أدب وفن

وئام شرماطي في “قبر مكشوف على السماء” محاولة لاستبدال الأكفان بقماط دافئ!

مارلين سعادة

بعد فوز رواية “قناع بلون السماء”، للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي، الصادرة عن دار الآداب،  بجائزة البوكر لعام 2024، نقرأ عن وصول رواية “قبر مكشوف على السماء”، للكاتبة الجزائريّة وئام شرماطي، الصادرة عن دار غراب للنشر والتوزيع، إلى القائمة القصيرة لمسابقة “القلم الذهبي”. يلفتنا في الروايتين المتقدّمتين ورود ذكر “السماء”، فنتساءل هل ضاقت الأرض بسكّانها حتى بات الكلّ يبحث عن منفذ، متطلّعًا نحو الأعلى مستجيرًا بالسماء؟ ولا عجب، إذ تبقى القبّة المحيطة برؤوسنا والمفتوحة على عالم رحب نكاد لا نعرف عنه إلّا اليسير، المتنفّسَ الوحيد، وقد كرّسها خيالنا اللامحدود في تصدّيه لعقلنا المحدود، إلى مقرّ دائم لخالق الأكوان الذي لا يحدّه مكان أو زمان، معتبرًا أنّ هذا الخالق قد هيّأ، في سمائه هذه، لأرواحنا مساكن أبديّة تعوّضها عن كلّ مشقّة ومعاناة، تنعم فيها بالحرّية والفرح الحقيقيّين، متخطّية قيود الأرض!

فضاء مأسوي

تتشابه هاتان الروايتان بفضائهما المأساوي المهيمن، بما يولّده من مخاوف وعبثيّة وضياع… تستّرت كلّها خلف العنوان المزدوج المعنى، إذ يوحي فيهما بالشيء وضدّه؛ فالقناع الذي يخفي في العادة الوجه الحقيقي، بدا شفّافًا في رواية خندقجي متّخذًا لون السماء، مبتعدًا عن أهدافه الأساسيّة. نجد الأمر نفسه في  رواية “قبر مكشوف على السماء”، هذا العنوان المراوغ الذي يوحي لنا أنّ ظلام القبر بدّدته رحابة السماء وشساعتها، إذ تحيلنا كلمة “السماء” إلى الحرّيّة والأفق المفتوح نحو الخير الأعظم الذي يحرّرنا من قيود الأرض… إلّا أنّ خوضنا في الرواية وتقدّمنا في استعراض أحداثها يؤكّدان لنا أنّ ما وشى به العنوان غير صحيح، وأنّ القبر اتّسع وامتدّ ليشمل مدنًا بكاملها، محوّلًا الوطن إلى حفرة تفتح شدقيها على وسعهما لابتلاع الضحايا، وكأنّها عطشى للدماء والجثث، ولا تعبأ بالقصاص أو ترتعد  من سخط الخالق. 

من البداية تكشف لنا شرماطي فداحة الواقع وكارثيّته، كأنّها تقطع علينا طريق الأمل بانتصار الخير على الشر، فتخبرنا بكلّ وضوح عن واقع الإنسان على هذه الأرض وفظاعته: “كذبوا علينا حين أخبرونا أن الوحوش والغيلان هي أكثر الكائنات المخيفة، كبرنا واكتشفنا أنه ما من كائن مخيف أكثر من الإنسان نفسه… آن الأوان لنكف عن كتابة قصص خياليّة، وإنتاج أفلام سينمائيّة، عن الوحوش والمسوخ، فمهما بلغت درجة مخيّلة مؤلّفها، فهي لن تضاهي قصصًا واقعيّة، تحكي عن جرائم ارتكبتها أيدي البشر”. (ص 15)

نظرة بانوراميّة

في نظرة بانوراميّة إلى الرواية، نلاحظ أنّها مقسّمة إلى ثلاثة أقسام: مقدّمة تمهيديّة مع “رحيل”، قبل الإبحار في يمّ السرد أو متن الرواية مع “عيسى”، ثمّ الخاتمة لكلّ ما سبق من أحداث؛ بحيث تشكّل المقدّمة والنهاية معًا بوّابةً  بمصراعين، يفتح أحدهما ليدخلنا عمق الرواية، ويقفل الثاني على خواتيمها، فتلتقي الدفّتان مجدّدًا بعودة الشخصيّات التي افتتحت بها الكاتبة الرواية بعدما غيّبتها خلال المتن الذي امتدّ ليغطي معظم مساحتها؛ فبعد لقاء “رحيل” بعيسى منصوري (ص44) نشعر بها تسحب يدها من يدنا وتتركنا نتابع الرحلة مع عيسى الذي التقته في المقابر وأخذ يروي لها سيرته، من دون أن توقفه أو تقاطعه بسؤال أو استفسار، حتى أنّنا نكاد ننسى بالكامل وجودها، لولا ذكره لها عرَضًا، في مواضع محدّدة ومعدودة، حيث أشار إليها مرّتين في سياق السرد ص 158: “لكن أتعلمين أيتها الصغيرة؟” و ص 176: “لا تنظري إليّ بتلك الطريقة أيتها الصغيرة”؛ كما طرح فكرة سبق أن عرضتها هي، في قوله: “… هم مثل مجموعة أصفار نكتبها على يسار العدد، لا فرق إن تركناها أو حذفناها… (ص 98) 

العيش وسط المقابر

رغم الاختلاف في جنس بطلَي الرواية وعمرهما ووضعهما الاجتماعي، يلفتنا تشابه مواقفهما والحكمة التي يتحلّيان بها، والتي تبدو في بعض المواضع مبالغًا فيها، لا سيّما أنّها تُنسب إلى طفلة لم تتعدَّ سنّ المراهقة؛ وكأنّها تشرّبت مرارة الحياة بفعل ظروفها القاهرة التي حكمت عليها بالعيش مع أسرتها وسط المقابر، ما أهّلها لفهم واقعها المرير وتقبّله بحكمة: “لقد كانت [أمي] تفتح عينيّ على الحياة، وتريني أنّها ليست ورديّة كما يزعم البعض. تنبّهني أنّ الخير نادرًا ما يفوز، وأنّ الغلبة في الكثير من الأحيان تكون للشر، لأنّ الشرّ لديه فائض لاعبين، في حين يعاني الخير من نقص في تشكيلته على الدوام”. (ص 16)

وهو ما يؤكّد أنّ الكاتبة تمرّر الأفكار التي تلخّص قناعاتها، وتعكس أحاسيسها ومشاعرها واستنتاجاتها الشخصيّة، بأسلوب أدبيّ هادف، مضيئةً على بعض القيم، لا سيّما الحب، كما في قولها: “الحب كالمطر، ينزل على قلوب جدباء فيحييها”. (ص 54) وقولها: “إذا كانت كل الموازين في العالم مختلّة، فميزان الحب هو الميزان القويم الوحيد”. (ص 56) وتصوغ جملها بأسلوبٍ فنّيّ جميل، كما في قولها: “أصيبت قلوبنا بالتخمة من الفواجع”. (ص 281)، أو قولها: “لأنّه لا يوجد مضاد يشفي من لسعات الندم”. (ص 282)

الثورة على الظلم

كما تستثمر مرارة واقع شخصيّاتها لنقد مجتمعها ونقل صورة واضحة عنه تستخدمها كرسالة لبثّ الوعي والثورة على الظلم، كقولها: “ميزان المساواة بين المرأة والرجل دائما مختل في المجتمعات العربيّة، كفّة المرأة مائلة دوما إلى الأسفل”… (ص 38) مستخدمةً الأمومة وطُرُق تعامل الأمّهات مع أولادهنّ، مثالًا يعكس واقع بعض الدول بشكل سافر، موضحةً كيف تضطهد أبناءها وتميّز بينهم من غير أن تنصفهم، ما يدفعهم للهرب واللجوء إلى أحضان دول أخرى طمعًا بالرعاية والتعويض عمّا خسروه:

“الوطن هو الأم، والأمهات أنواع:

– منهنّ المحبّات… 

– ومنهنّ القاسيات، اللواتي لا تعرف طعم قبلاتهن، لكنّك تعرف جيّدًا طعم صفعاتهن. يعاملنك معاملة زوجة الأب، وليس معاملة الأم…

– وهناك الأمهات البديلات، تهرب إليهنّ بحثًا عن فرصة، فإما يكرمنك أو يهنّك”. (ص 40

التقاليد البالية والمحقّرة للمرأة

أيضًا تضيء على واقع الأنثى المحاصر بالجهل الطاغي على مجتمع بكامله، والمقيّد بالتقاليد البالية والخالية من الحسّ الإنسانيّ، والمحقّرة للمرأة، وتعرضه بأسلوب تهكّميّ ساخر: “دم العذرية يجب أن يندرج حتما، في قائمة أغلى السوائل في العالم، مع سم العقارب والنفط، حتى إنّه يجب أن يتصدّر تلك القائمة، لأنّه الأكثر غلاء بينها جميعا، فهو يكلف الكثيرات حياتهنّ يوميًّا”. ( ص 91) مستخلصةً من الألم عِبرًا، كما من الحبّ: “اثنان يفجّران الموهبة لدى الإنسان: الحب والألم”. (ص 110) 

***

من رحم واقع بلادها المرّ نسجت وئام شرماطي أحداث روايتها ولقّحتها ببذار الحكمة المؤمنة بقدرة الحب، فهل تنجح في جعلها قماطًا دافئًا للجيل الجديد، يقيه لسعات الماضي الموجع بأكفانه الباردة والمفجعة؟! 

نقلا عن موقع ألف لام Aleph Lam

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى