منتديات

شارون بعد أم هارون…؟!بقلم الشاعر أنور الخطيب

الحديث عن العلاقات الخليجية الإسرائيلية ليس وليد مسلسل أم هارون أو مسلسل مخرج7، إذ يدور الهمس عنه منذ سنوات، مرة جهاراً ومرة في الخفاء في أروقة السياسة والاقتصاد والأمن، وينشط الحديث وتزدهر الشائعات والأقاويل حين يقوم مسؤول أو وفد “إسرائيلي” بزيارة إحدى البلدان الخليجية، أو يقوم وفد خليجي رسمي أو نقابي أو ديني بزيارة الأراضي المحتلة، وتُلتقط الصور أو تُسرّب من قبل “الإسرائيليين”، أو تنشر وسائل الإعلام “الإسرائيلية” أخبار الزيارة مع مقالات تحليلية تهليلية، وتشعل وسائل التواصل الاجتماعي، فيقوم فلسطينيون بتوجيه الشتائم لرموز الدولة أو الدول الخليجية، فيرد عليهم خليجيون، وغالبا ما يأخذ الحوار منحى غير علمي أو ثقافي أو حضاري، فيمنّن الخليجي الفلسطيني بالمساعدات التي قدمتها بلاده ويرفقها بوابل من الصفات السيئة للفلسطيني متبوعة بالأحكام؛ الفلسطيني ليس عربيا وشحاذ وغيرها من الأوصاف التي يعمّمونها، ما يخلق توتّرا كبيرا بين الشعبين، ويلاحظ في هذه المعمعة صمت المسؤولين الرسميين في الجانبين

الخليجيون ليسوا وحدهم من يستقبلون وفودا “إسرائيلية”، وغالبا ما يحدث هذا في مواسم المؤتمرات العالمية التي تستضيفها دول خليجية أو مواسم البطولات الرياضية، التي يرى الخليجيون أن حضور “الإسرائيليين” يتم بدعوة من المؤسسات الاقتصادية والرياضية العالمية، كأن تستضيف دولة خليجية مؤتمراً لصندوق النقد الدولي، أو بطولة للكونغ فو أو المصارعة الحرة، ويحدث أحيانا أن تقوم الدولة بدعوة تلك الوفود وفقاً للوائح وقوانين المؤسسات العالمية، فمن غير المعقول مثلا وفق اعتقادهم، عدم حضور وفد “إسرائيلي” لمباريات كأس العالم لكرة القدم الذي ستستضيفه قطر في 2022، لأن الفيفا لن ترضى، ولأن قطر لن تقبل بأن تتّهم بالعنصرية واللاسامية، وهذا مثل بسيط فقط أوردناه لوضوحه. قلنا إن الخليجيين ليسوا وحدهم، لأن دولا سبقتهم في إقامة علاقات رسمية مع “إسرائيل” مثل مصر والأردن، ووقعتا معها معاهدات واتفاقيات منذ سنوات طويلة أدت إلى افتتاح سفارتين في القاهرة وعمّان، وهذا ما سمح بزيارات وفود “إسرائيلية” متتالية لكل من البلدين، بل سمح بحضور وفود سياحية “إسرائيلية” أيضا، ولم يعد أحد يوجه اللوم أو اتهامات لهما بخيانة القضية الفلسطينية، كأن التهمة سقطت مع تقادم الزمن. أما من سبق جميع هذه الدول فهم القيادات الفلسطينية ولا أقول الفلسطينيون، التي وقعت اتفاقيات عديدة وأبرزها اتفاقية أوسلو المشؤومة، وهناك تواصل مستمر بين المسؤولين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” لأسباب كثيرة منها، التنسيق الأمني، أو محاربة الإرهاب، أو تحصيل الضرائب، أو الإفراج عن السجناء، أو الكهرباء والماء والأموال التي تحجزها “إسرائيل” وغيرها، ومرة أخرى لا أحد يتهمهم بالتطبيع والخيانة إلا حين يقوم أحد من الفلسطينيين بمهاجمة مسؤول عربي

وتستند الدولتان العربيتان أو الدول الأخرى، خاصة دول الخليج منطق يقول: (إذا كان أصحاب الشأن قد وقعوا اتفاقيات سلام مع “إسرائيل”، فلماذا يُخَوّن الآخرون حين يتواصلون مع الإسرائيليين، ويقول منطقهم غير الرسمي إن “إسرائيل” لم تهدّد أمن الخليج بينما إيران تفعل ذلك. وهذا مبحث آخر لن نتناوله بالحديث

الرأي العام العربي الشعبي يرى أن دول الخليج ليست لها حدود مع “إسرائيل” وبالتالي ليست مضطرة لإقامة علاقات معها، تكون بوابة لدخول “الإسرائيلي” أراضيها، ويضاف عنصر آخر ذو طابع ديني، يستهجن أن تقدم دولة في عنقها حماية الأماكن المقدسة بإقامة علاقات مع اليهود الذين تآمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منطلق إسلامي لا علاقة له بفلسطين نسبياً

لقد بسّطنا المسألة حين ذكرنا سبب قيام الدول المذكورة بتوقع اتفاقيات مع “إسرائيل” وكأنه نكاية أطفال، لأننا لا نريد الخوض في الأسباب الأخرى التي تجعل دولا عربية تصالح “إسرائيل” بينما الفلسطينيون لم يحصلوا على أي حق من حقوقهم، ولا سيّما فلسطينيو الشتات، وهذا الفشل لا يعود بالطبع للفلسطينيين وحدهم وإنما يشاركهم العرب هذا الفشل، وكل يوم يمر، يغذي السلوك العربي إحساسا بالأمل لدى “الإسرائيليين بإقامة علاقات مع دول أخرى غير مصر والأردن من دون أن يقدموا شيئا للفلسطينيين، بل على العكس، يهددون بضم الضفة الغربية واجتياح قطاع غزة. وعلى الرغم من دور العرب في تعزيز الفشل إلا أن الفلسطينيين يتحملون القسم الأوفر من الفشل والهزيمة

إن اتفاقيات الصلح التي ربطت بين مصر والأردن والفلسطينيين، والزيارات واللقاءات المتبادلة بين معظم دول الخليج و”إسرائيل”، والسكوت التاريخي والزمني، واستضافة مسؤولين “إسرائيليين” على الشاشات التلفزيونية العربية وبشكل يكاد يكون يومياً، وافتعال عدو مشترك، أحدث تراكماً مهّد لحالة من القبول أدى إلى ظهور مسلسل مثل أم هارون، يؤدي أبطاله أدوار شخصيات يهود كانوا يعيشون في الخليج أو في الكويت تحديداً، وظهور مسلسل مثل “مخرج7” يتحدث بلغة شريحة خليجية قليلة جدا عن العلاقة مع إسرائيل، وانتهز منتجو المسلسلين المزاج العام النائم، وغياب مصطلحات المقاومة والثورة، وحضور مصطلحات ثقافة السلام والانتعاش الاقتصادي والرخاء، ليقدموا هذين العملين بنوايا ليست بريئة

إن إسرائيل تعلم علم اليقين، وتدرك إدراكا تاماً أن الاتفاقيات التي وقعتها مع المسؤولين الفلسطينيين والمصريين والأردنيين، والتي قد توقعها مع دول خليجية لن تفضي إلى تطبيع يُذكر بين الشعوب، وتجربة مصر والأردن خير دليل، إذ لا تزال “إسرائيل” في وعي الشعوب العربية كياناً صهيونياً محتلا لفلسطين، وعدواً كريهاً وعنصرياً وإرهابياً ومرتكباً للمجازر، وهذا ما يقلق قادة “إسرائيل” على المدى القصير والطويل، لأن وجودها سيبقى في خطر طالما ظلّت منبوذة في محيطها من الشعب والطبقات الوطنية المثقفة ومجموعة من الأحزاب. وهذه المشاعر الوطنية لا تقتصر على الفلسطينيين والمصريين والأردنيين، بل هي متأصلة بنسبة كبيرة جداً في شعوب دول الخليج العربي، ولا ننسى شعوب المغرب العربي أيضا الذين لديهم المشاعر ذاتها، وفي النهاية، فإن التطبيع الحقيقي يكون مع الشعوب، وهذا صعب جدا في المدى المنظور، ويحتاج إلى تأهيل قد يستغرق عشرات السنين

المخاوف التي يعيشها العرب والخليجيون تنبع من الأطماع “الإسرائيلية” التاريخية في البلاد العربية ومنها الخليجية، وقد ذكرها الدكتور ريّان ذنون العباسي، رئيس قسم الدراسات السياسية والإستراتيجية في جامعة الموصل العراقية، في مقال له نشره في صحيفة دنيا الوطن بتاريخ 18/11/2009 بعنوان “الأطماع الإسرائيلية في البلاد العربية https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2009/11/18/180192.html ) وأشار المقال إلى وثيقة تاريخية صادرة عن وزارة الخارجية البريطانية برقم (F.O. 371/3053/ w.44/82421/84173.)، وصفها الكاتب أنها تثبت من دون شك وجود مشروع صهيوني اقترحه الطبيب اليهودي الروسي روتشتين عام 1917 لإقامة دولة يهودية على ارض الإحساء والبحرين. كما أشار الدكتور ريّان إلى أنه في أثناء انعقاد اجتماعٍ بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي روزفلت في (البحيرة المرة الكبرى) في مصر في 14 شباط 1945، طلب الأخير من الملك السعودي أن يسمح لليهود القيام بالهجرة نحو الحجاز لكن العاهل السعودي أبدى معارضةً شديدةً ولم يرغب في مناقشة هذا الموضوع بالمرة. وذكر الكاتب أيضا ما قاله بن غوريون بعد وقوع مدينة القدس الشرقية تحت الاحتلال الصهيوني في العام 1967:(لقد استولينا على القدس واستعدناها ونحن اليوم في طريقنا إلى يثرب). وأشار أيضا إلى أنه عندما قامت رئيسة وزراء العدو الصهيوني جولدا مائير بزيارة إلى ميناء (إيلات) بعد عام 1967 تطلعت نحو الجنوب ثم قالت:(إنني أشم رائحة أجدادي بالحجاز وهي وطننا الذي علينا أن نستعيده..)

وردت هذه المعلومات في مقالة لرجل أكاديمي، وبالتالي نميل إلى تصديقها، ومن دون أدنى شك، فإن طموح “إسرائيل” الوصول والسيطرة على منابع النفط في الخليج قائم، وهو ما يثير الخوف والقلق، ومنذ سنوات طويلة تتردد المقولة “الإسرائيلية”، (يجب على التقنية الإسرائيلية أن تشارك في إدارة النفط في الجزيرة العربية). وأستطرد وأقول أن دول الخليج ستندم ندماً كبيراً لو أقدمت على التطبيع مع “إسرائيل”، وفتح أراضيها للزوار والسياح ورجال الأعمال والشركات والفرق الفنية والوفود الثقافية، لأنهم “اليهود” سيبذلون قصارى جهدهم لتحقيق حلمهم التاريخي، وربما نرى مسلسلا عن شارون بعد أم هارون. لكنني شخصياً، لا أتوقع أن يتم أي تطبيع علني لأسباب قد نذكرها في مقال لاحق

القضية أبعد من مسلسل أم هارون، وأبعد من فلسطين والتطبيع، إنه التسلل التدريجي للعقلية العربية بغية قبول الشخصية “الإسرائيلية” والتعامل معها من دون كراهية، وحتى ينجحوا في ذلك، فإنهم يقومون بتزوير التاريخ وتنظيفه من مذابحهم ليحققوا القبول في المجتمعات العربية الصاعدة، معتمدين في ذلك على الأجيال التي لا ذاكرة لها ولا اهتماما بالسياسة والقضية الفلسطينية. وهذه هي مهمة الأعمال الدرامية مثل (أم هارون). وقد أعجبني شباب كويتيون وسعوديون كثيرون تصدوا لمحاولة تزوير التاريخ في المسلسل، ولولا قناعة سمو أمير الكويت بذلك لما أصدر أمرا بوقف المسلسل

لست في مقام شتم أو تحقير أحد، لكن يؤلمني أن أرى شباناً عربا يشتمون الفلسطيني ويحطّون من قدره إنسانياً ووطنياً، ويعظّمون “الإسرائيلي”، ويؤلمني أكثر أن يكون من ضمن هؤلاء كتاب وشعراء وفنانون، ما يجعل المؤسسة الرسمية مطالبة باتخاذ موقف جاد تجاه هؤلاء، إذ لا علاقة لطبيعة هذا الحوار بين الطرفين، الفلسطيني والخليجي، أو العربي والفلسطيني بحرية الرأي، وهوَس بعض الشباب بالشهرة والانتشار لا يكون بالمساس بقضية مقدسة كالقضية الفلسطينية (وبالمناسبة، أحدهم قال إن القضية غير مقدسة)، كنوع من العبث والتطرف في إظهار الغباء والانبطاح أمام العدو الإسرائيلي

*نقلا عن صحيفة المشهد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى