جلال القماطي زوج التيجانية يعبر بها الجوّ ليصطحبها لأمريكا. بعد أن كُشفت وهي تقبّل نسيم الجرو قبلة الشباب ونارها. هناك تكبر وتتغيّر وتصير أمّا لنسيم الابن. فثكلى. وتصفو وتعود سيّدة نفسها . قضيّة معقّدة إذ تختفي تانيلا ويختفي نسيم. وجب ذلك لتتشابك الأحداث وتتوالد القصص الرّوافد تهب الرّواية مجراها ومرساها. وللأحداث مفتاح كنّا نخاله القبلة فحسب. فإذا لصاحبة القبلة مفتاح استأمنت عليه نصيبها من الهوى. فصار المفتاح لغزا مدفونا مدفوعا لوصيّة عاشقة ووفاء عاشق ندّ. المفتاح تيمة أخرى؛ رمزيّة تكبر كما كبرت الشخوص. فيجترح لها الرّوائيّ بدائل سرديّة توسّع زمن الحكي وزمانه. فنضّد الحلم والهواجس واللاوعي والنوبات حالات شتّى من صميم الأحداث تستشعرها الشّخوص في اللاّوعي أحلاما وهواجس و إغماءات. فتوحي بذكريات بعيدة أو أحداثا قادمة. هي أحداث بين اليقظة والمنام والغياب بقدر ما تحقّق انعتاق الشّخوص نفسيّا وفكريّا. بقدر ما تعاضد حركتها في المرجعيّ من الأحداث والأمكنة. في الخطاب الرّوائيّ:
تعهّد الخطاب الرّوائيّ في “قبلة الطّفل” بوظيفة تداوليّة فيها “شيء من عدل الرّوائيّ” في توزيع روافد الحكايّة على الرّواة من الشّخصيات. فتعدّدت مستويات الحكيّ. وتنوّعت الأصوات. وضُخّت الحوارات. فوهبت اللّغة الرّوائيّة ثراء وتنوّعا من صميم حبكتها. فأنطقت الشخوص بمنطوقها. فتمتّعنا باللّغة التونسيّة السّيارة في الحوارات وما رشح منها من صميم لسانها وخصوصيّته. كقول الرّاوي: كنت أرى أترابي يعدون خلف التيجانيّة عتيق وهي تجري مذعورة. كانت تجري تسبقهم كفرد حجل يهمّ أن يطير، وهم يتصايحون خلفها: – شِدّْ، شدّْ الدّقّازه شدّ… – شِدّْ ، شدّْ الدّقّازه شدّ… ووُشِّحت بفرنسيّة. وسادت العربيّة وهي تكشف عن مفاتنها. تميل بك إلى الشّعريّة كلّما انسجمت النفوس وتاقت إلى أرواحها وشدّتها الذّكريات. وتصير لغة “جبر” وبحث وحسابات ومحاسبة كلّما حقّقت ودقّقت. لوحات من نسج اللّغة الأمّ العربيّة وهي تحقّق الإبلاغ والتّواصل. تذهب بعيدا كاشفة عن أبعاد تعبيريّة للرّوائيّ في الفكر والسّياسة والاجتماع والأدب والمرأة والذّكر والأنثى والحياة والموت. كأن تقرأ:” وعدت أفخر بأبي وأنا طفل، وأكره أحمد بن صالح. لكن حين أفقت أشفقت على أحمد بن صالح وكرهت الحيتان الكبيرة. الحيتان الكبيرة تشوّه جميل الأفكار وتنهشها، أحمد بن صالح نهشته الحيتان الكبيرة. الحيتان الكبيرة لا تشبع.” أبعاد تعبيريّة تحقّق تأثيرا جماليّا وفكريّا من صميم الوظيفة المرجعيّة للّغة الروائيّة الّتي لم تخل من حجاج واحتجاج على الواقع و غبش المصير أثناء ردهات من تاريخ تونس الحديث؛ من زمن ولادة التيجانيّة عتيق 9جانفي 1969 إلى زمن زيارتها أرض الوطن أوت 2013،. تتأكّد وأنت في معمعان الأخذ بالقبلة والمفتاح أنّ الرّواية صناعة إبداعيّة لبنية اللّغة فيها الفضل كلّ الفضل. بنية اللّغة:
منذ العنوان- العتبة الأمّ- إلى آخر صفحة من الرّواية، واللّغة موزّعة بين الإيماء والإيحاء، متوسّلة الرّمز والانزياح لتبلغ مقاصدها الفكريّة والجماليّة. فإذا تتبعت زمن القراءة الّذي يبدأ من العنوان إلى منتهى المنجز الرّوائيّ. تجدك مشحونا بالإثارة والشّعريّة والرّمزيّة. فتعيد ما ورد على لسان الرّواي بالصفحة الأخيرة:” في السّنوات الاخيرة عاد كلّ من يعرف نسيم الجرو وابنه حلمي من قريب أو من بعيد يقول: لم يعد حلمي الرو هو حلمي الجرو بعد تلك القبلة. لم يعد ابن نسيم الجرو ذاك الفتى الّذي تعرفون. كام حلمي الجرو ذكيّا فطنا، غير أنّ أفكارا غريبة كانت تصدر عن ذاك الفتى. قالوا: إنّ والده جعله يأكل كتبا غريبة. في كلّ مساء كان حلمي الجرو يأكل الكتب الغريبة وينام. بعد تلك القبلة يقولون: عاد حلمي مسكونا أو كالمسكون بقوّة خارقة. ربّما عاد مسكونا بجنيّة.” غير أنّ هذه البنية الرّمزيّة للغة، لم تمنع الروائيّ من اللّجوء إلى اللّغة القائمة على العرض المباشر للأحداث دون مواربة كلّما تعلّق ذلك بالوظيفة المرجعيّة لهذه الآلة الخطيرة؛ اللّغة. فيقدّم الأحداث بتأريخ مضبوط معلوم سلفا بحيثياته السّياسيّة والاقتصاديّة، مخبرا بتجليّاته الثّقافيّة السّلوكيّة. لقد شعّت الرّواية ببنية اللّغة المرجعيّة والجماليّة إلى “مدينة ثقافيّة” تدافع عن هويّة ثقافيّة تحاور وتجاور، تخبر وتنشئ كيانا قادرا على الانفتاح والتّجلّي، ينتفِض لينفُض سوءة “الكيتش” ممّا يعلق من القوقعة في هشيم الذّات وأورامها فيما ينحت الكيان؛ النِظرة للمرأة والرّجل والدين والسياسة. سرديّة “قبلة الطّفل” تتبدّى في أحاديث النّاس من خارج النخب الاجتماعيّة والثّقافيّة وداخلها. تكشف عن أثلام الهويّة الذّاتيّة وصراعاتها. تناشد الأمكنة أن تكون دليلا بجمالها عن عمق زمنها وزمانها، شاهدة على العباد حتّى تكون دليلا أصيلا عن البلدان. قبلة الطّفل: كشفت رواية “قبلة الطّفل ” لمعاوية الفرجاني عن بئر”حكايات” لا تنتهي تسكن حكّاء يحفر حفرا بمقدار ما يتطلّب الحكي من إسراع أو إبطاء. وبقدر ما يستوجب الحفر الدّقّ والطّمر . فقبلة الطّفل كانغراز الغلاف الصّخريّ الكثيف تحت صفائح أقلّ كثافة. تنكشف بالحفر وتنصهر. فتهتزّ أو ترتج خالقة جسدا ثالثا، هبه من الإنس أو الجنّ! المهم أن يأكل الكتب الغريبة!