موسم الهجرة إلى الحياد
الدكتور طارق عبود
موسم الهجرة إلى..الحياد
شغل المشهدَ السياسيَ اللبناني اليوم نقاشٌ واسعٌ عن حياد لبنان، فتتكثّف الإطلالات الإعلامية،وتكثر التصريحات،وتفُتحُ الصروحُ أمام المؤيدين للفكرة، وتفرِدُ الشاشاتُ مساحاتٍ كبيرةً للحدث، فيُثني سياسيّون ورؤساء سابقون ووزراء ونواب على فكرة الحياد التي لن نناقش فيها الآن، هل هي فكرة واقعية،موضوعية أم لا؟ وكيف يتمّ تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، بوجود الدولة العبرية؟ وكيف يمنع الحيادُ الاعتداءَ على الجنوب ولبنان في دولة تحتفل بمئويتها الأولى، وهي لا تستطيع تأمين الكهرباء لمواطنيها، ولا تستطيع لمّ نفاياتها من شوارع العاصمة؟ وبالتالي،ما هي واقعية الترويج لتوأمة لبنان مع السويد وسويسرا والنروج والدانمارك؟ والحياد عن مَنْ، وتحييد مَنْ؟ ولن نعلَق على محاصرة الشرعية، وسيطرة حزب على الحكومة والحياة السياسية، وعن تغيير وجه لبنان وثقافته وحضاراته ورسالته، وكل الخطابات في الأيام الماضية.ولذلك تفصيل يأتي زمانه.
ولكنني اليوم أرغب التركيز في قراءة الأهداف الكامنة وراء كل هذا الضحيج السياسي المفتعل. ما هي أسبابه؟ وهل أنّ إثارة موضوع موقع لبنان في هذا الوقت طبيعي؟
قد يكون طرح هذه الفكرة ترفًا في وضع عادي، يشهد فيه البلد استقرارًا اقتصاديًا، وفي منطقة تعيش حالة ستاتيكو، وليس هناك صفقة قرن، ولا مشروع لضم الضفة الغربية، وبالتالي إنهاء القضية الفلسطينية، ما يعني توطين تلقائي للاجئين الفلسطينيين في أماكن اللجوء. ولا يوجد أكثر من مليون نازح سوري في البلد كلّفوا الخزينة مليارات الدولارات، ويشكّلون قنبلة ديمغرافية واجتماعية في البلد الصغير. وأنّ العلاقة مع سوريا طبيعية، بقيصر أو من دون قيصر. وما هو هدف خلق ملف خلافي جديد بين اللبنانيين في هذا التوقيت بالذات، في ظل أزمة وجودية يمرّ بها الوطن، قد تدفع به إلى أماكن سيئة.
لماذا الراعي، وليس جعجع أو السنيورة مثلًا؟
ليس خافيًا على أحد أنّ السواد الأعظم من الطبقة السياسية التي تحكّمت في الواقع السياسي، والاقتصادي اللبناني على مدى أكثر من خمسين عامًا،تعيش اليوم مأزقًا كبيرًا. وأُسقِطَ في يدها، فلا أحدَ من اللبنانيين-إلا بعض المستفيدين- يستطيع حتى تحمّل تبريرات أحدٍ ممّن تسبّب في الانهيار الكبير للإقتصاد الوطني،وممن تدور حولهم شبهات كثيرة في تكديس الثروات والمليارات من المال العام. إذًا، دعونا نتفق على مسلّمة، وهي أنّ هذه المجموعة من السياسيين والاقتصاديين والمصارف والحاكم بطبيعة الحال، لا تستطيع مخاطبة اللبنانيين، أولًا، لأنها متّهمة بالفساد والهدر،وتضييع أموال اللبنانيين، ودمار البلد، وبالتالي فلا أحد سيهتمّ بما يقولونه، وفي المقام الثاني فإنّ هذه االمجموعة قد احترقت، وانفكّ الناس من حولها،ولو كابر البعض في التعمية والتضليل.
لذا، فإنّ خروج #البطرك_الراعي نفسه،وليس غيره، بنظرية الحياد اليوم،وتشكيل رأس حربة في الدفاع عن المجموعة، فلأنّه يمثّل مقامًا دينيًا، ليس سهلًا مهاجمته، أو الطّعن بما يقوله،لأنّه – بكرسيّه- وليس بشخصه، يمثّل مرجعية دينية عند مجموعة مهمة من اللبنانيين. لذا، فإنّ تصدّيه لهذه المهمة قد يُعتبر بمثابة الهجمة الأخيرة في مباراةٍ قد اقتربت من نهايتها.
-ماذا عن الأهداف؟
باعتقادي إنّ عددًا من الأهداف تريد هذه المجموعة تحقيقها، من خلال الترويج لنظرية الحياد التي يعلمون علم اليقين ألّا إمكانية لتطبيقها لأسباب كثيرة، وأنّ طرحها في بلد كلبنان هو لذرّ الرماد في العيون.فإذا كان الوضع بهذا السوء، فماذا عن الأهداف؟
-أولًا:
هم يعملون على استغلال الوقت المتبّقي من الحصار، لشدّ الخناق على لبنان بغية تطويعه واستسلامه، ونزع مصدر قوّته، وإعادته إلى زمن “قوة لبنان في ضعفه”. وقطع الطريق على أي إمكانية للخروج من الأزمة، والذي من الممكن أن يكون بعد انتهاء الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني نوڤمبر من العام الحالي، والرهان على تغيّر الإدارة الأميركية في البيت الأبيض.
-ثانيًا:
إلهاء الرأي العام وإشغاله في طروحات خلافية، وإثارة غبار التضليل حولها، للتعمية على الأزمة الاقتصادية المعيشية الاجتماعية،وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة،والتي تتحمل مسؤوليتها هذه المجموعةٌ نفسها، وهي معلومة معروفة عند اللبنانيين،والمجتمع الدولي أيضًا.
-ثالثًا:
حماية الطبقة السياسية -الاقتصادية- المصرفية من المحاسبة،ومن تحميلها المسؤولية عن الدمار الحاصل اليوم. وليس تفصيلًا أن يحيل #البطريرك_الراعي سبب الأزمة إلى تموضع بعض اللبنانيين في محور مقابل المحور الأميركي الصهيوني في المنطقة، وتحميل فئةٍ لبنانية مسؤولية “الخراب، والجوع والعوَز والشحادة، وجعل اللبنانيين يفقدون كرامتهم، وتضييع لبنان الرسالة”. لأنّ موقع البطرك الديني يشكّل حالة معنوية ليستْ صغيرة عند بعض اللبنانيين،ومن الممكن أن يسجَّل كموقفٍ تاريخي.
-رابعًا:
يهدف البعض، بالتناغم مع السفارة الأميركية من هجومه على مكوّن رئيس في لبنان،
أن يُفهِمَ الرأي العام أنّ “الفقر العوَز والقلّة والشحادة،وتدهور العملة الوطنية”، تتحمّل مسؤوليتها هذه الفئة لسببين أيضًا:
الأوّل: منع وصول ملفات الفساد التي يقدّمها الحزب إلى النهايات السعيدة، وإنّ تطويق هذا الملف وتجويفه وتسخيفه،يهدف في جزء مهم منه إلى ضرب سمعة الحزب وأمينه العام الذي وعد اللبنانيين بمحاربة الفساد.
الثاني: هو ضرب طوق حماية حول #حاكممصرفلبنان من إمكانية المحاسبة على كل ما اقترفه في الثلاثين سنة الماضية، إضافة إلى حماية الأنموذج المالي اللبناني المتمثّل في المصارف، التي يعتبرها البعض درّة تاج النظام اللبناني، التي تهاوتْ سمعتها، وانتهت عمليًا،وفقدتْ ثقة اللبنانيين والعرب، ودفع الأذى عنها، وعدم تحميلها أي جزء من كلفة الخسائر في أيّ حل قد تضعه هذه الحكومة أو غيرها..
-رابعًا:
استمرار الضغط على الحكومة عبر تكرار اتهامها أنها تقع تحت سيطرة الحزب، ومنعها من اتخاذ أي قرارات جريئة لحل الأزمات المستعصية من الكهرباء إلى النفط،ما سينهي احتكار رموز عزيزة من الطبقة السياسية لهذا القطاع الحيوي، وسحب البساط من تحت أقدامهم. إضافة إلى منع الحكومة من التوجه شرقًا عبر ترويج سردية أنّ هناك فئةً لبنانية تريد تغيير وجه لبنان الثقافي والحضاري إذا توجهت الحكومة شرقًا، ما يعني إعادة لبنان إلى زمن التخلف، سيحصل كل ذلك إذا ما تمّ الاتفاق مع الصين على مساعدة لبنان في بنيته التحتية، وفي بناء معامل كهرباء، وسكك الحديد والمترو والأنفاق، والانتهاء من ملف النفايات، وتنظيف نهر الليطاني وغيرها. وبعد استبعاد الصين والعراق، يصبح عندئذٍ مجرد التفكير في التعاون مع إيران في الموضوعات الاقتصادية، وفي موضوع الدواء وغيره خيانةً وطنية، لا يتحمّل أحدٌ التفكير فيها.
لذا، فإنّ استراتيجية “الضغط المستمر” ووضع الحكومة دائمًا في قفص الاتهام، يكبّل عملها، ويمنع وزراء من مجموعة معيّنة من التماشي مع هذه القرارات مخافة رمي الحرم عليهم، ورفع الغطاء الطائفي عنهم. ما يحقّق عمليًا أهداف الأميركي من الحصار.
-خاتمة
يعلم #البطرك_الراعي وغيره، أنّ الفشل الذي أصيب به النظام اللبناني من المستحيل إصلاحه، وأنّ كل محاولات رمي الاتهام على الآخرين،والتعمية الواضحة والمكشوفة على المسؤول عن انهيار البلد، وترقيع النظام الفاشل هي محاولات يائسة، ولن تؤدي إلا إلى زيادة الخراب،وبالتالي التوجه الى مرحلة جديدة من تاريخ #لبنان.
ملاحظة أخيرة: لماذا يصمت بعض حلفاء الحزب، ويثني بعضهم الآخر على فكرة الحياد، وهم الذين يريدون منه فقط أن يدعم أحدهم في وجه الآخر من أجل الوصول إلى حقيبة وزارية أو إلى رئاسة الجمهورية؟
*كاتب و محلل سياسي