أدب وفن

كَرَم مِلْحِم كَرَم (الحلقة الثانية) وُجْدانٌ للُّغةِ في حُضُورِِ للكَلِمَة

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

مِنْ حَقِّ “كَرَم مِلْحِم كَرَم” أنْ يُعْرَف عَبْرَ ديناميَّةِ حضوره الكِتابي المِعطاءِ وغزارةِ هذا الحضور. إنَّه رَجُلُ صحافةٍ ينمازُ مِن سِواه، بما أصدره من صُحُفٍ ومجلاَّت وما حرَّره من موادٍ أغنت هذه الصُّحف والمجلاَّت وأعطتها فرادة عن سواها؛ كما هو رَجُل أدبٍ، أشتُهِرَ، بين ناس عصرِهِ، بما أنشأهُ من أعمالٍ قَصصيَّة وروائيَّة أَثْرَت، بنوعيَّتها، مكتبة الأدب العربي.

ولكن من حق كَرَم ملحم كَرَم، ومن واجب أهل العربيَّة ودارسيها، أن يُعْتَرَف به عَلَماً أدبيَّاً مُمَيَّزاً في النِّصف الأوَّل من القرن العشرين، لا لِغزارة ما أَنْشأ وحرَّر، ولا لِرِيادَةٍ مُعيَّنة في القَصِّ والرِّواية العربيين، فحسب، بل لِنَوْعِيَّةٍ مُمَيَّزة في تَعامُلِهِ مع وُجْدان اللُّغةِ العربيَّة، وكيفيَّة باهرةٍ في تَجَلِّي هذا الوُجدان بالكَلِمة التي كان لها أن تحضر عَبْرَ كتاباته الغزيرة والرَّائدة في آن.



هَمُّ الصحافي أن تَصِل مادَّته الكتابيَّة إلى مُتَلَقِّيه بأكثر السُّبل سرعة وأقصر المناهج تأثيراً؛ فكثرة من مُحرري الصُّحف وكتَّابها يُصِرُّون على عدمِ تمكُّنِ المُتَلَقِّي من وقتٍ يصرفه على معاينة ما يُقَدَّم له من مواد في الصَّحيفة أو المجلَّة، فجلُّ هَمِّهِ إطلاعٌ سريع وتفاعلٌ أكثر سرعة. ومن جهة أخرى، درج روائيُّون عديدون على اعتبار مُتَلقِّيهم مشغوفا، بشكل عام، بصورة مؤثِّرة تحمل مضمون ما يريدون توصيله أو يسعون إلى التَّعبير عنه، بِغَضٍ للنَّظر عن تشكُّل هذا المضون في بنائيَّة وجوده. وهكذا، كان لكثير من نتاج الصُّحف والمجلات، وحتَّى أدبيَّات القَص، أن يركِّز على تقديم النُّصوص بما لا يحفل بالأحقيَّة الطبيعيَّة والعضويَّة للُّغَة فيها؛ فكان لكثيرٍ من المُرْسَلات الكتابيَّة أن تتقدَّم من مُتَلَقِّيها، لعدم الاعتناء بفاعليَّة اللُّغة فيها، وهي تشكو إعوجاجا في تشكُّلِها ووهناً في حضورها، بل وخيانة لحقيقة وجودها الثَّقافي والجمالي فضلاً عن المعرفي. أمَّا كَرَم، فقاصٌ وروائيٌّ، من قماشة أخرى غير هؤلاء، ومن صميم أجواء رياديَّة غنيَّة في عمق تعاملها مع المكتوب، ووعي الارتباط العضوي لتشكُّلِه عَبْرَ تلاحم التفاعل بين ما فيه من فكر ولفظ وصورة وتعبير؛ ومن هنا تبرز العناية الرياديَّة والمُمَيَّزة لكَرَم في تعامله مع ما يمكن تسميته “وجدان اللُّغة في حضورِ الكلمة”.


        أَدْرَك كَرَم، عَبْرَ ما تشهد له المُمَارسة، أنَّ الكتابة بالعربيَّة يجب أن تراعي حقيقة حضور اللُّغة فيها. ومن هنا، فقد عَمِلَ على أن يصل نصَّه إلى مُتلقَيه مُفعَماً لا بصوابيَّة للصَّرفِ والنَّحو فيه فقط، بل عابقاً بجماليَّة ما في اللُّغة من جزالة يمكن أن تمنحها لألفاظها. ولذا، فإن مُتَلَقِّي نصوصَ كَرَم يجد نفسه أمام بنائيَّة للنَّص متكاملة فيما بينها، ومتكاملة مع تاريخها وثقافتها وواقعها؛ وناهدة، من ثَمَّ، إلى السُّموِّ بذاتها إلى معارج راقية من التَّلقِّي الفاعل المؤثِّر، وليس التَّواصل السَّطحي الآني مع موضوع أو أطرافٍ عابرةٍ لموضوع. فالكتابة عند كَرَم، في الصُّحف والمجلاَّت كانت أو في القصص والرِّوايات، تتجاوز ما هو إخبار وكل تصوُّرٍ ساذج للتًَّوصيل، لِتَحُطَّ في رحابِ خلق تفاعل معرفيٍّ ثقافيٍّ جماليٍّ بين المتلقِّي والنَّص.

        يكتب كَرَم، في نصٍّ يُخاطب الوجدان والعاطفة، فلا تقتصر كتابته على مجرَّد فِكْرٍ وجدانيّ، ولا تقتصر تعابيره على صُوَرٍ عاطفيَّة، بل يقوم النَّص على ما يمكن اعتباره تلاقٍ شكلانيّ للفعل الوجدانيّ، يتكاملُ عَبْرَ بنائيَّة تجمع تفاعلاً عضويَّاً للفكر والصُّورة واللفظ. إنَّه نصٌ لكرم أُعطي عنوان “أمُّك … دُنياك”:

أيها الباكي من خيبة، المتوجِّع من ظلامة، المهجور إلاَّ من الغدر، النَّائي عن كل مرحمة، إني لأتحسَّسك في مدلهم الحيرة. تريد الوقوع على الإخلاص فلا تهتدي. وتبغي الافضاء بالنَّجوى إلى من يُشاطرك اللهفة فلا تجد حولك كيفما ملت بباصرتيك غير نطاق من إعراض، وعالم من شماتة.”

ويَكْتُبُ كَرَم في أقصوصة تقوم على سَرْدٍ حَدَثِيّ يعتمد على السُّرعة والمفاجأة والعاطفة الإنسانيَّة وينتهي إلى ما يمكن اعتباره حكمة أو خلاصة؛ فلا يأتي نصُّه هذا إلاَّ نتيجة زواج تناغميٍّ أخَّاذ بين جميع عناصر تشكُّلِه البنائي، مُتيحاً للقارئ تفاعلاً حرَّاً بين الرَّصانة والأسى والضَّحك والشَّماتة واستخلاص العَبْرَة الموحيَّة المشيرة. إنَّه نص من أقصوصة لكَرَم حملت اسم “بائع المُعَلَّل”:

فأبى إلاَّ أن ينضو عنها قميصها. ومزَّق هذا القميص فانقلبت امرأته على بطنها. لن تبيح له رؤيتها عريانة. وشقَّت بصياحها وعويلها آذان الليل. ولكن أبا سليم كان قد استطاع أن يرفعها بين يديه، وإذا به يرى –ويا للخيبة الصَّافعة في ما يرى- وسادة مشدودة إلى بطنها والبطن أملس. فأعمته الخزية وأفلت امرأته من يديه تترضرض على الأرض. هذا منتهى الخداع. وجلجل بمرارة: من يحبل بالوسادة فماذا يَلِد، هل يَلِد غير القطن والصُّوف؟”

ولا يخالف كَرَم منهجه الكتابي هذا، وسعيه إلى المتلقّي عَبْرَه، عندما يكتب في النَّقد الأدبيّ؛ فلا يترك دقَّة التَّحليل ووعورة سرد نتائجه تُجافي جمال التَّعبير، ولا يسمح للموضوعيَّة أن تبقى على ما في جلبابها من جفاف ، فَيُسَرْبِلها بذاتيَّة تُقَوِّي من فاعليَّة تأثيرها وتزيد من أَلَقِها ووضوح مساراتها بعيداً عن تطويل، تفسيريٍّ أو توضيحيّ، قد يجد بعضهم عدم القدرة عن الابتعاد عنه عند غوصهم في بحار ما هو موضوعيّ.

يَكْتُبُ كَرَم، باحثاً في شخصيَّة الأديب طانيوس عبده ونتاجه الأدبيّ، في دراسة  أُعطيت عنوان “الرَّفيق طانيوس عبده”:

“وللرجل يدٌ على القصة العربية مع نزوعه فيها عن الوضع. فلفت إلى هذا الضَّرب من الأدب جماعة من المنشئين بما نثر من بدائع الغرب ونفاواته. فوطَّأ في ترجماته، على وهنها، للقصص العربي في نحوه نحو الاختمار فالانبثاق. وقد أقام للقصة في لغة الضَّاد سوقاً رائجة باع فيها واشترى وحفز إليها أرباب الفكر والدَّهماء”.

ليس، ههنا المجال، لتقديم دراسة أكاديميَّة موسَّعة حول هذا المنحى عند كَرَم ملحم كَرَم؛ إنَّما هي عُجالة من باب لفت النَّظر إلى جوهر تجربة فذَّة في دنيا كتابة النَّص العربي، في مختلف تنوُّعات وجوده وفاعليَّاته. وهي تجربة تتميَّز عند كَرَم بهذا الرَّبط العضوي التَّكامليّ بين عناصر النَّص الكتابيّ؛ وهي تجربة قلَّما تطرَّق إليها دارسوا كَرَم، بيد أنَّ مفتاحها الأساسيّ يكمنُ في اكتشافِ ما عند كَرَم من منهجٍ في تأكيد أساسيَّة تلقي النَّص الكتابيّ العربيّ عَبْرَ التَّركيز على فاعليَّة وجدان اللُّغة العربيَّة في حضورِ كلماتها عَبْرَ هذا النَّص.

*نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى